أسرى مخيمات تندوف… رمضان بطعم الاعتصام

حينما تعوض ساحة البرلمان لمة الأسرة على مائدة الإفطار جاؤوا من مختلف أنحاء المملكة للمطالبة بتعويضهم عن سنوات الأسر التي أمضوها في سجون بوليساريو وامتدت عند بعضهم عقودا عديدة. ورغم حلول شهر رمضان المبارك، فضل هؤلاء استكمال احتجاجهم واعتصامهم أمام البرلمان، يفترشون "الكرتون"، ويتسحرون على "ما قسم الله"، ويداومون على صلاة الجماعة أمام البرلمان. لم يجبرهم لا المرض ولا الجوع على الاستسلام للأمر الواقع، والرجوع إلى عائلاتهم رغم الوعود "الكاذبة" التي تلقوها بتسوية أوضاعهم المادية المعوزة. عيون جنوبية يحكي الجندي السابق علي البالغ من العمر 57 سنة، القادم من الأقاليم الجنوبية وتحديدا من العيون، عن معاناته خلال الأسر وبعده، وعن الأسباب التي دفعته هو وزملاؤه إلى الخروج عن صمتهم والاعتصام أمام البرلمان. يؤكد أنه بعدما أمضى عشرين سنة في الأسر لم يحظ بأي تعويض عن السنوات التي أمضاها هناك في مخيمات تندوف إذ لم يجد غير تقاعد "لا يسمن ولا يغني من جوع" على حد تعبيره، ما دفعه وزملاءه في الخدمة العسكرية سابقا إلى المجيء إلى الرباط لأنه "ليس لديهم ما يخسرون"، يقول الأسرى المعتصمون منذ أشهر في أحد أهم شوارع العاصمة، بعدما اضطر أغلب أبنائهم إلى ترك مقاعد الدراسة بمجرد وصولهم إلى مستوى الثانوية. وفي أفضل الحالات يتم قبولهم في المدارس التكوينية الخاصة بالجيش وأفراد الأمن والشرطة ليرثوا آباءهم في مهنة لم تنصفهم عندما قضوا السنوات الطوال يقاتلون في سبيل الله والوطن، وعند وقوعهم في يد قوات لم ترحمهم، بل وحتى عند انعتاقهم من الأسر ورجوعهم إلى كنف العائلة والأحباب.يضيف علي أن اعتصامهم للخمسة أشهر، مؤكدا أنه رغم أن أغلبهم أمضى أكثر من عشرين سنة في الأسر، ورغم الخدمات النبيلة والتضحيات الجسام التي قدموها لبلدهم، فإن المسؤولين وأصحاب القرار ما زالوا يتلكؤون في تلبية بنود ملفهم المطلبي، الذي بلغ من العمر السنة التاسعة وهو على رفوف الوزارات المعنية التي "لم تكلف نفسها غير الوعود الكاذبة".فبعد اعتصام سنة 2003 الذي امتد 67 يوما، وعدت وزارة الداخلية وصندوق التقاعد وكذا الجيش بتسوية أوضاع هؤلاء الجنود المادية شريطة إنهاء لاعتصام، لكن رغم ذلك، فإن شيئا لم يتحقق من ملفهم المطلبي، لتدخل عليهم سنة 2012 في ظل مناخ عرف العديد من الاحتجاجات التي كان وقودها الوضعية الاجتماعية المزرية، فطفح الكيل وانتفض الجنود السابقون، مصرين على تعويضهم عن سنوات رصاص خالية، حتى وإن حل عليهم شهر رمضان بعيدا عن الأهل والأحباب، لم يزدهم ذلك إلا إصرار على المواصلة والمطالبة بإنصافهم في قضيتهم العادلة لأن "الحقوق أعظم من الأكل والشراب" كما يقول أحدهم. سحور بـ"ما قسم الله" تدق الساعة الثالثة صباحا، يصرخ الجندي الخمسيني يوسف، طنجاوي الأصل، مناديا "نوضو نوضو يا الجماعة" من أجل تناول لقيمات سحور زهيد وأداء صلاة الصبح جماعة.لا يجد الناظر إلى هؤلاء المعتصمين صعوبة في استنتاج أنه أمام مجتمع مغربي متعدد الأعراق والأطياف، فهنا أمام إحدى الوكالات البنكية المجاورة للبرلمان نجد الريفي والسوسي والصحراوي والشرقي وغيرهم، كلهم اجتمعوا هنا لنسج خيوط طبقة اجتماعية متعددة الأجناس جمع بينها الحرمان والفقر والرغبة في تعويض سنوات خلت بمخيمات "الرابوني"، وسنوات بعد إطلاق سراحهم يمضونها تحت وطأة الإقصاء والتهميش الذي طالهم وعائلاتهم.