فرن يحول حياة سكان عمارة بالبيضاء إلى جحيم

يعمل بالفيول الصناعي على مدار اليوم وشكايات السكان ذهبت سدى وصاحبته ترفض الامتثال لقرارات السلطات المحلية تخيل، فقط تخيل، أن غرفة نومك، ورغم وجود مكيف هوائي، يشتغل طيلة اليوم، تتحول بفعل فاعل إلى حمام يفور بخاره ليل نهار. أرضيتها شديدة الحرارة. جدرانها ساخنة إلى درجة لن تقوى معها على وضع يديك عليها لأكثر من بضع ثوان. رائحة الخبز والحلويات، التي تطهى في الفرن الموجود في الطابق الأرضي بالعمارة (السكنية) رقم 5 بزنقة الريش الواقعة في النفوذ الترابي للدائرة الحضرية الرابعة بعمالة مقاطعات أنفا، تفوح من كل ركن من أركان غرفة نوم الدوح الإدريسي ومن باقي أركان بيتهم الواقع في الطابق الأول من هذه العمارة. حياة هذه المرأة وعائلتها الصغيرة، كما هو حال حياة 15 أسرة أخرى، تحولت إلى قطعة من جحيم مقيم. ففي عز موجات الحرارة التي تجتاح البيضاء بين الفينة والأخرى، يجد هؤلاء أنفسهم في أجواء حارة على مدار اليوم بسبب نشاط فرن إحدى المخبزات الذي يعمل بالفيول الصناعي. أرضيات منازلهم حارة يتبخر الماء فوقها في بضع دقائق. جدران بيوتهم لا تقل حرارة، وهواء منازلهم تطغى عليه رائحة ما يطهى من حلويات وخبز في الفرن المشتغل على مدار ساعات اليوم. الجدران تشققت من شدة الحرارة المنبعثة من الفرن. صباغتها تقشرت. حتى إن جددها أصحاب المنازل لا تصمد إلا بضعة أيام، ثم تبدأ في التقشر والتساقط تحت وطأة الحرارة الشديدة."حنا ديما مشويين، شتا وصيف"، تقول الدوح الإدريسي، في تصريح ل"الصباح"، بتذمر وحزن. "في الليل لا ننام من شدة الحر والروائح التي تنبعث من الفرن وبسبب الجلبة والضجيج اللذين يحدثهما العاملون بالفرن"، تضيف الإدريسي التي قادت "الصباح" في جولة داخل بيتها الصغير، الذي تحول، دون رغبة منها، إلى جناح من أجنحة فرن يشتغل بالفيول الصناعي، خلافا لما ينص عليه التصميم المقدم من لدن مصالح عمالة مقاطعات آنفا، والذي يوضح أن الفرن يشتغل بالطاقة الكهربائية. "أنا عندي الصونا ف داري" تقول مرية المنجد، من سكان العمارة رقم 5، بنبرة مازحة محاولة التخفيف من وطأة معاناتها ومعاناة أطفالها."الضيوف عندما يأتون لزيارتي لا يقوون على مقاومة الحر والرائحة المنبعثة من الفرن فينصرفون لحال سبيلهم متذرعين بأي عذر"، ترشح المنجد وهي تضع كفيها على جدران الصالون وأرضيته الحامية. "لا أفكر في شراء مكيف هواء، لأنه سيحل مشكلة الحرارة الشديدة، بينما سيكلفني ميزانية إضافية، أنا في غنى عنها، باستهلاكه كميات كبيرة من الكهرباء"، تضيف المنجد، التي تقطن بإحدى شقق الطابق الثاني، بأسى واستسلام كبيرين.الحرارة الشديدة المنبعثة من الفرن، الذي نبت ما بين ظهراني السكان في أحد أيام سنة 2009 كفرن تقليدي مثله مثل باقي الأفرنة المنتشرة في أحياء المدن المغربية، أدت إلى إحداث تشققات في بيوت السكان وفي واجهة العمارة، وجعلتهم يعيشون كابوسا يوميا خوفا من أن تنهار العمارة فوق رؤوسهم، خاصة أن أنباء الانهيارات والقتلى لا تتوقف عن التواتر بالبيضاء في الآونة الأخيرة. فكل الشقق التي تمكنا من زيارتها لابد أن يسترعي انتباهك فيها تشققات وتقشر صباغة الجدران.لم يتوقف ضرر هذا الفرن عند قض مضاجع السكان وخنقهم بروائح طهو الحلويات وإحداث التشققات بمنازلهم، وزرع الرعب في نفوسهم، بل إن أضراره امتدت لتشمل جوانب أخرى في حياة السكان. فلاح سعيدة، امرأة في الخمسينات من عمرها. من سوء حظ هذه المرأة أنها تقطن بمنزل بالطابق الأرضي بمحاذاة الفرن. منزلها له النصيب الأوفر من التشققات. حرارة بعض بيوته لا تطاق. رائحة الخبز والحلويات فيه أشد وأكثر إزكاما للأنوف. لكن فوق هذا كله كان هذا الفرن السبب وراء التفريق بينها وبين زوجها.تتحدث المرأة الخمسينية عن الفراق بتأثر وانفعال باديين. تقول إن زوجها، وبسبب معاناته مع المرض، لم يحتمل هذا الجحيم فقرر أن يتوجه إلى بيت والديه بالمدينة القديمة ليستقر فيه بعيدا عن الفرن وروائحه وحرارته وضجيج عماله تاركا وراءه زوجة وابنا هما في أمس الحاجة إلى رعايته. تحجم فلاح عن الخوض في مزيد من التفاصيل عن المعاناة والمشاكل الاجتماعية التي أذقها إياها هذا الفرن، وهي التي اعتادت هدوء وسكينة زنقة الريش منذ ما يربو على 23 سنة.حالة أخرى ومأساة أخرى لامرأة طاعنة في السن انتقلت قبل حوالي سبع سنوات إلى العمارة رقم 5 بزنقة الريش بمقاطعة أنفا بحثا عن راحة البال والسكون، لكن تمتعها بهما لم يطل، بعد أن انتقلت صاحبة الفرن من استخدام الأخشاب والحطب إلى استعمال الفيول الصناعي، محولة حياة الحاجة حليمة، كما يناديها جيرانها ومعارفها من سكان العمارة، إلى كابوس يجثم على أنفاسها يعدها نفسا نفسا. "أعاني مشاكل حادة في الجهاز التنفسي بسبب الفرن والأدخنة والروائح المنبعثة منه"، تقول الحاجة حليمة في تصريح ل "الصباح"، وهي تتنفس بصعوبة ظاهرة تجعلها بالكاد تتمم ما تنطقه من جمل.هذا الوضع الكارثي والتراجيدي الذي يذكر بمشهد من مشاهد الحياة في القرون الوسطى، حذا بسكان العمارة ، مجتمعين، إلى التقدم بدعوى قضائية، بتاريخ 7 يونيو الجاري، أمام رئيس المحكمة الابتدائية بالبيضاء ل"رفع الضرر"، كما جاء في نص مقال مدني تقدم به أحد المحامين بالوكالة عن سكان العمارة.فبعد استعراض نص الدعوى معاناة السكان والأضرار المادية والمعنوية التي لحقتهم واستعراضه كذلك تعنت مكترية المحل الذي يوجد به الفرن/ المخبزة، قائلا "إنها وبدافع من الجشع والطمع (صارت) تشتغل ليل نهار دون إعارة (أي) اهتمام لراحة الجيران، خصوصا أن مكان وجود الفرن حي سكني وليس منطقة صناعية"، وكذلك بعد استحضاره للشكايات التي تقدم بها السكان ضد صاحبة الفرن إلى كافة المصالح المختصة بمدينة البيضاء، طالب، من حيث الموضوع، "إغلاق المخبزة المكتراة للسيدة (أ.ف.)... نظرا للأخطار المحدقة والمحتملة لسقوط العمارة... ونظرا للخسائر المحتملة في الأرواح التي يمكن وقوعها...".نص المقال الموجه إلى رئيس المحكمة الابتدائية تم إرفاقه بمحضر معاينة أنجزه عون قضائي وقف فيه على "...شقوق ظاهرة بالواجهة الأمامية للعقار (العمارة)، خاصة على مستوى الطابق الأول والثاني، وشق كبير ظاهر على يمين الباب الرئيسي للعقار، كما لاحظ شقوقا أخرى متناثرة هنا وهناك..."، وأُرفق كذلك بنسخ لثلاثة محاضر لجنة محلية تابعة لعمالة مقاطعات أنفا (تضم ممثلا عن قسم التعمير والسكن، وآخر عن قسم حفظ الصحة، وثالث عن الملحقة الإدارية، ورابع عن الدائرة الحضرية، وخامس عن المصلحة الخارجية).محاضر المعاينة الثلاثة، التي أُنجرت في الفترة ما بين 2009 و2012، رصدت "حرارة مرتفعة بالجدران الداخلية لكافة شقق (العمارة)، مما قد ينجم عنه حريق إذا ما توفرت الأسباب... وجود رائحة خانقة تكتسح كافة الشقق مما يهدد صحة السكان... مدخنة المخبزة ليست بالارتفاع الكافي...".وبعد كل زيارة كانت اللجان التابعة للعمالة تخط بضع وصايا بإدخال إصلاحات من قبيل "تطبيق مقتضيات التصميم المصادق عليه تحت عدد 185 بتاريخ 30/10/2000 في ما يتعلق بعدد الأفرنة ونوعها المرخص باستخدامها... تجهيز المحل بمدخنة قانونية لا يقل علوها عن خمسة أمتار بالمقارنة مع العمارة المجاورة وتنظيفها باستمرار... تجهيز المحل بنظام للتهوية... احترام الأوقات القانونية للعمل...".لكن كل هذه التحركات ذهبت سدى أو كانت كأنها صيحات في واد سحيق لا يسمع له صدى، فمكترية المحل حيث توجد المخبزة/ الفرن "متعنتة ولا تعير اهتمام لعلاقات الجوار"، ولا يرق قلبها لحال "أطفالهم الذين يزعجهم عمل الفرن بشكل متواصل وما يصدره من ضجيج، خاصة منهم أولئك الذين يتابعون دراستهم"، وكذلك كان مصير المحاضر والشكايات التي لم تجد الآذان الصاغية بسبب ما يشاع من أن للمكترية علاقات مع شخص نافذ بالمدينة يوفر لها الحماية ضدا على القانون. محمد أرحمني

فرن يحول حياة سكان عمارة بالبيضاء إلى جحيم

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

السلطات لم تتدخل لحماية حقوق محتجي العرائش

وعود اليسار تواجه ظرفية اقتصادية صعبة

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات