شـارع الـربـاط… ذاكـرة آسفـي

شكل مركزا للإشعاع الديني والثقافي والسياسي في تاريخ المدينة شارع الرباط بآسفي.. أحد أعرق الشوارع بالمدينة الراقدة على المحيط الهادي، بمجرد ولوجه، تجده قادرا على استنفار مشاعرك واستفزازها، في وقت يأخذ عليه الكثيرون، ضيق أفقه وتبدل أحواله، كتبدل أحوال مدينة شاخت وانمحت معالمها، وتحولت أخرى إلى خراب يشهد على عبقرية مسؤوليها. بهذا الشارع، تجد كل ما تبحث عنه من عطارين ومبدعين وصناع، وبه تجد قيم التسامح وقبول الآخر، إذ بمجرد أن تتحدث عنه، حتى تأتيك الشهادات بانسياب عن التجار اليهود الذي مروا من هنا، وعن علاقتهم الوطيدة بمدينة حملت اسما بربريا.كان هذا الشارع المسفيوي المثقل بنوستالجيا زمن ماض، فيما سبق مهدا للحركات الاحتجاجية ولنضال القوى اليسارية بحثا عن الكرامة والعدالة الاجتماعية، في زمن كبح النضالات والزج بالمناضلين في غياهب السجون.شارع الرباط... القلب النابضكثيرون هم من وجدوا ضالتهم في هذا الشارع، لاسترجاع ذكريات الماضي، رغم أنهم يأخذون عليه تبدل أحواله وضيق أفقه، فالروائي نور الدين وحيد، اختار عنوانا لرواية له شارع الرباط، لما لذلك من رمزية لذاكرة مكان، وقال عن هذا الشارع، «ياذارعا شارع الرباط تمهل وإن كنت راكبا فترجل...».ويؤكد سعيد، أحد أبناء المدينة القديمة المجاورة لشارع الرباط، «إنه القلب النابض للمدينة، وجزء من ذاكرتها التي لن تنمحي، فزائر هذه المدينة لابد أن يعبر هذا الشارع، والأزقة المتفرعة عنه، ليشم عبق التاريخ، ويكتشف مجموعة من المعالم الهندسية التي تؤرخ لحقبة من تاريخ الوجود البرتغالي بهذه المدينة».السير في هذا الشارع، يضيف محدثنا، وإن كان متأنيا، بفعل وقع خطوات البشر البطيئة، ونظراتهم العميقة التي لا يقدر على فك شفراتها إلا المهووسون بعبق أريج بركة صاحب الرباط، الشيخ أبي محمد صالح الذي يرقد بهذا الشارع، منذ قرون خلت، أما المصطفى حمزة أستاذ التاريخ، والذي قضى جزءا من ذكريات الدراسة الثانوية بهذه المدينة، خلال السبعينات، فيؤكد أنه أينما وليت وجهك بهذا الشارع الممتد، تعانق عبق التاريخ المنبعث أزيجه من كل البنايات التي تحف طريق الرباط وصاحبه بهالة من التكبير، لا يفهم كنهها إلا مريدون متعففون تشع من جباههم سمات الطاعة والتقديس.عبق التاريخ رباط الشيخ المنتصب بهذا الشارع، والذي تقودك إليه عدة أزقة «هو رباط لشيخ زمانه أبي محمد صالح، واحد من أقدس الأماكن في نظر الكثيرين من أبناء المدينة المتحدرين منها، إذ يعد هذا الشيخ من كبار دعاة الإسلام بشمال إفريقيا، ويرجع إليه الفضل في تحويل سكان آسفي إلى اعتناق الإسلام، كما عمل أيضا على إحياء فريضة الحج بمجموع المغرب، بعد أن أفتى علماء المغرب والأندلس بسقوطها، لعدم أمن الطريق، ويسر على الحجيج الوصول إلى مكة بأمان، وأقام بواسطة أبنائه ومريديه عدة رباطات على طول الطريق، فزاد إقبال الناس على الحج حتى أصبح له ركب منتظم ينسب إليه ويسمىبالركب الصالحي»، يقول أحد الباحثين في تاريخ عبدة.وقد استمر الإشعاع الديني لرباط آسفي بعد وفاة مؤسسه لقرون طويلة تجاوزت أربعة قرون.وأنت تلج هذا الشارع، تنتصب عند مدخله الشمالي، معلمة عمرانية وحضارية.. إنها معلمة قصر البحر، الذي تحدى الأمواج العاتية التي ترتطم به لقرون، لكنه لم يستطع الصمود أكثر أمام إهمال المسؤولين، الذين يأبوا إلا أن يحولوا آسفي إلى مدينة بدون ذاكرة «فمادامت ذاكرة بعض المسؤولين مثقوبة، فإنهم يودون الإجهاز على ذاكرة هذا الشارع ومعه كل المعالم التي هي ما تبقى بهذه المدينة»، يقول شاب في الثلاثينات من عمره.وقد تم تشييد هذه المعلمة العمرانية، قبل أزيد من خمس مائة سنة، وتأخذ هندستها طابع الفن المعماري الإيمانويلي الذي يعتبر من أرقى الفنون المعمارية البرتغالية والتي توجد في موقع استراتيجي بالمدخل الشمالي لشارع الرباط على مساحة تقارب أربعة لآف متر مربع، إذ تشير مجموعة من المعطيات التاريخية إلى أن هذا القصر كان في السابق مركزا تجاريا، واستغل أيضا سجنا ليصبح بعدها خزانا للحبوب، ويتكون من ثلاثة أبراج تظهر شامخة، منها البرج المربع الذي توجد به قاعة كانت مخصصة للتعذيب وفوقها مباشرة مكتب قائد الحامية العسكرية البرتغالية الذي يوجد به درجان، واحد يؤدي من مكتب القائد إلى الميناء القديم، والآخر يؤدي إلى أحد المخازن، ثم سطح خاص بالمراقبة الفوقية، وبرج دائري في الجنوب الغربي مخصص هو الآخر للمراقبة.غير أن قصر البحر تعرض إلى عدة انهيارات دون أدنى تحرك من المسؤولين، إذ تشير عدة معطيات إلى أن من بين أسبابها وجود خط حديدي بجانبها تمر منه القطارات، يربط كيماويات المغرب بميناء آسفي التي أدت إلى تعرضها لتصدعات وشقوق بسبب الاهتزازات المتكررة، ثم المياه البحرية الموجودة على طول جرف أموني والتي تتكون من مواد كيماوية حامضية ترمي بها كيماويات المغرب، وهشاشة الصخرة المشيد عليها قصر البحر، علاوة على كل هذا، تشير معطيات علمية أيضا إلى أن رصيف الميناء الذي يفصل الميناء وقصر البحر زاد في حدة انكسار الأمواج التي ترتطم بقوة بهذه الصخرة.ورغم ذلك، فمازال قصر البحر، يغري الزائرين وسكان المدينة، ويرسم مشهد بانوراميا، لا يحد من جماليته سوى ذاك التواري الوجل لأشعة الشمس خلف أمواج المحيط.ملتقى الأدباء رواد مقهى الغروب، غير البعيدة عن رباط الشيخ أبي محمد صالح، عادة ما يفتنون بذلك العشق الحميمي لتلك المعالم العمرانية التي ترقد إلى جانب الشيخ ابي محمد صالح شاهدة على جزء من تاريخ مدينة تليدة.مقهى «البريد» أو «جيجين» تغريان الكثيرين من الأدباء والمثقفين من أبناء المدينة، حيث يسترجعون ذكريات الصبا، ولحظات المتعة التي كان يخلقها هذا الشارع، باعتباره مركزا إشعاعيا فكريا وسياسيا، احتضن مقرات العديد من الأحزاب السياسية، وشهد مواجهات بين المستعمر والوطنيين.فبمقهى البريد، يجلس «أحمد» وفتح دفتي كتاب ثم يغلقه ليبوح بشيء من ذكريات الماضي، «عندما كانت سينما روكسي تضيء ليل شارع الرباط، وتعرض أحسن الأفلام، وتحتضن بدفء أبناء هذه المدينة.لكن اليوم كل شيء في طريقه للزوال، فالمآثر العمرانية تتعرض للتلف والانهيار وربما الاندثار غدا نتيجة سياسة القائمين على شؤون هذه المدينة.وحده شارع الرباط، ودعوات المتشبعين بالفكر الصوفي الصالحي، يرفعون أكف الضراعة أن يبقي آسفي قلعة محصنة ضد الاندثار وثغرا من ثغور المغرب المعمور. تلك المدينة والتي وطأتها قوائم فرس عقبة بن نافع الفهري، حينما حل بالمغرب فاتحا.فشارع الرباط، هو ذلك المكان الذي سيظل ليتسع لآلاف البشر، ويروي نهمهم الروحي والمادي، شأنه شأن صاحب الرباط، الشيخ أبي محمد صالح. محمد العوال (آسفي)

شـارع الـربـاط… ذاكـرة آسفـي

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

إضراب واعتصامات بإنزكان

رفض تسجيل اسم صحراوي بالعيون

مقالات ذات صلة