كاريان باشكو…”كان هنا”

عملية ترحيل استغرقت ربع قرن وسط تعثرات العائلات المركبة والسكان الجدد والخيارات المتنوعة مسجد وأتربة وأكوام حجارة، هذا كل ما خلفته جرافات "العمران" وقرارات الإفراغ الجماعية بباشكو، أحد أكبر كاريانات البيضاء، الذي يتذكر سكانه القدامى حكاياته مع مقاومة المستعمر الفرنسي، ويروون قصص آبائهم في محاولة فاشلة لمقاومة قرار الإفراغ واستمداد الأحقية في الاستفادة من أفضل الخيارات التي تضعها أمامهم السلطة لإخلاء الدوار."هنا ضربوا أمي برصاصة.."، "هنا كنا نلعب الغميضة"،...وغيرها من الذكريات التي فتح السكان خزائنها وهم يقاومون، إلى حد استنزاف آخر ذكرى، جرافات الهدم وهراوات قوات التدخل السريع التي رابضت في المكان تحسبا لأي مواجهة، قبل هدم آخر براكة من بين أزيد من 1800 أخرى سويت بالأرض ويستسلم المرحلون، وتشرع شركة "العمران" في وضع اللمسات الأخيرة على تصاميم مشروع يعد المنطقة بأكبر مجمع اقتصادي، بعد أن كان واحدا من أكبر مجمعات السكن القصديري.يتنفس أحمد القادري، رئيس مقاطعة المعاريف، الصعداء، قبل أن يتحدث عن تفاصيل القضاء على دوار حاول المسؤول الجماعي، قبل 36 سنة أن يطوي صفحته، وكانت العوائق تنتصب أمامه سواء "حين كنت على رأس الجماعة أو وأنا برلماني يطالب من داخل قبة البرلمان بسياسة حكومية تسوي وضعية السكان وتقضي على دوار باشكو". دوار وسط الفيلات إن كانت أغلب كاريانات العاصمة الاقتصادية تقع في الهوامش فإن باشكو، على خلافها جميعا، يقع وسط الأحياء الراقية وعلى بعد بضع خطوات من الطريق السيار، "موقعه حساس جدا، لذلك كان يجب أن نجد بديلا للسكان وأن نجد طريقة لإدراجه في السياسة الحكومية، إذ لم تكن الجماعة تتوفر على إمكانيات محاربته".عدد البراكات في باشكو سنة 1984 لم يكن يتجاوز 1230، ورغم ذلك كانت البراكات تتناسل أمام أعين السلطة المحلية، قبل أن يفطن الجميع إلى أن باشكو يزحف على المساحات المجاورة، والأسرة النووية تحولت إلى عائلة متفرعة، تزوج الابن الذي كان إلى وقت قريب يلعب الكرة في أزقة الكاريان الضيقة، وحظيت البنت التي كانت تعانق الدمية، بابنة تمشط شعرها وتزين ملابسها بالفراشات، وما عاد إحصاء 1984 معيارا من معايير الترحيل الأساسية، "نجحنا في نقل 500 أسرة، استفاد بعضها من شقق في المنطقة نفسها، وهم من الأسر التي كانت لديها إمكانيات لأداء مساهمة مالية محددة، أما الأسر التي كانت حالتها الاجتماعية هشة جدا فنقلت إلى شقق أخرى بسيدي معروف، لكن المفاجأة هو أننا قد نعتقد أنفسنا أمام 700 براكة، والحال أننا اصبحنا أمام رقم مهول".لم تتوقف آلة الترحيل عن الدوارن، إذ عقدت المقاطعة مع وزارتي الداخلية والمالية اتفاقية تم بوجبها ترحيل مجموعة من الأسر، "كان الرهان توفير عقار لإنجاز مشروع ضخم يضم محطة طرقية ومنطقة صناعية، وهذا ما كان سيتضمنه تصميم التهيئة الذي كان سيصدر في سنة 1989، لكن مع ظهور العائلات المركبة لم يعد الأمر ممكنا، إذ علينا أولا أن نجد حلا لهذه الأزمة قبل التفكير في المشروع المناسب" يسجل القادري، قبل أن يضيف "طالبت بإعادة النظر في المشروع وتعديل التصميم وفعلا استجابت وزارة الداخلية وحولت المشروع إلى عقار مخصص لعمارات من ثلاثة طوابق قبل أن تتحول إلى أربعة طوابق، ليتسفيد السكان من شقق تتوفر فيها ثلاث غرف، قبل أن نصطدم برفضهم، فالجميع يرغب في شقق بعدد غرف أكبر". الدوامة... تعطلت عملية الترحيل، وفي المقابل لم تتعطل وتيرة تزويج الأبناء وإنجاب أحفاد وبالتالي تزايد عدد الشقق المطلوب الاستفادة منها، "الحل كان يكمن في تعديل 1999 الذي أدى إلى تقليص مساحة الشقق، لتكون الاستفادة أكبر". ولم يكن حتى هذا الحل ليناسب سكان الكاريان الذين رفعوا الشعارات الساخنة ضد السلطة المحلية وهتفوا ب"التواطؤ" و"المؤامرات" و"الإقصاء" و"الرشاوي"، وكل ذلك كان بمثابة حجر عثرة في طريق عملية الترحيل. "كان