الملاح…حي وسط الرباط مهدد بالانهيار

أقامت به عشرات الأسر اليهودية مازال أفرادها يترددون على الحي للذكرى في الملاح، وسط العاصمة الرباط، كل شيء يغري بالتجول للتعرف على هذا الحي الذي يحيط به سور من جهة ضفة نهر أبي رقراق، وآخر من جهة شارع الحسن الأول. الملاح من أحياء المدينة العتيقة للرباط، وجزء من ذاكرتها التي ستظل منقوشة إلى الأبد، لكنه بين هذا وذلك، فإنه يتخبط في مشاكل لا تحصى، منازل آيلة للسقوط، شباب يعاني العطالة، مخاطر بيئية حقيقية، أما الحركة الاقتصادية وسط الحي، فتكاد تصاب بالشلل، بسبب غياب مشاريع تشغل أبناءه، وحين تتهاطل الأمطار، يصبح الملاح قاب قوسين أو أدنى من الاندثار... تعايش دينيالتجول وسط الملاح بالرباط ممتع، المكان يفتح للزائر متعة التنقل بين أزقة الحي الذي عرف على أمد طويل بأنه حي "اليهود". تزامن إنجاز هذا التحقيق مع قدوم فوج من اليهود المغاربة لديهم ارتباط وثيق بالحي. رجعوا بعد غياب طويل لتفقد المكان الذي ترعرعوا بين أزقته، بل وعاشوا فيه أجمل الذكريات. العارفون بأسرار الملاح في الرباط يعرفون جيدا العلاقة التي كانت تربط أسرا مسلمة بيهود الحي. كانت علاقات مبنية على الاحترام وحسن الجوار، إذ أن عددا من السكان مازالوا يحتفظون في ذاكرتهم "رواسب" ماض عاشوه بجوار جيرانهم اليهود، إلى درجة أنهم يحفظون عن ظهر قلب عاداتهم، ويفقهون تقاليدهم وطقوسهم، وحتى طريقة عيشهم الخاصة.عرف حي الملاح بالرباط، شأنه شأن باقي أحياء الملاح في مدن عتيقة أخرى، بارتباط اليهود المغاربة به. عائلات يهودية أخذت من الملاح مستقرا لها، ربت أبناءها به، والآن، رغم رحيلهم، تتقاطر أفواج منهم بين الفينة والأخرى على الملاح، حيث عاشوا سنوات طويلة. هناك من باع ممتلكاته، وتخلص منها لفائدة جيرانه، ويقتصر على الزيارة التفقدية للمكان وزيارة الجيران والمعارف الذين مازالوا على قيد الحياة. وهناك من فضل أن يبقي على ممتلكاته داخل الملاح، خصوصا الواقعة في باب الديوانة (البوابة المقابلة لمصلحة الجمارك)، ويضعها رهن إشارة مكترين، حتى يتسنى له استمرار الصلة بالملاح. علاقات إنسانية ما يطبع العيش داخل حي الملاح بالرباط، تلك العلاقات الإنسانية والاجتماعية التي أخذت تمتد في كل أنحائه. عائلات تتعارف في ما بينها، وشباب نشؤوا، وأصبحت تربطهم صداقات، فكل من خرج من بيته في حي الملاح، يجد نفسه منخرطا في سلسلة تبادل التحية والسلام. ومازال يلمس وسط حي الملاح دفء العلاقات الإنسانية التي ميزت عددا من المدن القديمة. الشباب في خدمة الشيوخ، والصغار يحترمون الكبار ويحرصون على أن يكونوا عند حسن ظنهم سواء أثناء اللعب أو عند عبور الزقاق، لأن العيش وسط المدينة العتيقة له مميزاته التي تختلف عن العيش خارج الأسوار. وكل من خاض التجربة يلمس الفرق، ويقف على ما أصبح يعرف ب"ثقافة العيش داخل الأسوار". خطر السقوط أول شيء يلفت الانتباه داخل الملاح، وجود عشرات المنازل آيلة للسقوط، بل منها من سقط وأصبح بمثابة "خربة"، تحولت في لمح البصر إلى "مزبلة" ترمى فيها فضلات البيوت. ولا حديث وسط سكان الملاح إلا عن البيوت المهددة بالانهيار في أي لحظة، وما يمكن أن ينتج عن هذا الحادث من خسائر بشرية ومادية. والغريب في الأمر أن أغلب أصحاب البيوت المهددة بالسقوط، إن لم نقل كلهم، يرفضون رفضا قاطعا أن يبرحوا منازلهم، حتى لو وصل الأمر إلى انهيارها. إصرارهم وعزمهم لا يترك مجالا للشك أو الريبة، إنهم لن يخرجوا من منازلهم، حتى لو بلغ الأمر لا قدر الله إلى سقوطها فوق رؤوسهم، وكأنهم مقتنعون أيما اقتناع، أن الحل لا يكمن في مغادرة البيوت المهددة، بل أن تتدخل السلطات المعنية، وتصل إلى ما يمكن أن تنقذ به الوضع. الأرقام التي يحفظها سكان الملاح عن ظهر قلب بشأن الميزانية المخصصة للترميم وإعادة البناء ضخمة، فمجلس مدينة الرباط سبق له أن خصص حوالي 300 مليون سنتيم، لإعادة الترميم وسط المدينة العتيقة برمتها، إلا أن هذا الغلاف ظل حبرا على ورق بالنسبة إلى سكان الحي، حيث توجد عشرات من المنازل مهددة بالانهيار، فيما تحول 14 منزلا إلى "خربة"، تطرح فيها الأزبال. مصالح معطلة جميع الخبرات التي أنجزت وسط الملاح أكدت أن عشرات المنازل مهددة بالانهيار في أية لحظة. ومقابل التماطل في معالجة هذا الأمر، يوجد إصرار قوي لدى السكان بأن الحل لا يكمن في مغادرة البيوت والبحث عن مستقر جديد. مواطنون عاشوا بين أحضان الملاح، عشرات السنين، صعب عليهم الانتقال للعيش في مكان آخر، ثم إن الوضع الاجتماعي لأغلبية سكان الحي لا يسمح بأي انتقال أو ترحال. وينتظر سكان الحي تحقيق الوعود التي أطلقتها وكالة تهيئة ضفتي أبي رقراق التي أسندت إليها مهمة تسيير شؤون الملاح. ويكاد يجزم مصدر من الحي أنه لا يوجد أي أحد في المنطقة تمكن من الحصول على رخصة لإصلاح مسكنه أو لبيعه، منذ أن أحكمت الوكالة قبضتها على الحي منذ أزيد من سنتين، فجميع الرخص متوقفة، ومستقبل الحي في كف عفريت، إذ لا أحد يستوعب "المخطط المستقبلي" للوكالة في الحي. هناك مجرد كلام في كلام يطلق خلال المناسبات، ما يجعل السكان، المقدر عددهم بنحو 5 آلاف شخص، في حيرة من أمرها، إذ كيف يعقل أن تتعطل مصالح مواطنين، وتتوقف كافة المشاريع لا لسبب سوى أن المنطقة تدخل في نطاق تهيئة ضفتي نهر أبي رقراق. والغريب في الأمر أنه رغم اللقاءات التي عقدت لمعرفة مستقبل ومصير مشاريع حي الملاح، لم يتم الكشف عن ما تنوي الوكالة القيام به. ومقابل الضغط الذي يمارس من هنا وهناك على السكان، خصوصا الذين توجد منازلهم في وضعية حرجة، فإن باب الريبة يبقى مفتوحا على مصراعيه. المعلومات التي حصلت عليها "الصباح" من خلال الزيارات التي قامت بها إلى الحي والآراء التي استقتها من هناك، تفيد أن الغموض يلف الخطة التي تعتزم الوكالة نهجها في الحي، كما في باقي أحياء المدينة القديمة، ما دفع البعض إلى التفكير في الهجرة نحو الملاح، وامتلاك شهادات السكنى، المهم أن تطأ القدم الملاح، حتى لو تطلب الأمر العيش فوق السطوح، أو اقتسام منازل ضيقة مع أصحابها الأصليين. غموض وبلبلةأدى الغموض الذي يلف مستقبل حي الملاح إلى اندلاع نوع من "البلبلة". لا أحد يعرف مصير الحي وماذا ستقدم عليه الوكالة باعتبارها المسؤولة عن تدبير شؤونه.فالبرامج المستقبلية لا تعلمها إلا الوكالة، أما السكان فيخوضون في نقاشات أصبحت أقرب إلى جلسات "التنجيم" و"التنبؤات"، فكل الاحتمالات في رأيهم واردة، مقابل غياب الوضوح، فلا علم لهم إن كان سيتم الإبقاء على الحي، أم أنه سيعرف تغيرات جذرية. وضع خلق نوعا من اللااستقرار، إلى درجة أن التجار في السوق البلدي لحي الملاح في حيرة من أمرهم، فالسوق مغلق منذ أشهر، دون أن يكلف المسؤولون أنفسهم عناء الالتفات إلى المشروع الذي كان بمثابة مورد رزق لعدد من العائلات في الحي، كما أن السوق كان يشكل الوجهة المفضلة لفئات من السكان، للجودة التي تميزه. أصوات عديدة تطالب بإعادة الروح إلى السوق، المكون من 35 دكانا و10 أماكن مخصصة لبيع السمك. مهنيون يرون أن الأمر لا يتطلب إلا نوعا من التنظيم وإعادة ترميم المحلات لتصبح في المستوى المطلوب، أما اختيار إغلاق السوق، فلا يعد حلا.ومقابل تعتيم الوكالة عن مستقبل الحي، توضح مصادر ل"الصباح"، فإن الحركة الاقتصادية تضررت بشكل ملحوظ "تصوروا أن سوقا من حجم السوق البلدي في الملاح، حيث بائعو الخضر والفواكه والسمك، يختفي بين عشية وضحاها، تجار أصبحوا في عداد المعطلين وزبناء تضرروا من اختفاء سوق كان يعد من أشهر الأسواق في العاصمة". التجار يرفضون الحلول الترقيعية، ويطالبون بإعادة بناء السوق، فمن شأن هذا أن يبعث الروح إلى الملاح، لكن رغم هذا المستجد، تصطف دكاكين أخرى وسط الحي، حيث تعرض مختلف صنوف الخضر والفواكه. الأزبال والأوساخ تعالت الأصوات المتددة بالأزبال المرمية في كل جنبات الملاح. السكان سئموا النفايات التي غدت تطرح مشكلا بيئيا، روائح كريهة تفوح من أكوام الأزبال المنتشرة بالأزقة. والشركة المكلفة بجمع النفايات بجهة الرباط وسلا تعتبر نفسها غير مسؤولة عن ما يجري، فهي ملتزمة بمضامين دفتر التحملات الذي وقعته مع مجلس مدينة الرباط، إلا أن الإشكال في نظر البعض يتمثل في أنه لا بد من إعادة النظر في صياغة الالتزام الموقع مع الشركة، في عهد العمدة السابق عمر البحراوي. إن الملاح الذي أصبح سوقا، على حد تعبير البعض، وليس حيا سكنيا فقط، يحتاج إلى تدبير خاص يأخذ بعين الاعتبار المتغير الذي حصل داخل الحي، إذ لا يعقل أن تستغل القمامات من قبل التجار والباعة الذين يملؤونها عن آخرها، دون أن يتمكن السكان من إيجاد حاويات فارغة لطرح نفاياتهم. إن الحل العملي، حسب بعض السكان، هو أن تتكلف الشركة بتفريغ القمامة بمجرد انتهاء السوق اليومي الذي ينتعش في الفترة الصباحية، وينتهي قبل الواحدة ظهرا، حتى يتمكن المواطنون من استعمال حاويات عوض طرح الأزبال أرضا. شبح العطالة يخيم شبح العطالة على فئة عريضة من سكان الملاح. وقد تزامنت الزيارة التي قامت بها "الصباح" إلى الحي حوالي الساعة الثانية بعد الظهر، مع مجموعات من الشباب اتخذت من أركان الزقاق أماكن للتجمع. شباب يعانون العطالة وغياب فرص التشغيل، لكن رغم هذه الآفة التي تنخر الملاح، فإنه، بشهادة أغلب السكان، في منأى عن تسجيل اعتداءات أو جرائم اعتراض السبيل. هناك من يرجع هذا الأمر إلى طبيعة العلاقات التي تطبع أبناء الملاح بحيهم، وهناك من يفسر المسألة بإحداث دائرة أمنية توجد عند مدخل الحي، وهي الدائرة التي كانت مستقرة في منطقة لعلو، إلا أنه تقرر تغييرها إلى داخل الملاح، وضع أمني أدى إلى تقليص عمليات بيع الحشيش وأقراص القرقوبي، في حين مازال بعض "الكرابة" ينشطون وسط احتجاج كبير للسكان. وبمناسبة الحديث عن التشغيل، هناك من يقترح إحداث فرع للتكوين المهني داخل الملاح، حتى يتسنى لأبناء الحي الاستفادة من تكوين يتيح لهم إيجاد فرص شغل تتناسب والتخصصات التي تابعوا فيها دراستهم. كما أن ثمة من يرى أن مشروع كورنيش أبي رقراق كان يفترض أن يستفيد منه أبناء المنطقة من خلال الأكشاك المصطفة في منطقة مارينا. إنجاز: نادية البوكيلي

الملاح…حي وسط الرباط مهدد بالانهيار

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

أمنيستي: قوات الأمن لم تنو استعمال القوة

عائلة قائد متقاعد تستغيث

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات