المغاربة والأكل…حين يغلب التطبع الطبع

مائدة الطعام ضحية تغييرات جوهرية في نمط الحياة وفنون العيش والموضة و"الفرانشيز" في المطعم الأنيق المطل على واجهة البحر، يحرص الشيخ السبعيني على أخذ مكانه وسط طابور طويل من شباب ومراهقين ونساء من فئات عمرية مختلفة، في انتظار دوره لتسليم طلبيته المتضمنة، على الأرجح، لوجبة سريعة مكونة من قطعة لحم مفروم محشوة، بإحكام، وسط أرواق خص في قطعة خبز ورفقتها كيس من البطاطس المقلية وقارورة مشروب غاز. بجلباب صوفي بلون رمادي، و"رزة" شرقاوية معقوفة بإتقان، لم يتوان الشيخ لحظة عن الصف، "شاد الصف مزيان"، يخطو بتؤدة إلى الأمام كما يخطو الآخرون، وبين الفينة والأخرى يمسد رأس الطفل الذي تحمله السيدة التي أمامه، تزجية للوقت، موقنا، كما علمته التجربة بهذا المكان، أن دوره سيأتي لا محالة للحصول على وجبة بدت أنها مفضلة لديه، بسبب جو المرح الذي يخلقه الرجل حوله، والابتسامة التي لا تفارق محياه.في الطرف الآخر من المطعم، اصطفت عشرات الطاولات والكراسي في الهواء الطلق، انتشر فوقها عدد كبير من ملتهمي الوجبات السريعة وعشاق المشروبات الغازية في بداية صيف حار، وحولهم أطفالهم الذين يحظون بوجبة خاصة، عبارة عن علبة بداخلها وجبة صغيرة ولعبة "بوزل"، أو دمى بلاستيكية صغيرة، قبل أن ينطلقوا إلى فضاء الألعاب المـــــــــجاور.على بعيد، أخذ الشيخ مكانه في الطاولة المجاورة، ووضع أمامه "بلاطو" أحمر، قبل أن يشمر على جلبابه ويأتي على الوجبة في طرف العين، ثم يودع المطعم، متلمظا، جهة البحر.قبل هذا اليوم، كان مجرد وجود رجل مسن قادم من ثخوم البادية في مطعم "شبهة" يتطلب من صاحبه إجراءات احتزازية شديدة حتى لا ترصده اعين متلصصة، وتصبح فعلته "شوهة في الدوار"، قبل أن يتحول الأمر، بسبب التغييرات الجوهرية التي طرأت على نمط الحياة ووظائفها، إلى موضة ووجاهة اجتماعية وإثبات ذات وموضوعا للتباهي يتسابق عليه الجميع دون حــرج.فماذا الذي يجري بالضبط؟ وهل فقد المغاربة، فعلا، "شهية" الأكل في البيوت ملتفين على مائدة الطعام، كما جرت العادة منذ سنوات"؟ وما تأثير خروج المرأة إلى العمل خارج البيت في تغيير نمط العيش، وضمنه نمط الأكل، لدى الأسر المغربية؟ وكيف ساهم الانفتاح الإعلامي على الشعوب الأخرى في خلف نوع من "العولمة الغذائية" بمعايير ومقاسات متواضع عليها عالميا؟ وما تأثير هذا الاكتساح الغذائي، بأصنافه وأشكاله وطقوسه وجغرافياته المختلفة، على صحة المغاربة؟ وهل نسير، كما يقول البعض، في تجاه الصورة النمطية للإنسان الأمريكي الذي يلتهم مئات المثلثات من "البيتزا" كل يوم، دون أن تفارق عينيه البرامج التلفزيونية الواقعية؟يعتقد كثير من مغاربة المدن أنه حين دخلت طنجرة الضغط من باب المطابخ المغربية، هربت «البنة»، أو المذاق الجيد من النافذة، وعدد منهم مازال يصف، إلى حدود اليوم، «الكوكوت مينوت» بجني صغير في البيت، يعلن عن بداية استواء الأكل بإطلاق صفير مزعج، في نوع من المقارنة غير العادلة مع الطبخ التقليدي الذي كان يعتمد أواني منزلية خزفية وأفرانا مصنوعة من التراب والطين، ولا يخضع الطبخ فيها إلى أي مقاييس محددة، سواء من ناحية التوقيت أو المقادير، أو نوعية التوابل.ولم تكن طنجرة الضغط أول ضيف ثقيل على المطبخ المغربي، بل عدد من الأواني والأدوات والأفران الكهربائية التي أضحت أكسسوارات أساسية في أغلب البيوت المغربية، وطردت الأواني الطينية والخزفية إلى غير رجعة إلا في بعض المناطق الأمازيغية، ما انعكس كثيرا على طبيعة الوجبات الغذائية والمواد المكونة منها، وأشكالها ومذاقها وطريقة عرضــها.وكغيره من التعبيرات الثقافية والاجتماعية، خضع المطبخ المغربي ومضمون الأكل وطريقته إلى عدد من التغييرات و»الاهتزازات» بتغير نمط الحياة وتطور فن العيش لدى الأسر المغربية.وساهم الانفتاح السريع على العالم والتقارب بين الشعوب والمجتمعات وأنماط العيش، بسبب حمى القنوات التلفزيونية والانتشار الواسع للانترنيت، في إحداث مراجعات جذرية على المائدة المغربية التي تحولت من طاولة مستديرة يتلحق عليها أفراد الأسرة، قعودا على الأرض، في مواعد محددة لالتهام وجبة واحدة في أغلب الأحيان، إلى «قاعة أكل»، بمواصفات خاصة ومقاعد محدودة يجلس على أطرافها أفراد الأسرة بعد تزيينها بأنواع من الأكل توضع تباعا بترتيب زمني معين، إذ أصبح كثير من المغاربة يتداولون معجما من نوع «أكلة البداية» المكونة من عدد من السلطات والمقبلات، والوجبة الأساسية أو الوجبات الأساسية، والوجبة النهائية، أو «الديسير».وفي الوقت الذي تحرص بعض الأسر على طقوس خاصة بالأكل، ضمنها احترام توقيت معين للوجبات وحد أدنى من التنويع الغذائي الموزع على الفيتامينات الأساسية والسعرات الحرارية التي يحتاجها الجسم، لا تبالي أسر أخرى بكل هذه الشكليات، مادام الأساسي بالنسبة إليها توفر الأكل في حد ذاته، لذلك يصعب، اليوم، حصر تقاليد الأكل المغربية في نمط وشكل واحد، كما يصعب الحديث عن مطبخ مغربي خالص، كما كان يجري سابقا بأقل قدر من المجازفة.من التغييرات الجوهرية الأخرى التي طرأت على نمط الأكل المغربي، تحوله إلى سلعة تجارية مدرة للربح، إذ يمكن الاستشهاد هنا بالعدد الكبير من المطاعم و»السناكات» ومحلات الوجبات الخفيفة التي انتشرت، خلال 15 سنة الماضية، مثل الفطر في عدد من المدن المغربية لتلبية الطلبات المتزايدة على الأكل خارج البيت. وطبيعي أن يخضع العرض إلى قانون الطلب وحجمه وقيمته، إذ تختلف هذه المحلات في تقديم الوجبات الغذائية حسب نوعية الزبناء والوسط الاجتماعي الموجودة به، فكما يمكنك أن تصرف، بمدينة مثل الدار البيضاء ألف درهم على وجبة عشاء، يمكنك أن تصرف فقط 7 دراهم في محل آخر لإسكات خفافيش الجوع في بطنك، مع احتساب ما شئت من الفروق.في مرحلة أخرى، دخل الأكل إلى عصر المنافسة بين الماركات العالمية «فرونشيز» القادمة من وراء البحر، إذ لم يعد السؤال الأهم، اليوم، ماذا أكلت؟ ولكن أين أكلت بالضبط؟ وفي الجواب تتوي عناصر اختلاف وتميز يحرص بعض المغاربة على إظهارها نوعا من التباهي في إطار ما يسمى «موضة الأكل» التي تسير جنبا إلى جنب مع أشكال أخرى من الموضة واللوكات الجديدة في اللباس والسيارات والساعات وتصاميم البيوت والماكياج وطريقة تصفيف الشعر... يوسف الساكت

المغاربة والأكل…حين يغلب التطبع الطبع

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

3 أسئلة: الوجبات الجاهزة تضر بالجهاز الهضمي

"فاست فود" يعوض "خبز وزيتون" المغاربة

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات