“هكذا تكلم بنسعيد” … شهادة على العصر

مذكرات تعيد قراءة صفحات منسية من التاريخ السياسي للمغرب الحديث اختار مركز محمد بنسعيد آيت يدر للدراسات والأبحاث يوم 23 مارس الماضي ، بكل دلالاته التاريخية، للنبش في الذاكرة الوطنية لأحد قادة جيش التحرير ورموز اليسار المغربي، لمناسبة صدور مذكراته "هكذا تكلم بنسعيد أيت يدر". حضرت "الصباح" اللقاء الذي نظم، أخيرا، بالبيضاء، وأعدت التقرير التالي حول قراءة باحثين ومؤرخين وإعلاميين للكتاب... إعداد: برحو بوزياني اختار الكاتب عدنان ياسين، وصف الكتاب "بالشهادة التاريخية المقترحة على قارئها بضمير المتكلم. إنها سيرة ذاتية، لكنها ليست شخصية، لأنها ذات فاعلة في التاريخ، ومساهمة في صناعة تحولاته، ما جعل الكتاب سيرة لنخبة، وتدوينا لمرحلة، ورصدا لتحولات بلد، وشهادة على العصر". وقال ياسين في افتتاح اللقاء الذي حضرته نخبة من رفاق وأصدقاء بنسعيد من مختلف الأجيال والتجارب السياسية، إن الكتاب شهادة إذن، ومصداقية الشهادة من مصداقية صاحبها، مؤكدا أن آيت إيدر نموذج للتصالح التام مع الذات، والذي تتصالح داخله عناصر الهوية المغربية، في تعددها وانفتاحها، في إشارة إلى الطربوش الوطني، ما جعل لقب المجاهد لا يلغي لقب الرفيق". ياسين: مفرد بصيغة الجمع إن بنسعيد، هو نموذج الوطني البارز الذي عاصر، من موقع وطني مناضل ثلاثة ملوك، من جيش التحرير والحركة الوطنية إلى اليسار و23 مارس ومنظمة العمل، إلى اليسار الاشتراكي الموحد وشبيبة 20 فبراير. ظل المجاهد محافظا على روحه المتوثبة، فالرجل الذي كان يخالط المهدي بنبركة وأحمد بنبلة، لم يجد غضاضة في مخالطة شابات 20 فبراير. "هكذا تكلم محمد بنسعيد" يقول ياسين، "محاولة للقبض على الخيط الناظم في مسار الرجل، مع تتبع مختلف المنعرجات المؤثرة التي بصمت ورسمت اختياراته السياسية، ومحاولة فهم هذه الاختيارات في سياقاتها التاريخية الشارحة، حيث يتقاطع المفرد بالجمع. إننا في هذه الشهادة إزاء تجربة مفرد بصيغة الجمع اسمه محمد بنسعيد آيت إيدر". البوحسيني: مصداقية رجل قالت لطيفة البوحسيني، أستاذة التاريخ المعاصر، إن "مصداقية الشهادة من مصداقية الشاهد"، مشيرة في مداخلة لها أن كتاب بنسعيد يحمل إضاءات من شأنها أن توفر المادة لبناء صرح التاريخ. وأكدت الناشطة السياسية، أن الكتاب / الشهادة مزيج بين الذات والموضوع لرجل من طينة خاصة، لا يختلف اثنان حول نزاهته الفكرية وصفاته، وهو ما يجعل شهادة مقاوم وفاعل سياسي من رجالات الحركة الوطنية الكبار ذات قيمة عالية. وأوضحت البوحسيني "إننا أمام شهادة رجل سياسي عايش الكثير من المراحل، ما يجعل شهادته تزاوج بين البوح والسرد، وتساعد على فهم ما جرى وكيف جرى"، مسجلة أن الرجل لم يقدم في مذكراته إفادة حول صراع الاستقلال والشورى والاستقلال، لأنه لم يكن فيها طرفا، وهي خصلة تحسب له، لأن الشاهد النزيه لا يروي أشياء عن قضايا لم يعشها". وتوقفت الباحثة في التاريخ والناشطة النسائية عند تجربة بنسعيد في منظمة العمل ودلالات شعار "دمقرطة الدولة والمجتمع"، وانتصاره لقيم المواطنة والمساواة بين الرجل والمرأة، ومعانقته لمشروع تحرر المرأة، وإحداث قطيعة مع الثقافة الذكورية التي ظلت سائدة لدى عدد من الفاعلين السياسيين. إنه "الزاهد المتعفف والشامخ الحر، الذي يخاطب من خلال الكتاب بنبرة هادئة، سرعان ما تتحول إلى غضب وحسرة على فرص الإصلاح الضائعة" تقول لطيفة، ابنة مدرسة منظمة العمل في بداية ثمانينات القرن الماضي. جماهري: بنسعيد الإعلامي اختار عبد الحميد جماهري، عضو المكتب السياسي للاتحاد الاشتراكي، والصحافي تناول قراءته للكتاب، من زاوية علاقة بنسعيد آيت يدر بالإعلام، بالنظر إلى أنه يمثل واحدا من ثلة الوطنيين الذين خبروا الصحافة في مسيرتهم النضالية، من مواقع مختلفة، إذ كانت الصحافة وسيلة للنضال السياسي، وساهمت في تعميق وعيه بعدد من القضايا وعلى رأسها القضية الفلسطينية. يتحدث بنسعيد عن تجربته مراسلا للعلم، وقد تزامن سفره في 1952 إلى الرباط للقاء مسؤولي الجريدة مع حادث اغتيال فرحات حشاد. ورغم تحول ابن سوس إلى الكفاح المسلح واختيار البندقية ضمن صفوف المقاومة، إلا أنه سرعان ما سيعود بعد التحاقه باليسار بفرنسا، إلى معانقة الصحافة من جديد، من خلال مجلة "أنفاس" مع عبد اللطيف اللعبي، و"23 مارس" التي كان يشرف على رقن موادها على الآلة الكاتبة وتوزيعها على فروع التنظيم في الداخل والخارج. ويرصد جماهري علاقة بنسعيد بالإعلام في مرحلة ثالثة في 1979، حين اقترح على رفاقه في 23 مارس، إصدار صحيفة في المغرب تحمل اسم "أنوال"، والتي شكلت حضنا لجميع اليساريين والتقدميين، خاصة بعد توقيف المحرر. وكانت تجربة مهنية رائدة، لتتوالى علاقة الرجل بالإعلام. يقول جماهري، "إننا بحضرة كاتب يسعى إلى خلق ذاكرة مشتركة، وبناء حاضنة وطنية للحقيقة". بياض: هكذا تحول الفقيه المحافظ إلى مناضل حداثي انطلق الطيب بياض، أستاذ التاريخ بكلية الآداب عين الشق، بالبيضاء في مقاربة الكتاب من زاوية العلاقة بين الذاكرة والتاريخ عند الفاعل السياسي من سؤال كيف تحول الفقيه المحافظ نهاية ثلاثينات القرن الماضي إلى مناضل سياسي تقدمي. يقول بياض إن ذاكرة الرجل متعددة الأبعاد، فهي سيرة بالمفرد والجماعة، وأيضا مساهمة تاريخية، ليورد شهادة لعبد الرحمن زكري، معد الكتاب قال فيها "بخلاف المذكرات، فـسيرة الأستاذ بنسعيد، ليست كتابة لاحقة وبعدية عن أحداث يعود الكاتب لاستدعائها من الذاكرة بعد أن تكون قد مرت على وقوعها سنوات وعقود... إنها- على الأقل في جانبها المتعلق بسيرة الكفاح- كتابة حية وسط المعمعة، وبمداد دافئ". ورغم كل الفروق بين الذاكرة والتاريخ، يرى زكري أن كتاب "هكذا تكلم محمد بنسعيد" أن أقرب إلى الشهادة التاريخية، ولم لا أيضا، إلى نمط ما من التأريخ الاجتماعي السياسي والفكري. لقد خبر بنسعيد البحث التاريخي في جامعة فانسين بفرنسا، يقول بياض، وكان حريصا على تقديم ذاكرته بلغة الشاهد والمراقب والفاعل، تاركا للمؤرخ مهمة إدخالها إلى مختبره لاستخراج المادة التاريخية منها، ليتوقف عند لغة الذاكرة مصدر البوح، فهي حينا حذرة متوخية الحيطة، تستعمل عبارة "قيل لنا"، أو عبارة "حسب ما وصلني من رفاقي"، وتظهر تارة لغة الحسم عندما يتعلق الأمر بطرد الالتباس، وتقديم شهادة للتاريخ بشكل جازم، كما حصل أثناء الحديث عن "حقيقة علاقة المحجوبي أحرضان بجيش التحرير"، أو عند الحديث عن الحركة الشعبية بل يستدعي الشهود في هذه النازلة لإثبات المعطيات وفق منطق "وشهد شاهد من أهلها". وفي مواكبة لمختلف المحطات والتجارب السياسية التي عاشها الرجل من الاستقلال إلى الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ومنه إلى المقاومة قبل أن يعلن التحاقه باليسار الماركسي في 23 مارس، وتجربة منظمة العمل، والاندماج في اليسار الاشتراكي الموحد، هذا المسار الحافل بالمنعرجات والمنحدرات، بآماله وآلامه، بانتصاراته وانكساراته، يقول بياض هو "وحده الشارح والشاهد على السي محمد بنسعيد الإنسان الشريف النظيف العفيف، ووحده الكاشف عن سر انتقال الفاعل السياسي من حضرة السلكة إلى رحاب الحداثة".

“هكذا تكلم بنسعيد” … شهادة على العصر

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

تصفية حسابات تنتهي بجريمتي قتل

وفاة "حلايقي" بموسم ركراكة

مقالات ذات صلة