بعد أن يستيقظ الجميع، يجتمع الكل لتناول وجبة السحور على شكل مجموعات تجتمع حول مائدة اتخذت من الجرائد شكلا لها، يقوم ياسين الشاب الحيوي في أعين زملائه المسنين الى جانب بعضهم بتسخين المرق الغزير ماؤه وإعداد موائد الطعام المتواضعة، لا شيء هنا يبعث على اشتهاء ذاك المرق، فلا الجرائد التي وضع عليها ولا الصحون القصديرية المهترئة التي تحتويه تشجع الإنسان على تناوله لكن "الله الغالب" كما يقول ياسين، لابد من أن "تدور العجلة ونقضي بما قسم الله".شخوص وجوههم شاحبة تجتمع على موائد ورقية تعيش "حياة تازوفريت" حتى بعد زواجها وإنجابها وزواج أبنائها، وحتى بعدما بلغت من العمر عتيا اشتعلت رؤوسها شيبا.بعد استكمال تناول السحور وسماع الأذان يتجه المعتصمون إلى ساحة البرلمان قصد أداء صلاة الصبح جماعة. يجتمعون في صفوف متراصة متخذين من الكرتون سجادا لهم، وبعد الاستعداد يكبر الإمام "الله أكبر"، فتبدأ الصلاة في خشوع، ويقول أغلبهم إنهم في كل سجدة يدعون الله أن يلطف بهم ويفك كربهم بإخراجهم من هذا النفق وقد حققوا الهدف الذي جاؤوا من أجله، ولعل الدعاء المفضل عندهم كما يقول "الإمام" إبراهيم، الجندي القنيطري المسن "لا إله إلا أنت سبحانك إنا كنا من الظالمين". رحلة يوم رمضاني مع شروق الشمس الصيفية الحارقة، يبدأ اليوم الرمضاني عند معتصمي ساحة البرلمان. تدق عقارب الساعة السابعة صباحا، عندها يقوم أفراد من المعتصمين بنقل اللافتات واللوحات الخشبية التي تختزل بعض مطالبهم، كتبت باللغتين العربية والفرنسية. بقراءة بصرية سريعة نجد مكتوبا عليها "لا نريد إلا حقوقنا المهضومة"، "ندعو صاحب الجلالة لإنصافنا"، "اعتصام بلغ اليوم 140 ... " وغيرها من الشعارات التي تجسد معاناة هؤلاء الأسرى السابقين.عندما يُرى حاملو تلك اللافتات والألواح، كأنهم طلائع كتيبة حربية تم اختيارها من النخبة ذاهبة في اتجاه ساحة المعركة، لكن ما إن يقوم الجنود بتعليق لافتاتهم، لا يُسمع لهم بعدها لا شعارات ولا احتجاج، لا شيء غير الجلوس بالساحة المقابلة للبرلمان لساعات النهار الطويلة. هو اعتصام صامت كأصحابه الذين أثر فيهم رمضان وازدادت وطأته مع أيام الصيف الحارة.على شكل مجموعات يستظل المعتصمون تحت جذوع النخل هروبا من لهيب الشمس الحارقة، مفترشين الكرتون وبعض الوسائد المهترئة التي جلبوا أغلبها من منازلهم، لكن الغالب هنا هو افتراش الأرض التحاق السماء.يحين وقت صلاة الظهر، يتوضأ المصلون من ماء الحديقة المجاورة وبعد لحظات من سماع الأذان، تبدأ الصلاة على غرار أخواتها: الإمام نفسه والمصلون أنفسهم والمكان نفسه، في صفوف متراصة كتلك التي تكون بالمساجد تقام الصلاة هنا بساحة الاعتصام.بعد الانتهاء من الصلاة، يأخذ البعض قسطا من الراحة عبر قيلولة لعلها تعفيهم ولو للحظات من التفكير في حالهم البئيس، البعض الآخر يفضل التسلية وإجلاء الوقت الرتيب عبر لعب "ضاما" والورق، كما أن هناك فريقا آخر اختار قراءة القرآن وتدبر آياته متضرعا بالدعاء بسرعة الخلاص.يأتي العديد من الزوار للتجول بساحة شارع محمد الخامس، خاصة السياح الأجانب، لأخذ صور تذكارية بجانب الحمام والنخيل والفضاء الذي تؤثثته صومعة مسجد السنة الشاهقة . لكن الغريب في الأمر، كما يقول أحد المعتصمين أن بعض هؤلاء السياح يتعمد أخذ صور للافتات بل وحتى لبعض المعتصمين.تمضي الساعة تلو الأخرى إلى أن يحين وقت العصر، يؤذن للصلاة وتبدأ الاستعدادات لفطور بنكهة الاحتجاج. فطور بنكهة الاحتجاج كل يوم سواء تعلق الأمر بوجبة السحور أو الفطور، يتم تكليف أربعة أفراد بالتناوب بمهمة تحضير الوجبات، فبعد جمع المال المخصص لذلك، وإحضار المقادير، يبدأ طباخو الاعتصام بتحضير الإفطار. بصحون قديمة أغلبها حديدية، يتم إعداد الحساء بالحليب بدل "الحريرة" المفضلة لدى المغاربة. يقول ياسين أحد المعتصمين، إنه بما أنهم ليسوا قادرين على المداومة على تحضير "الحريرة" فإنهم يلجؤون لسد رمقهم بذلك الحساء الشعيري. يذهب بعضهم إلى سوق باب الأحد لشراء بعض المستلزمات كالتمر والخبز والحليب والزيت، وفي أحسن الحالات يقومون بإحضار "الشباكية" و"المسمن" وذلك حسب مواردهم المالية.بين العصر والمغرب، يستغل بعض الجنود السابقين تلك اللحظات في التجول بشارع محمد الخامس، منهم من يفضل المكوث في مكانه بغية الذكر وتلاوة القرآن، أما البعض الآخر فإنه يبحث عن أشياء يتسلى بها كلعبة "ضاما" الشهيرة إلى أن يصل وقت الإفطار.أذن المؤذن وحان وقت الإفطار، وبعد أداء صلاة المغرب ، يبدأ الجنود في تناول إفطارهم في لحظات نادرة تميزها الحميمية والأخوة. يسكب كل واحد منهم للآخر حساءه الذي هو بمثابة العمود الفقري لهذه الوجبة الرمضانية، عكس الموائد التي ألف أغلب المغاربة الإفطار عليها، الموائد الورقية هنا زهيدة للغاية: حساء قليل، قليل من التمر والخبز وفي أحسن الحالات يحضر الحليب وبعض المكسرات.وفي جو هادئ بعيد عن الصخب الذي يعرفه شارع محمد الخامس طيلة ساعات النهار من ضجيج السيارات، وصفارات رجال الشرطة، واحتجاج العاطلين و"تبراح" الباعة المتجولين، يمضي المعتصمون لحظات من إفطارهم في نهاية يوم آخر من اعتصام اقترب عمره من مناهزة نصف السنة. عبادة وسمر وانتظار يفضل أغلب المعتصمين أداء صلاة العشاء والتراويح بمسجد السنة المجاور عبادة لله وترويحا عن النفس كما يقول بلال الجندي القادم من مدينة طاطا الشرقية، لكن البعض الآخر يختار أن يبقى هناك بجانب أحد الأبناك قرب البرلمان والذي ارتضاه المعتصمون مسكنا لهم إلى حين الاستجابة إلى مطالبهم. هكذا تبدأ عند هؤلاء مباريات محمومة تغلب عليها الإثارة في لعب الورق و"ضاما" شأنها شأن يومهم الصيفي الحار. في لحظات حميمية يطبعها الأنس الليلي الرمضاني الذي تعودوا على معايشته خلال فترة الخدمة العسكرية وافتقدوه في الأسر لدى مليشيات بوليساريو.جماعة هنا وأخرى هناك، تستضيء بالنور المنبعث من أعمدة الكهرباء بالشارع، وجوههم تبوح بهم كبير يحملونه، ولسان حال يؤكد الإصرار على مواصلة الاعتصام إلى حين الاستجابة إلى ملفهم المطلبي الذي تاه على ما يبدو بين رفوف الوزارات المعنية. الشيخ اليوسي ( صحافي متدرب)

أسرى مخيمات تندوف… رمضان بطعم الاعتصام

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

اليزمي يوصي المهاجرين خيرا بالمغرب

اتفاقيات التبادل الحر فاقمت عجز الميزان التجاري

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات