“ضايـة عـوا” … لا أثـر للحيـاة

جف ماؤها ومهن موسمية ماتت وزادت من معاناة شباب عاشوا من كراء القوارب والخيول تحولت "ضاية عوا"، الواقعة بين إفران وإيموزار كندر، إلى أرض قاحلة تبكي زائرها وتدمي قلبه حسرة عليها، بعدما جف ماؤها لعوامل مختلفة بينها الجفاف واستنزاف آبار الضيعات الفلاحية المجاورة للفرشة المائية، لتختفي كل أنواع الطيور والأسماك، وتقتل عن سبق إصرار كل مظاهر الجمال فيها. من يزورها لأول مرة، يعتقد أنها مجرد حلبة لألعاب الفروسية ولن تصلح إلا لذلك، بعدما تحول ماؤها إلى مجرد ذكرى تتناقلها ألسن العارفين بماضيها الزاهر، شفقة على فضاء طبيعي جميل قتل عمدا وعن سبق إصرار وفي غفلة من المسؤولين، في انتظار تساقطات ثلجية ومطرية قد تعيد إليه روحا وئدت. "موت" الضاية أباد جميع وسائل عيش مئات شباب دواوير مجاورة، وأقبر مهنا انتعشت قديما، إلا كراء الخيول لما تبقى من زوار قد يقودهم إليها جهلهم بمصيرها المؤلم المدمي للقلوب رأفة لحالها المزري الذي ما تصوره أحد في أيام فوران الماء على طولها وعرضها، حيث تترامى آلاف الأشجار الوارفة. جفاف ضاية على بعد كيلومترات معدودة من إيموزار كندر، في طريقهما إلى إفران بحثا عن ثلج اختفى مبكرا من جبالها الشامخة، انعرج الصديقان يسارا في اتجاه ضاية ألفا المرح بين أرجائها. سارا لمسافة قصيرة قبل أن تطالعهما صورتها الجديدة خالية من الماء وكل أشكال حياة الإنسان والحيوان والطير والشجر. "أواه، رحمتك يا رب" صاح أحدهما باندهاش غير متوقع لما رأته عيناه. لا أثر للماء وكل مظاهر الحياة في ضاية عوا أو "بحيرة النورس" كما يسميها أبناء المنطقة. فضاؤها الممتد على عشرات الهكتارات، قاحل أشبه بساحة للفانتازيا مترامية الأطراف، في انتظار من يؤنس شرودها بين أشجار أرز مترامية. وحدهم أصحاب الخيول، وجدوا بالمكان في تلك الظهيرة المشمسة. أمسكوا بوسيلة كسبهم، بحثا عن زبناء يجودون عليهم ببضعة دراهم بعدما تحولوا إلى أشباه متسولين في زمن كسدت فيه مهنتهم بجفاف هذه الضاية وموت كل وسائل عيشهم وكل الكائنات والطيور والأسماك، المختفية من أحضانها الجافة. "تركب أولدي أو تتصور مع الخيل. عطيني لي بغيتي واخا غير 10 دراهم" يخاطب المسن أحمد، وافدا أدمعت عيناه حسرة على مآل ضاية لم يحرك في مسؤولي المنطقة، بذرة الشفقة والرحمة لحالها. بدا الرجل مستعدا للتنازل عن نصف المبلغ، إرضاء للزبون الأول بعد 5 ساعات من الانتظار والترقب. مدخول الرجل الذي رسمت التجاعيد لوحة بؤسه على وجهه، قل كثيرا منذ جفت الضاية في عز الشتاء وقل الإقبال عليها. تنهد كثيرا في حديثه عن مصير ما توقعه لنفسه وللبحيرة، متحاشيا الخوض في أي حديث عن أسباب وضعها الحالي برره بقلة التساقطات دون أن يمحي مسؤولية آبار الضيعات العميقة. خيول للكراء لم تعل الابتسامة وجه الرجل، إلا بعد مناولته مبلغا زهيدا اعتبره "فاتحة خير" ليومه، قبل أن تزداد فرحته بحلول حافلة تقل تلاميذ في رحلة دراسية، لينطلق تهافته وزملائه وتنافسهم على زبناء قد يغريهم ركوب الخيل والتجوال به في فضاء الضاية الممتد على مسافة مهمة، دون اكتراث باحتجاج بعضهم. بعضهم تحول لمرشد دال لزوار صغار من مدينة شرقية، على أسباب جفاف تلك الضاية، ساردا جميع مظاهر الحياة والجمال التي لم يعد لها وجود فيها، بعدما كانت طيلة عقود ملاذ الزوار من داخل وخارجه الوطن للاستمتاع بطبيعتها الصافية ومناظرها الخلابة المحاطة بأشجار البلوط والأرز والصنوبر. وحدها الأشجار حافظت على حياتها، أما ما دونها فلم يعد له أثر، بما في ذلك الكائنات الحية في الضاية التي طالما عاش شباب من كراء القوارب للقيام بجولات محدودة زمنيا فيها مقابل 50 درهما للجولة، على إيقاع أصوات طيور اللقلاق محلقة في سمائها راسمة لوحات تزيد الفضاء جمالا وإمتاعا للناظر. معالم السحر والجمال اختفت من فضاء مساحته تفوق 140 هكتارا مترامية، بعدما كان إلى حين وجهة سياحية أبرز وطنيا، بعضهم طالما أغراه الاستمتاع بجماليته وما به من أسماك متنوعة سيما سمك الزنجور النهري، وطيوره المختلفة سيما اللقلاق والبط البري وطيور الكروان. لكن كل ذلك أضحى مجرد ذكرى تحتفظ بها ذاكرة من زارها في سنين سابقة، لأنه لم يتبق منها شيء إلا ما بقي من خيول أمازيغية مزينة بأسرجة منقوشة بزخارف مغربية بامتياز، وحدها تؤثث الفضاء المحتاج إلى التفاتة رسمية لإعادة الروح إليه بإعادة ملء الضاية بالماء أيا كانت التكاليف باهظة. انتظار المطر حال ضاية عوا أشبه بما عاشته في السنوات الخمس الأولى من ثمانينات القرن الماضي، لما جف ماؤها بفعل الجفاف الذي ضرب المغرب، لتتحول إلى فضاء للفروسية أقبرته التساقطات الثلجية والمطرية التي أعادت الروح للبحيرة وكل البحيرات الواقعة بتراب إقليم إفران، التي جفت نسبة مهمة منها للسبب نفسه. وفي انتظار أمطار كافية تعيد الروح إليها، تبقى الضاية التي طالما جذبت أعدادا كبيرة من الزوار في الصيف والشتاء وكل الفصول طمعا في فرص مواتية للاستجمام والترفيه والترويح عن النفس، (تبقى) في انتظار تكاثف جهود جميع الأطراف والمسؤولين، لحماية ثروتها المائية من جشع الفلاحين الكبار. حال الطبال أشبه بحال حصان الضاية ومالكه، بعد أن جفت مياهها وقل زوارها، إذ "لم يعد يؤمن كلأه والقوت اليومي لصاحبه، بعد إصابته بالضعف والوهن"، في انتظار إنعاش طرق ووسائل إطعامه بإعادة الحيوية لهذا الفضاء واحدا من أبرز المواقع السياحية بإقليم إفران، على غرار جباله وضاياته ومنتجعاته. إعداد: حميد الأبيض (فاس)

“ضايـة عـوا” … لا أثـر للحيـاة

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

تفكيك عصابة ببرشيد

الساعة البيضاء موضة الصيف

مقالات ذات صلة