دفاتر التحملات… دروس وعبر

الصباح تنشر تفاصيل اندلاع معركة دفاتر تحملات التلفزيون العمومي صيغت دفاتر تحملات للتلفزيون العمومي في 2006 ومرت بشكل هادئ وسلس. وفي 2009 صيغت دفاتر أخرى لا تختلف عن سابقاتها، ساهمت فيها لجن مشتركة أهمها ممثلو التلفزيون العمومي ووزارة الاتصال، فلم ينتبه إليها أحد ومرت في هدوء تام. في 2012 شكلت دفاتر تحملات الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزيون وزميلتها صورياد دوزيم الحدث الإعلامي والسياسي الأبرز ضمن الأشهر الأخيرة، وكادت تتحول الأمور إلى ما لا يحمد عقباه بعد أن كثر التهديد بالخروج إلى الشارع، ولي الذراع بعودة "الربيع العربي"، وتعالت أصوات لم يخرسها سوى التحكيم الملكي في الموضوع. ما الذي جعل كنانيش تلفزيونية عادية تأخذ كل هذا الحجم السياسي؟ وماذا تخبئ كواليس الصراعات الخفية والدسائس التي جمعت الحكومة شبه الملتحية والهيأة العليا للاتصال السمعي البصري ومسؤولي الإعلام العمومي؟ "الصباح" تستشف الدروس وتكشف دسائس وأسرار الاقتتال بين الإخوة الأعداء. قبل انفجار معركة دفاتر التحملات كانت تجري تراشقات كثيرة، ويسود توتر متصاعد بين مسؤولي الإعلام العمومي ووزير الاتصال مصطفى الخلفي. خصوصا مع القناة الثانية وجبهة الممانعة التي تقودها سميرة سيطايل على وجه خاص. ويجب التنبيه إلى أن المعركة قديمة جدا وتمتد جذورها إلى أيام تخندق حزب العدالة والتنمية في المعارضة.النقطة التي أفاضت الكأس وأشعلت فتيل الحرب لها حكاية سرية لا يعرف تفاصيلها سوى قلة قليلة. كانت البرمجة عادية، في تلك الليلة، القناة الثانية تقدم تسجيلا لعرض الفكاهي الجزائري عبد القادر السيكتور ضمن مهرجان مراكش للضحك. كان العرض ناجحا واختطف سيكتور الضحكات والقهقهات وهو يحلف الأيمان بلازمته، "أقسم بالله". في تلك الأثناء كان مصطفى الخلفي أمام التلفزيون ينظر إلى الشاشة بحذر. وكان "السكيتش" الذي قدمه السيكتور حول أغنية الراي التي ملأت أركان مسجد بعد أن نسي أحد المصلين إخراس هاتفه المحمول كافيا ليفقد وزير الاتصال في الحكومة الملتحية صوابه.اتصل وزير الاتصال بالكاتب العام للوزارة، الذي اتصل بدوره بفيصل العرايشي، مدير القطب العمومي، ونقل إليه سخط الخلفي الذي اعتبر أن "سكيتش" السيكتور إهانة للدين الإسلامي و"يلزم رئيس القطب العمومي تقديم اعتذار رسمي للمغاربة على شاشة التلفزيون".لم يأبه العرايشي لأوامر الخلفي التي اعتبرها غير مبررة وبلا أدنى سند، واتصل بأحمد الغزلي، رئيس الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري آنذاك، الذي طمأنه بأن عرض السيكتور ليس فيه أدنى خرق للقانون، أكثر من هذا "قطرت سيطايل الشمع" على الخلفي عندما أعادت بث العرض الفكاهي مرة أخرى، كما استضافت القناة الثانية الفكاهي الجزائري طيلة شهر رمضان الذي يشهد متابعة ونسب مشاهدة قياسية على شاشتها ضمن الجزء الثالث لسلسلة "ديما جيران"، وكبسولة "الديوانة" رفقة حسن الفذ.اشتد الصراع وتصلبت الشرايين وحمى وطيس المعركة فكان ما كان. واليوم بعد مرور العاصفة يمكننا أن نستشف مجموعة من الدروس وتأخذ العبر تعلم ثقافة سياسية مؤسساتية للتعامل مع حكومة منتخبة في 2006، صيغت دفاتر التحملات في عهد حكومة معينة هي حكومة ادريس جطو. ثم في 2009، صيغت دفاتر جديدة في عهد حكومة عباس الفاسي التي كانت حكومة فسيفسائية اجتمع فيها ما تفرق في غيرها. فكانت في كلا الحالتين وفي عهد الرجلين وثيقة تقنوقراطية لها طابع إداري محض، إذ لم تقدم أي قيمة مضافة باستثناء مأسسة الممارسات الإعلامية التي كانت متبناة قبل تحرير قطاع السمعي البصري مع إضافة بعض نكهات أو بهارات الشعارات الرنانة، إذ تحدثت دفاتر التحملات عن اللجنة الاستشارية لأخلاقيات البرامج بالقناتين التي لم تر النور قط.أما في عهد الحكومة الملتحية، فإن الحكومة سياسية ومنتخبة، ولها برنامج حكومي مستمد من قاعدتها الانتخابية التي دفعت بها من الصندوق الى كرسي الحكم، وبالتالي فعندما تصوغ دفاتر التحملات على اعتبار أنها أول ملف هيكلي تشتغل عليه، من الطبيعي أن تنزل فيه شيئا من برنامجها الحكومي المصادق عليه داخل البرلمان والمسنود بشعبية الشارع.التعامل مع الموديل الأول يجب أن يكون مختلفا تماما عن قواعد التعامل مع الموديل الثاني الذي له أصوله وخصائصه ومفاتيحه أيضا. وتشير "أدبيات الإخوان" في "العدالة والتنمية" إلى أن ما حدث من رد فعل في معركة دفاتر التحملات شبيه بتأثير المصل الذي يهدف إلى خلق الحماية والمناعة، لكنه في الآن ذاته يعطي أعراض الحمى والهذيان قبل أن تظهر فوائده لاحقا. إلا أن الأمصال يمكن أن تكون مدمرة أيضا ويصبح طموحها أكثر مما هو مدون في "نشرة الاستعمال". الهاكا... محاولة فاشلة لانتحار القانون لم يتردد المجلس الأعلى للاتصال السمعي البصري طويلا في المصادقة على دفاتر التحملات التي قدمت له من الحكومة في مارس الماضي في عهد الرئيس أحمد الغزلي ومديره العام نوفل الرغاي بل منحتها تأشيرتها دون تعديلها أو المساس بها لأن الهيأة العليا كانت تعرف جيدا حدودها. فالقانون يمنح لها اختصاصا يتيما اسمه المصادقة أو عدمها في حالة إذا ما كانت بنود دفاتر التحملات تتضمن خرقا للقوانين الجاري بها العمل. فصادقت بسلاسة لأنه لم يثبت هناك خرق.بعد الضجيج الذي أثير حول الدفاتر والتنقيح الطفيف الذي خضعت له بعض البنود عادت الكنانيش إلى المجلس من جديد بعد قطع رأس أحمد الغزلي ونوفل الرغاي. وتلكأ المجلس طويلا، تقريبا بالأعضاء أنفسهم، في المصادقة على الدفاتر التي صادق عليها في مارس، بل رفض أن يبايع الدفاتر بيعة غير مشروطة، فدفع مقترحات الى رئيس الحكومة الذي رد بعنف، بل أعطاه دروسا في القانون، ففشلت محاولة جر "القانون إلى الانتحار" وانتهى الأمر بتجديد أعضاء المجلس المتعنتين للولاء التام لنسخة بنكيران التي عدلتها أصابعه دون أن تنوب عنها أصابع غيره. عودة الشيخ الى صباه صرح محمد الطوزي، أحد أعضاء لجنة صياغة مشروع الدستور، "أن الدستور مثل قصيدة شعر يمكن أن تقرأ قراءات متعددة". وعلى ما يبدو فإن أعضاء المجلس وجدوا في دسترة الهيأة بيتا شعريا يحتمل هجاء جرير كما مدح المتنبي. فتملكهم شيء من حمية جاهلية ما قبل الدستور، واعتقدوا في لحظة من اللحظات أن دسترة الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري قد تدفعهم الى الارتقاء بمهامهم لتصل الى حدود القفز، بزانة أو بدونها، على عارضة القانون، للسقوط في الحديقة الخلفية للحكومة.هذه القراءة سرعان ما ظهر عدم وجاهتها بعد أن رد رئيس الحكومة الاعتداء بأحسن منه من خلال رسالة نارية مسنودة بالقانون. وفجأة استيقظ أعضاء المجلس من أحلام اليقظة، ليعود شيوخ المجلس وحكماؤه إلى رشدهم، واكتشفوا ان دسترة الهيأة مقرونة بضرورة صدور قانون جديد ينظمها، تسنه الحكومة ويصادق عليه البرلمان، وهو ما أدرج في المخطط التشريعي للحكومة سنة 2013. تعددت القراءات والتحكيم واحد عندما استدعى الملك محمد السادس، كلا من رئيس الحكومة عبد الإله بنكيران، ومصطفى الخلفي، وزير الاتصال، وعبد الله باها، وزير دولة، على عجل إلى الإقامة الملكية بعين الذياب بالدار البيضاء، في يوم أحد، بعد اندلاع أزمة دفاتر التحملات الأولى، سكتت الحكومة عن مضمون التحكيم، وانقسم الرأي العام بين من رأى في تحكيم صاحب الجلالة مساندة للحكومة، وبين من رأى فيه تحذيرا وتنبيها لها. فصار كل يغني على "ليلاه" بما يحكم أجندته السياسية والإعلامية وحتى المالية. فأسس بنكيران لجنة وزارية جمع فيها كل الحساسيات الحكومية، وحضر تعديلات شملت موادا قليلة لا تأثير هيكليا أو جوهريا لها على البناء العام للدفاتر، وبذلك اكتسب الإجماع الحكومي الغائب في النسخة الأولى وتدارك أخطاء التدبير الأولى وأعاد الكرة الى الهاكا. وعندما تماطلت الأخيرة في المصادقة بمبرر أن التعديلات قد لا تعكس بالضرورة توجيهات التحكيم الملكي، دفع بنكيران رئيس اللجنة الوزارية نبيل بن عبد الله، وزير السكنى وسياسة المدينة، إلى القيام بخرجة إعلامية موزونة، ومحدودة في الزمان والمكان، وفي عدد الصحافيين المدعوين إليها، للتأكيد أن التعديلات التي أدخلت على دفاتر التحملات استجابت لتوجيهات التحكيم الملكي وجنبت المغرب انقساما مجتمعيا أشبه بمعركة مدونة الأسرة.وقال بنعبد الله، نهاية شتنبر الماضي، في حديث لـ"الصباح"، "الحمد لله أننا حافظنا على الدور التحكيمي للمؤسسة الملكية في الدستور"، مضيفا أن التحكيم الملكي جنب المجتمع مخاطر صراعات وانقسام كان في غنى عنها، بسبب الجدل الذي أثارته دفاتر التحملات، منبها إلى أنه كان بالإمكان أن تنزلق الأمور نحو الأسوأ، وتقسم المجتمع إلى نصفين، على غرار ما وقع مع مشروع الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية.وأبرز بنعبد الله أن لجنة مراجعة دفاتر التحملات تطرقت، مباشرة بعد تشكيلها، إلى صلب الموضوع، إذ انكبت على معالجة المسائل الخلافية، خاصة تلك المتعلقة بالسياسة الإخبارية والأمازيغية والبرامج الدينية والإنتاج والانفتاح اللغوي والتعددية. ووصف المسؤول الحكومي المشروع الذي أعده مصطفى الخلفي، وزير الاتصال الناطق الرسمي باسم الحكومة، بالعمل الجاد والجيد رغم وجود مكامن الخلل، معتبرا أن الحكومة تعاملت بذكاء حينما قررت مراجعة المشروع. لقد أعطى بنكيران، عن طريق بن عبد الله، تطمينات تشبه التهديد. حينها، فقدت الهيأة بوصلة القرار، وأصبحت ك»مراة المنحوس... ما هي مطلقة، ما هي عروس». وفهمت أخيرا أن التحكيم الملكي واحد، ولا مجال للتنازع حول قراءاته، وتأويله والمس بجوهره المبني أساسا على عدم الانتصار لطرف على حساب آخر، وإنما انتصار لقيم مجتمعية مشتركة بين كل مغاربة. الفتنة تقطع من رأسها عندما تأخرت الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري في المصادقة على دفاتر التحملات، قيل إن ثمة احتمالا لتصادم محدق بين مؤسستين دستوريتين هما الهاكا والحكومة حول أمر بسيط، بمعنى «المندبة كبيرة والميت فار». فهل من المعقول أن تتصادم مؤسستان دستوريتان بسبب «كنانيش» لا تعدو أن تكون أقل شأنا من أي وثيقة إدارية. ولفت اندلاع الحرب إلى وجود أقوام أخرى في الوغى، لا تسكن بالضرورة في الحكومة ولا في الهاكا، تبحث عن هذا التصادم لإعادة رسم الحدود المفترضة بين مجال تحكم الحكومة، ومجال تدخل مؤسسات الحكامة، إما لتصفية الحسابات المزاجية مع بنكيران التي لا علاقة لها بالفكر المؤسساتي الذي ما فتئ جلالة الملك يشدد عليه من خلال تركيزه في أكثر من مناسبة على ضرورة ضمان علاقات سليمة ومسؤولة بين المؤسسات الدستورية. التلفزيون قطاع سيادي لعل أهم ما نجح فيه الخلفي منذ توليه منصب وزير الاتصال، (عن قصد أو غير قصد) إثارته موضوع الإعلام السمعي البصري وجعله موضوعا جوهريا للنقاش يدلي فيه الجميع بدلائه.والملاحظ أن هذا النقاش زاغ في البداية عن هدفه الأساسي وتطرقه إلى القضايا الكبرى والاستراتيجيات العامة، ودخل في البوليميك والمزايدات السياسية حول الأذان والقمار... وأشياء أخرى هامشية، وإن كانت معبرة وكاشفة عن بواطن الأمور، قبل أن يعود إلى الإستراتيجيات الكبرى وطرح أسئلة جوهرية. إن التلفزيون ليس قضية سياسية فحسب، ولا رهانا للتجاذب وربح المكاسب الصغيرة والكبيرة، بل هو أولا وقبل كل شيء حرفة لها ناسها ومهنيوها ومحترفوها، ومن غير المعقول ترك التلفزيون "ليعبث فيه" السياسي على حساب المهني.لقد كان قانون الاتصال السمعي البصري (03 - 77) واضحا في هذا المجال ولم يترك مجالا للالتفاق عليه وتحدث في فصوله المتعددة (المادة 47 و51 و52 و54...) عن الدولة كفاعل أساسي ومحوري حتى يقطع الطريق أمام التأويلات السياسوية أو المذهبية أو الحزبية، لأن الحزب أو الحكومة فانيان، أما الدولة فقائمة ومستمرة.لقد كان المشرع فطنا وعلى وعي بأن التلفزيون مرفق حيوي وليس عنادا سياسيا. التلفزيون ملك المجتمع ولا أحد له الحق في أن يتحدث باسمه وبما يريده. هل قمنا بدراسة حقيقية لمعرفة احتياجات المغاربة التلفزيونية؟ هل مصطفى الخلفي أو ماروك ميتيري وكل من يشرع فمه بما يريد المغاربة وتلفزيون المغاربة... يعرف حاجات المغاربة الحقيقية؟القنوات العمومية لا تعكس قناعات حكومة أو حزب بل تنفذ سياسة الدولة التي تعبر عنها جميع مكونات المجتمع المغربي: الملك والبرلمان والحكومة والرأي العام والصحافة والمجتمع المدني... والخلط الذي وقع للخلفي بين تصور الدولة للإعلام وتصوره الحزبي للتلفزيون ساهم في خلق الزلزال الذي هدد بالانقسام داخل المجتمع وداخل الائتلاف الحكومي الهش.لقد تضمنت دفاتر التحملات بنودا مهمة لم يتم الالتفات إليها تخص الحكامة والشفافية، أو ربما هي أهم ما جاء فيها، إلا أن الحكامة والشفافية اختلطت بلبوس السياسة، وعانقت دفاتر التحملات البرنامج السياسي لحزب العدالة والتنمية. فالمشروع المجتمعي مستمر في الزمن بغض النظر عن الحكومات المتعاقبة. فإذا كانت الحكومة تكتب دفاتر التحملات فإن المشروع المجتمعي يكتبه المجتمع، وتكتبه الدولة بجميع مكوناتها. الإجراءات الوظيفية تقوم بها الحكومة، أما الدولة فتتحدث عن الجوهر والسياسات الكبرى.إن أزمة الخلفي مع الرأي العام والمهنيين وداخل الحكومة تكمن في أنه لم يضع أمام عينيه السلطة المضادة التي برزت بقوة، ولم يترك لنفسه نقطة للعودة، كطارق بن زياد عندما أحرق جميع بواخره على سواحل إسبانيا. فالمتحول هو الحكومة والثابت هو الدولة. الدرس الأخير بدأت قصة دفاتر التحملات بمجرد أن كتب مصطفى الخلفي أول جملة في أوراقها، لكنها لم تنته بمصادقة الهيأة، الاثنين الماضي، بل انتهت يوم الجمعة الماضي عندما افتتح الملك الدورة الخريفية للبرلمان ودعا في خطابه الى ضرورة سن قوانين جديدة، وتمكين مؤسسات الحكامة، ومن بينها الهيأة العليا للاتصال السمعي البصري، من تحديد مجال اشتغالها بوضوح في إطار المهام المخولة إليها بعد أن أكد أنها وصلت مرحلة النضج، وهذا ما يفسر، في آخر المطاف، أن قرار المصادقة انتصر لهذا النضج وتخلى عن الاصطدام. إعداد :جمال الخنوسي

دفاتر التحملات… دروس وعبر

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الراضي يجدد اعتذار الاتحاد للأمير مولاي هشام

الداودي: لا أتلقى تعليمات من أحد

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات