مستشفى الأمراض الصدرية ببنصميم… بناية تبكي ماضيها

فعاليات تطالب بتحويله إلى مستشفى متعدد التخصصات قرب منبع عين بنصميم، على بعد نحو 7 كيلومترات من إفران، تقبع بناية برونق هندسي جميل، بين أشجار الأرز الوارفة، شاهدة على حقبة تاريخية تناساها المسؤولون، بشكل لم ينل من شموخها وعنفوانها، رغم مظاهر الإهمال والتخريب التي طالتها، وتبدو واضحة في أبوابها ونوافذها المتآكلة. زائر الموقع يخالها فندقا راقيا هجره زواره، لكن من ينبش في ذاكرتها، سيكتشف حقيقة الأمر. إنها مستشفى للأمراض الصدرية، قدم خدمات جليلة إلى المرضى طيلة عقدين، ليغلق قبل 4 عقود، ويتحول إلى أطلال تبكي حظها العاثر، دون أي التفاتة من عدة وزراء تعاقبوا على وزارة الصحة. اكتشاف بناية أصاب منير السائق الشاب حين وضع سيارته رهن إشارة الصحافيين المنتدبين لتغطية مهرجان تورتيت، باقتراحه المرور عبر بنصميم، في طريقه وضيوفه إلى منطقة عين اللوح. لقد وهبهم فرصة لا تعوض لاكتشاف هذه البناية التاريخية التي لم يرأف لحالها أحد من المسؤولين محليا وجهويا ومركزيا. اكتشف الزوار الغرباء عن بنصميم، عينا طبيعية متدفقة لم يسمعوا بها إلا عبر وسائل الإعلام الناقلة لاحتجاجات سكان أرقهم تعليب مائها، وما أفرزته من اعتقالات ومحاكمات. طيلة دقائق، استمتعوا بجمالية المنبع المغري بالزيارة والمستحق ومائه الزلال، للاكتشاف والتفقد والاهتمام. بعد فترة «علاج نفسي» طبيعي، وتناول حبات التين الأخضر، انطلقت السيارة في طريقها إلى أزرو، لكنها سرعان ما توقفت على بعد نحو 300 متر. ظن بعضهم أن عطبا تقنيا قد يكون طالها، لكن دهشتهم كانت كبيرة وهم يكتشفون دافع التوقف، باقتراح من السائق الذي برع في سرد قصة البناية.أطفال وشباب وفتيات يافعات يبدو من حواراته الثنائية أنهم مهاجرون ببلد أوربي، وقفوا أمام بابها الصدئ والمتآكل، لالتقاط صور للذكرى، فيما انهمك حارس في تناول وجبة خفيفة غير بعيد عن هؤلاء الزوار الذين قد لا يعلم الكثير منهم، الأهمية التي لعبتها تلك البناية في حقبة تاريخية زاهية. لفظت السيارة ما بها، وهرول الجميع لالتقاط صور قد تنفع في شيء ويوم معين. وفتح نقاش غير منتظر حول هذا المستشفى الذي آوى عشرات مرضى السل من الداخل والخارج، قبل أن يتحول إلى أطلال شاهقة محاطة بأشجار الأرز الشامخة ومطلة على جبل شامخ وحقول ثرية بمنتجاتها. مسلسل العبث ينطلق سنة 1973 بخفي حنين، حكى أبناء المنطقة عن تاريخ هذا المستشفى الأول من نوعه بالوطن والقارة، قبل أن يتحول إلى بناية مهجورة بعد إغلاقه رسميا في سنة 1973، لينطلق مسلسل العبث بتجهيزاته وإتلاف ما به وأبوابه ونوافذه، ويتحول إلى مجرد ذكرى ومكان آمن لقضاء حاجة عابري السبيل. استمرار تناسي هذا المستشفى، واقع لا يستسيغه أحد، خاصة في ظل ما يرفع من شعارات حول تعزيز البنيات والخدمات الصحية، فيما يطول الإهمال والإجحاف مثل هذه المعالم التي لا تحتاج إلا إلى «نيات حسنة» و»روتوشات»، لإعادة الروح إليها وتجهيزها وفتحها في وجه مرضى السل. تنازع الاختصاصات حول ملكية البناية، بين الوزارة والعمالة والمجلس الإقليمي، قد يكون واحدا من الأسباب الكامنة وراء تناسيها، لكن أبناء المنطقة والإقليم وجهتي فاس ومكناس وعدة مناطق، محتاجون لهذا المستشفى، الذي أحسن المعمر الفرنسي بانيه ومشيده، اختيار موقعه واختصاصه. يتأسف الفاعل الجمعوي عزيز فلاحي، للإهمال الذي طاله وعدم التحرك لإعادة فتحه، خاصة أنه لا يحتاج إلا إلى إصلاحات خفيفة، فيما لم تحرك الفعاليات المدنية بالإقليم ساكنا للضغط في هذا الاتجاه، وتنبيه المسؤولين إلى هذه المعلمة التي تعرضت تجهيزاتها إلى تخريب تخفيه أسوارها. ويتمنى أبناء بنصميم أن يجد المستشفى موقعا له في اهتمامات وأجندة وزير الصحة الجديد، بالنظر إلى موقعه الإستراتيجي المتميز بنقاء الهواء، وما لعبه طيلة عقدين من دور فعال وهام في العلاج الطبيعي لمرضى السل، لكن كل ذلك سيبقى مجرد أمنيات، في غياب إرادة حقيقية لإحيائه. ذاكرة بناية تفيد الروايات الشفوية حول هذا المستشفى، بناءه من قبل المستعمر الفرنسي سنة 1948، على مساحة 40 هكتارا، وانطلاق العمل فيه بعد 3 سنوات من ذلك، إذ ظل قبلة لمرضى السل من مختلف ربوع الوطن وفرنسا، إلى أن أسندت أمور تدبيره إلى وزارة الصحة بعد 13 سنة من افتتاحه. ضمت البناية 5 طوابق وعشرات الغرف الحاضنة لنحو 700 سرير، فيما يحكي بعض معاصري الحقبة الزاهية من عمرها، احتضانها 4 أطباء متخصصين في الأمراض الصدرية، يشرف عليهم طبيب رئيسي، إضافة إلى 32 ممرضا مقيما، وتجهيزات مهمة لم يبقى لها أثر بتلك البناية المهجورة. يقول الفلاحي إن البناية كانت تضم قاعة للمسرح والسينما مفتوحة في وجه المرضى للترويح عنهم خاصة خلال فترة ما قبل الاستقلال، مشيرا إلى أن بعض مرضى السل كانوا يستقدمون من فرنسا للعلاج بهذا المستشفى الذي يتيح موقعه الهام، فرصة نادرة للعلاج الطبيعي والطبي. تولت وزارة الصحة منذ سنة 1965 إدارة هذا المستشفى الواقع في ممر محاط بالأشجار، بعدما حظي قبل ذلك، باستقلال مالي وإداري. ومن حينها خفت إشعاعه لأسباب مختلفة، قبل أن يغلق في1973، ليتحول إلى ثكنة عسكرية دبرت من داخلها، محاولة انقلابية فاشلة عرفها المغرب. قد يكون الانقلاب الفاشل بداية سبعينات القرن الماضي، سببا رئيسيا في إغلاقه و«ضريبة» الإهمال التي يعانيها المستشفى حاليا، على غرار ما تعرفه ثكنة اهرمومو برباط الخير، التي انطلقت منها شرارة انقلاب آخر فاشل، لكن «لا ذنب لبنايات أدت ضرائب جنرالات أعماهم الجشع». روايات مثيرة يتداول أبناء المنطقة، قصصا مثيرة شهدها المستشفى الواقع بموقع من أنقى وأطهر البقاع في العالم، يبقى مرضى السل في أمس الحاجة إليه أمام تفشي الأمراض الصدرية، وعدم توفر الشروط الصحية في الأقسام الملحقة بالمستشفيات العمومية ومحيطها الذي «قد لا يساعد على العلاج». ومن أشهر الروايات المتداولة في المجال، إصابة فرنسي بمرض صدري عجز عن علاجه، قبل أن يقرر قضاء ما تبقى من عمره متجولا بين بقاع العالم، ويحط الرحال بالمنطقة، إذ قرر الاستقرار بها. عاشر الرجل، السكان وشاركهم أكلهم الطبيعي، طيلة مدة طويلة قبل إخضاعه للكشوفات الضرورية.كانت المفاجأة كبيرة باكتشاف علاج الفرنسي من مرضه المزمن قبل أن ينتقل فريق طبي وعلمي إلى المكان لاكتشاف سر هذا العلاج غير المتوقع. وذاك سبب إقامة المستشفى بهذا الموقع الذي استغله الجنرال أوفقير للتخطيط لانقلاب فاشل، حسب ما يتداوله أهل بنصميم.من حينها، فتح المستشفى في وجه آلاف مرضى السل، ممن كانوا يقضون فترات استشفاء ونقاهة واستجمام، في رحلة سياحية وعلاجية قد تطول أو تقصر، بالنظر إلى حدة المرض، خاصة أن الظروف كانت مواتية لذلك، بما في ذلك الاستمتاع بآخر الأفلام السينمائية في عروض خاصة.قاعة سينما في الطوابق السفلى للمبنى، وملاعب وفضاءات للتنزه وتجهيزات طبية متطورة، شجعت وساعدت في علاج الوافدين على هذا المستشفى الواقع بموقع خلاب ورائع يعج بالحياة ويقع أسفل جبل كثيف الأشجار وعلى بعد أمتار معدودة من منبع ماء مساعد على الهضم. وماذا بعد..؟ قد يقول قائل إن البناية تؤدي ضريبة تحويلها إلى مقر وتجمع للانقلابيين. وقد يبرر آخر إغلاقها بسوء التدبير الذي عرفته إبان مغربة تسييرها. وربما يذهب آخرون إلى التبجح بعدم الحاجة إلى معازل أمام تطور أدوات العلاج من السل، لكن الحاجة إلى مثل هذه المستشفيات، ضرورة يفرضها الواقع. بغض النظر عن أسباب إغلاق هذا المستشفى، فطلب إعادة فتح بنايته المهجورة للاضطلاع بالمهمة ذاتها أو تحويلها إلى مأوى سياحي، يشغل بال أهالي منطقة بنصميم ذات 3 آلاف نسمة، ممن يتطلعون إلى مشاريع تنموية حقيقية تنتشلهم من بين براثين الفقر والحاجة وضنك العيش.قد يكون الإطار القانوني للمبنى وحقيقة ملكيته، عائقا حقيقيا في أي مبادرة لنفض الغبار عنه، والنبش في ظروف وملابسات إخلائه من تجهيزاته الطبية ونهب صنابير المياه والأبواب بشكل حوله إلى خربة. لكن كل «التبريرات» قد لا تنفع أمام وجود ماض يجب أن يدفن بسلبياته وويلاته. ويتأسف أبناء المنطقة لسر رفض كل اقتراحات تحويله إلى مستشفى متعدد الاختصاصات أو مركز للتكوين أو مركب سياحي، بعد إخضاعه للترميم والإصلاح الضروري، نادبين حظهم، وباكين على مرحلة ذهبية شكلت فيها بنصميم، نقطة مشرقة في علاج مرضى من كل بقاع العالم. وفي قصة بكاء امراة فرنسية مسنة على أطلال البناية، وتحسرها على ما مضى من زمنها المشرق، كما يحكيها البعض، رسالة خفية يجب أن تحرك في مسؤولينا، الرغبة في نفض الغبار وخيوط العنكبوت عن موقع يثير حالها الشفقة ويستدعي تظافر جهود الجميع لإحياء الروح فيه. حميد الأبيض (فاس)

مستشفى الأمراض الصدرية ببنصميم… بناية تبكي ماضيها

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

احتجاجات باشتوكة آيت باها على مرسوم تحديد الملك الغابوي

شباط: الطعن في المجلس الوطني هدفه نسف انتخاب الأمين العام

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات