كانت كل الأنظار تتجه إلى قطر وهي تختنق بفعل الحصار أو تكاد؛ لولا اليد التي امتدت إليها من إيران و تركيا؛ إلا أن الرياح جرت بعكس كل التخمينات؛ صحيح أن قطر حينها كانت تبدو وكأنها يتيمة تفتقر إلى الحماية، وصحيح أن السعودية ومن معها كانت تبدو للعيان صديقا مقربا للولايات المتحدة لكن ذلك لم يكن إلا جانبا صغيرا من القصة. حضور دونالد ترامب كان لافتا في القمة الخليجية العربية، وبعدها كانت مشاركته في القمة الأمريكية الإسلامية وما أفرزته آنذاك تصريحاته و طروحاته من مخاوف لا على قطر وحدها؛ بل على مستقبل القضية الفلسطينية وكل الأقطار العربية؛ وهكذا طفا سؤال آخر على السطح؛ ماذا لو كانت الدوامة التي يثيرها الحصار على قطر تهدف أساسا إلى المراوغة و صرف الأنظار عن الهدف المنشود ؟؟. ترسخت هذه التوقعات أكثر حين تداولت وسائل الإعلام العالمية نبأ احتجاز و تصفية الكاتب السعودي الشهير خاشقجي بسفارة السعودية بأنقرة؛ فقد عادت بنا هذه الجريمة البشعة إلى التفجير المدمر الذي أودى برئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري لسبب وجيه هو؛ مكانة الرجلين ، والمشاهد المرعبة التي تداولتها وسائل الإعلام يوما بعد الآخر؛ رئيس الوزراء الأسبق والسياسي المخضرم؛ صاحب الحضور المتميز على الساحة العربية و الدولية و أحد مهندسي السلام في لبنان و المنطقة؛ كان الهدف الأساس لهذا الاغتيال حينها سنة 2005 إعطاء الانطلاقة للفتنة الطائفية لكون الرجل من رموز الطائفة السنية، و بسبب الضغوط الدولية التي تعرّضت لها سوريا بصفتها راعيا أساسيا لفصائل المقاومة الفلسطينية و اللبنانية؛ صدر قرار لمجلس الأمن ينص على انسحاب القوات السورية وتشكيل محكمة دولية لمتابعة قتلة الرئيس الشهيد؛ كانت كل الأصابع حينها تشير إلى حزب الله وأصبح همّه الوحيد في تلك المرحلة الحرجة إثبات براءته للرأي العام اللبناني والدولي؛ ليتبين لاحقا أن الهدف غير المعلن لمشروع هذا الاغتيال كان نزع سلاح حزب الله؛ ذات السلاح الذي كان قد مكن اللبنانيين من تحرير أراضي الجنوب في أيار 2000 ، ثم تلت ذلك تصفية الحساب في حرب تموز 2006؛ وأهم نتائجها كان ردع الجيش الإسرائيلي وثنيه عن خوض مغامرات جديدة في لبنان . بالإضافة إلى مآسي "الربيع العربي" والحرب القذرة في اليمن؛ جاء مقتل الكاتب خاشقجي بتلك الطريقة الوحشية في القنصلية السعودية بأنقرة؛ وكان الهدف منه اقتناص عصفورين بحجر واحد؛ ابتزاز الجانب السعودي و الجانب التركي على السواء؛ صحيح أن أردوكان قد نجح في تجاوز هذه الأزمة وإن كان الثمن الذي بذله كان كبيرا؛ لكن في المقابل كانت كل الأضواء ماتزال مسلطة على السعودية. غدت قضية خاشفني على كل لسان؛ وأصبحت المادة الأساسية للصحف والقنوات العالمية والجمعيات والمؤسسات التي تتبنى قضايا حقوق الإنسان، كانت الضغوط تتزايد على السعودية وكان ابتزاز دونالد ترامب بموازاة ذلك يتزايد أكثر فأكثر؛ فإضافة إلى المبالغ الضخمة التي نقلها إلى بلاده؛ فقد مارس ضغوطا متزايدة على الدول العربية لأجل إرغامها على التطبيع مع الاحتلال دون أي مقابل . أول أمس وبعد ركود لافت؛ عاد ملف "خالد الشيخ" إلى الواجهة من جديد لكونه يتهم بأنه العقل المدبر لأحداث 11 شتنبر؛ والجديد في هذه المحطة - حسب الأمريكان - هو أن الرجل عرض على "العدالة الأمريكية" مساعدتها في إثبات تورط السعودية في القضية مقابل تجنيبه الحكم بالإعدام؛ وهو ما يعني أن هذا الملف سيظل سيفا على عنق المملكة إلى أجل غير منظور تحت عنوان إنفاد " قانون جاستا" . وجاء مشروع "صفقة القرن" ليؤكد حجم ما يعد للمملكة العربية السعودية؛ وليعود بنا إلى " قضية الجزيرتين المصريتين " وقصة تنازل " الفراعنة" عنهما لفائدة المملكة؛ وكيف ترددت بعدها معلومات تفيد بأن الجزيرتين ستؤولان في النهاية لفائدة " إسرائيل " لطبيعة موقعهما الاستراتيجي في البحر الأحمر. مسلسل يتواصل كل يوم؛ تعلن فيه وسائل الإعلام العالمية توافر معلومات جديدة حول قضية خاشقجي واستمرار التحقيق في احتمال تورط ولي العهد في الحادث، بموازاة ذلك يخرج ناتنياهو بين الفينة والأخرى ليعلن للعالم أن علاقة بلاده بالسعودية بلغت أوجها بينما تتولى وسائل الإعلام الإسرائيلية تزكية تصريحاته عندما تبث صور استقبال مسؤولين سعوديين سابقين في فلسطين المحتلة؛ وآخر ما زفته القنوات العبرية وصول" وفود عربية إعلامية و ثقافية " إلى مدينة القدس واستقبالها من قبل " ناتنياهو"؛ لكن اللافت في هذا الشأن كان هو التركيز على شريط فيديو للمواطن السعودي في حلّته الوطنية الأصيلة؛ وهو يهم بدخول المسجد الأقصى قبل أن يصرفه بعض الفتيان الفلسطينيين بهتافات السب والاستنكار و يمطرونه بالبصق في أزقة القدس العتيقة؛ كان مشهدا مؤلما لكل من تابع هذه المشاهد وكأن الهدف منه هو ضرب الروح المعنوية للأمة بكل أطيافها و انتماءاتها؛ وبث الفرقة بين الأشقاء والإجهاز على سمعة المملكة في العالم الإسلامي وكل مرة يخرج "الحليف الأمريكي " ترامب ليعلن أن حماية السعودية وجيرانها باتت تكلف بلاده الكثير وأن كل دولة تستفيد من الحماية الأمريكية يتوجب عليها دفع المزيد من الأموال ولسان حاله يقول آن لإسرائيل أن تتولى أمركم . جنوبا تستعر الحرب في اليمن وكل يوم يكشف الجيش اليمني و حليفته " جماعة أنصار الله " عن قدرات عسكرية تقض المضاجع؛ فتزداد مخاوف السعودية حين تجد أنها باتت ضعيفة وأكثر عزلة؛ هذه الوحشة لاشك ستصبح أكبر إذا ما أيقنت أن لجوء حلفائها الإماراتيين إلى إيران قرار لا رجعة فيه. صحيح أن إيران ببراعتها في خوض هذه المواجهة الكبرى؛ تخطف الأضواء عبر العالم؛ لكن التركيز الآن بالموازاة مع حصار الشعب الإيراني ينصب كذلك على دفع السعودية إلى التحالف الصريح والمباشر مع إسرائيل؛ لاسيما إن صحت بعض الأخبار التي تتحدث عن قتال سلاح الجو الصهيوني إلى جانب سلاح الجو السعودي في الحرب المستعرة في اليمن؛ وهي فرصة لم يكن يحلم بها الاحتلال في أي وقت مضى؛ ستكون هذه المعارك "بروفا حقيقية" مكنت لا شك من اختبار أسلحة فتاكة في انتظار حرب مدمرة كبرى لا أحد يعلم متى لكنها حتما آتية؛ سيكون العالم العربي والإسلامي على موعد مع نكبة جديدة في خضم المواجهة الكبرى حين ستظهر الجمهورية الإسلامية الإيرانية وكأنها ترفع لواء المسلمين الشيعة؛ بينما تلعب إسرائيل دور الفارس النبيل وهي تتولى زعامة المسلمين السنة؛ والحرب كما نشهدها منذ مدة ليست بالضرورة حربا عسكرية. ادريس حنبالي