علي أن أجري اتصالا بالوالي القباج لأشرح له المشكل، ليستفسرني عن العوائق التي تحول دون إيجاد حل مناسب لكاريان باشكو، فأجبته أنها العائلات المركبة والمساحة التي تقلصت والثمن الذي كان آنذاك يتراوح ما بين 11 إلى 12 مليون وجميع الأسر فقيرة، لذلك اقترحت عليه خيارين أولهما استفادة السكان من شقق أو إعداد تجزئات تضم بقعا للمستفيدين لتغطية حاجيات العائلات المركبة، وتخصيص بقعة لكل عائلة بعدد الأسر النووية". لم تمر إلا مدة قصيرة حتى استدعي رئيس المقاطعة إلى مقر ولاية الدار البيضاء، "أخبرت أنه سيتم تخصيص بقع في حي الرحمة لفائدة سكان باشكو، ولأن الوعاء العقاري لن يكون كافيا لتستفيد كل عائلة من بقعة تصل مساحتها إلى ما بين 70 و80 مترا مربعا قررنا أن يكون نصيب كل عائلة نصف بقعة على أساس أن تضم البقعة طابقين، وذلك مقابل مساهمة مالية قدرها 15 ألف درهم، فيما يصل ثمن المحلات التجارية إلى 25 ألف درهم".لم تكن البقع هي الخيار الوحيد الذي عرض على السكان في استمارات طلب منهم تعبئتها، بل ضم أيضا تعويضا ماليا قدره 100 ألف درهم أو شقة أو بقعة أرضية، إذ كشفت التحريات أن مجموعة من الأسر كانت تبيع براكاتها بطرق ملتوية مقابل مبالغ مالية تصل إلى 80 ألف درهم، فاختار المسؤولون أن يكونون المشترون لها بطريقة واضحة عوض أن يقع التلاعب في البراكات ويظهر من جديد مشكل الأسر الجديدة والقديمة لتربك حسابات السلطة وإحصاءاتها. "الأغلبية اختارت البقع ودخل مقاولون على الخط لبنائها مقابل الاستفادة من شقق مجانية، وذلك على أساس إفراغ البراكة بعد التوصل إلى الاتفاق، واختيار الحل المناسب لكل أسرة، ومنهم من كان المقاولون يؤدون عنهم كراء شقق إلى غاية إتمام أشغال البناء" يؤكد المسؤول الجماعي نفسه. وكأنها تدور في دوامة خرجت السلطة لإحصاء عدد المستفيدين، فكان الرقم مهولا، إذ انتقل من 700 براكة إلى 1820 براكة، ولم تكن العائلات المركبة تتحمل المسؤولية وحدها، بل ايضا السلطة التي غضت الطرف عن بناء براكات جديدة ليمتد باشكو إلى آخر حدوده ويتجاوزها إلى أراض أخرى. انخرطت جمعيات المجتمع المدني ومكاتب دراسات والسلطة المحلية، ولعب مقران لحزبي الاتحاد الاشتراكي والاستقلال دورا كبيرا في تأطير السكان لتفادي أي اصطدامات مع السلطة، "كان التجاوب سيد الموقف، رغم أن ظهور شكايات تشير بأصابع الاتهام إلى بعض أعوان السلطة، وتؤكد تورطهم في إدخال مجموعة من الأسر التي لا يحق لها الاستفادة وإقصاء أخرى كانت تقيم في الكاريان منذ سنوات طويلة، لكن قلنا لهم ضعوا شكاياتكم وسنبحث فيها، خاصة إذا كانت دقيقة وليست كلاما عاما" يقول القادري. فيما يعتبر فاعل جمعوي من المنطقة أن الإكراه وحده جعل العائلات تواقف، "لولا أننا كنا نعلم أن الإفراغ سيتم بالقوة، وأن من تخلف منا يتم تعويضه بدخلاء، لما تركنا الكاريان إلى حين إنصاف الجميع".النتيجة كانت مرضية لرئيس المقاطعة، "طبعا فقد انزاح هم كبير وتجاوب عدد كبير مع اختيار البقع رغم أن بعضهم اعترض على موقعها، إذ أكدوا أن مدينة الرحمة بعيدة، لكن ما أن حلوا بها حتى علموا أنها ليست مجرد حي، بل مدينة حقيقية تتوفر فيها مختلف المرافق".90 في المائة تجاوبت وبقيت 10 في المائة نفضت الغبار عن اللافتات القديمة ورفعت الأعلام الوطنية وصور الملك ورددت مطلب الإنصاف وفتح تحقيق ومحاسبة المتورطين، "كنا أمام وضع شائك، فوضعية أغلبهم هشة، لذلك فكرنا في دعم الذين يستحقون منهم الدعم، وإجراء قرعة تحدد نوعية استفادتهم، ووجدنا أن هذه الأسر تنتمي إلى محيط العائلات المستفيدة، لكنها أحضرتها من مناطق أخرى بغرض الاستفادة". ضحى زين الدين

كاريان باشكو…”كان هنا”

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

العنف المدرسي يربك مخططات الوفا

إحالة أزيد من 1900 جثة على مركز الطب الشرعي بالبيضاء

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات