الباحث عبد السلام الخلوفي يكشف أسرار الصنعات الأندلسية المغربية صدر حديثا للباحث الموسيقي والفنان عبد السلام الخلوفي كتاب جديد اختار له عنوان "صنعات وحكايات من الموسيقى الأندلسية" عن منشورات "سليكي أخوين" بطنجة. في هذا الحوار يكشف الباحث المغربي عن دوافع اختياره التأليف في هذا الموضوع، ويميط اللثام عن أسرار الصنعات الأندلسية من الناحية الأدبية والشعرية، كما يستحضر الخلوفي حدود المساهمة المغربية في تشكيل ملامح هذا الفن العريق الذي نشأ وتربى بين عدوتي المغرب والأندلس، وأشياء أخرى تجدونها في الحوار التالي: أجرى الحوار: عزيز المجدوب ما هي دوافع تأليفك كتابا عن الصنعات الأندلسية؟ هي دوافع كثيرة ومتشعبة، موضوعيا فإن النصوص المغناة في هذا الطرب، ليست قصائد كاملة، وإنما هي إما أبيات منتقاة من قصائد عمودية فصيحة، لشعراء أندلسيين أو مغاربة أو مشارقة، أو عبارة عن أقفال وأدوار مختارة من موشحات وأزجال أو عبارة عن أقسام من قصائد ملحونة بالدارجة المغربية، وهذا التباين بين مرجعيات النصوص "الصنعات" وتتابعها وتداولها في الميزان الواحد، يشكل أول العوائق في مسألة استيعاب النص وبالتالي فهمه وتذوقه. من جهة ثانية بنية الألحان الأندلسية تعتورها هنّات عديدة، من ذلك مدّ ما لا يليه حرف مد، وبخس حروف أخرى من مدها رغم وجود ما يستدعي ذلك، وتقطيع الكلمات في الجمل اللحنية، وكذا التفريق بين عنصرين لابد لهما من التتابع لتمام المعنى، بالعديد من التراتين والنانات (تيريطان/ تيريطاي/ يا لا لان / ها نانا) التي استعملت في هذه الألحان لإتمام الأدوار الإيقاعية. هل يمكن أن تقدم لنا أمثلة عن ذلك؟ هناك مثلا في صنعة "ليل الهوى يقظان"، في ميزان بطايحي العشاق، نغني المبتدأ: "ليلُ" ونكرره ثلاث مرات، قبل أن نقرن معه المضاف إليه: "الهوى"، ثم نشرع في غناء العنصرين بشكل معكوس بداية من المضاف إليه إلى المبتدأ، هكذا: الهوى ليلُ، ونتبع الغناء بمجموعة من النّانات (ها نّانا) بشكل متكرر قبل أن نغني الخبر: يقظان، وعليك أن تتخيل العديد من الحالات المشابهة في الأنساق اللحنية لطرب الآلة. ولعل ما يزيد من تعميق الهوة بين مضمون الغناء وسلامة التلقي، هو الأداء الجماعي لهذا الطرب، إذ مسموح فيه أن يؤدي الفرد وقتما شاء ويصمت وقتما شاء، فتخفت الأصوات أو ترتفع، وقد يبدأ الواحد من المنشدين الجملة في الطبقات الحادة أي الجوابات وعندما يعسر عليه إكمالها قد يصمت أو يكملها في المنطقة الخفيضة أي القرار، بالإضافة إلى أن طرب الآلة من الأشكال الغنائية التي تتبنى "الهيتيروفينية" مبدأ في الغناء، أي كل شخص يمكنه أن يغني نفس الجملة اللحنية بطريقته الخاصة بتنميقها بإحساسه اللحظي، وهذا ما تترتب عنه ضبابية في التلقي فالمستمع لا تصله بوضوح إلا كلمات متطايرة وبعض التراتين والنانات، ولعل هذا ما جعل الكثيرين يختزلون تسمية طرب الآلة بتريطاي يا لالان أو هانانا. وماذا عن الجانب الذاتي في هذا الاختيار؟ من الناحية الذاتية مارست هذا الفن منذ نعومة أظفاري، فمنذ 1983 التحقت بجوق المعهد الموسيقي لمدينة طنجة بقيادة أحد أعلام الآلة الكبار الشيخ أحمد الزيتوني، وشاركت معه في العديد من المهرجانات الوطنية بفاس وشفشاون وآسفي وغيرها، كما اشتغلت مع جوق العربي السيار بقيادة المعلم محمد العربي المرابط عازفا على العود ومنشدا ثم أسست تجربتي الخاصة جوق ليالي النغم أواسط الثمانينات وجبت العالم بهذا الطرب في البلدان المغاربية والعربية ودول الخليج وأوربا وأمريكا. باختصار مارست هذا الفن لما يزيد عن أربعين سنة، سمحت لي أن أرى هذا الفن وطرق أدائه من واقع الممارسة، فكنت ألاحظ أن كثيرين يستشكل عليهم أمر فهم الكثير مما نغنيه وقد يؤدى أحيانا محرفا، ورغم محاولة البعض التوسل بمعاجم اللغة لتقريب المعاني فقط، فقد استنتجت، خصوصا أن النصوص المغناة منتقاة بعناية، أن أمر هذا التأليف من أوكد المؤكدات، وآنست في نفسي القدرة على هذا الأمر، فقد مارست هذا الفن لسنين طويلة ومن جهة أخرى، اشتغلت مدرسا للغة العربية مدة 33 سنة وكنت أستاذا مكونا لأساتذة التعليم الثانوي الإعدادي والتأهيلي لهذه المادة في المركز الجهوي للتربية والتكوين بالرباط، وعلى علاقة دائمة مع علوم النحو والصرف والبلاغة والعروض وفقه اللغة والسير والنقد الأدبي والأجناس الأدبية، فكانت هذه الثمرة "صنعات وحكايات من الموسيقى الأندلسية المغربية". لماذا التركيز بالضبط على الصنعات ضمن المتن الشعري لهذا الطرب؟ قاعدة التحليل مبنية في أساسها على التجزيء، فلكي تفهم الكل لابد أن تمحص الجزء، فالصنعة هي أصغر وحدة في الميزان، ونقصد بها المقطوعة الشعرية الواحدة المغناة ضمن مجموعة من المقطوعات الأخرى المشكلة للميزان الواحد، قد يتضمن ميزان واحد ما يفوق 30 صنعة، وكما أسلفت كل صنعة قد تنتمي لنوع شعري معين، فقد تجد بيتين فصيحين من بحر البسيط: "لا فرّق اللهُ شمل العاشقين أبدا/ حتى يعود الحصى غصنا بأوراق/ وتنبت الخمر في أسنان شاربها/ ويضحك الكأسُ إعجابا من الساقي" ومباشرة صنعة بالعامية أي ما يسمى "برولة": "حيي رسم لحباب يا زايرهم بسلام ظنيت حبابي ما نساوني/ راني بالتيه والجفا روضي صار حطام يلقح غصني مهما سقوني". وبعدهما قد نجد موشحا: "يا ليلة الوصل وكأس العقار/ دون استتار/ علمتماني كيف خلع العذار". وحتى الوحدة الموضوعية هي من باب الاستثناء في طرب الآلة وليست قاعدة، نجد أشعار الإصباح وانبلاج شمس يوم جديد في نوبة العشاق، ونجد غروب الشمس وأفولها في نوبة الماية وتيمة المديح النبوي في نوبة رمل الماية، وبعض الصنائع المتعلقة بالليل في نوبة رصد الذيل، ما عدا هذا فباقي النوبات تتداخل فيها الأغراض، لذا فالنظر الطبيعي لفهم النصوص كان من منطلق الصنعة الواحدة، ما دامت في الغالب لا رابط يوجد بينها وبين ما يسبقها ولا مع ما يليها. هل يمكن فصل الجانب الأدبي والشعري عن الموسيقي في فن الآلة؟ بشكل عام تلازم العلاقة بين النص الأدبي باختلاف مرجعياته ولحنه أمر مفروغ منها، فالألحان هي قراءة أخرى للمعاني، وكثيرة هي الأمثلة في مجال الأغنية، للنماذج التي ينجح فيها الملحن في إعادة تشكيل معاني النص الأدبي، بالجمل اللحنية سواء من حيث اختيار المقامات المستعملة، أو في التركيز على إعادة بعض الكلمات أو العبارات أو حتى الجمل، بمعنى أن الملحن يقدم قراءته للنص نغما وإيقاعا. في حالة طرب الآلة قد نجد هذا التلازم ما بين المبني والمعنى، في بعض الصنائع التي تنساب ألحانها بشكل سلس ولا فواصل بين وحداتها المعنوية، لكن في الغالب الأعم تحضر العوائق التي ذكرتها آنفا من استعمال مدود ليس في محلها، أو الإحجام على إتيانها حيث يتوجب حضورها، الأمر الذي يجعل مسألة تكامل الشعري والأدبي مع الموسيقي في أحيان كثيرة منعدماً بالمرة. في كل مرة يتم استحضار الآلة الأندلسية يتجدد النقاش حول مساهمة المغاربة فيها، كيف ترى هذه المسألة؟ يكفي أن أذكر في هذا الصدد أن من ينسب إليه وضع اللبنات الأولى لهذا الفن العريق، وأتحدث عن الفيلسوف السرقسطي أبي بكر ابن باجة التجيبي عاش في كنف دولة المرابطين وكان وزير لأميرهم ابن تافلويت، وعاش عشرين سنة بالمغرب وقتل بفاس مسموما، لما عرف عنه من فلسفة عقلية تناصب المتصوفة العداء، ثم إن الهجرات لم تتوقف بين عدوتي المغرب والأندلس وشكلا قطبا واحدا زمان المرابطين والموحدين والمرينيين وحتى الوطاسيين، وبعد سقوط آخر الممالك وهي غرناطة سنة 1492، استقبل المغرب الموريسكيين في الطرد الأول وفي الثاني. هذا فن نشأ وتربى بين عدوتي المغرب والأندلس، وحافظ المغاربة عليه وأضافوا له كثيراً، وما نجده في بقية الدول المغاربية، هو فقط صدى لهذا الطرب بتغييرات عديدة طالت بنية الألحان ففي الصنعة الجزائرية وغرناطيها يظهر بجلاء الأثر العثماني، وفي المالوف شرق الجزائر وفي تونس وليبيا نجد ربع الصوت القادم من مصر، أما ما نتداوله إلى يوم الناس في المغرب فبنيته هي نفس بنية الموسيقى الغربية التي تتأسس على المسافة الكاملة ونصفها ولا علاقة لها بربع الصوت إطلاقا، إذ معلوم أن الموسيقى الكلاسيكية الغربية، انبنت على أساس إرث الموسيقى الأندلسية، سواء في مراحل الأداء التي تتبنى المقدمة والمرحلة البطيئة والمتوسطة فالسريعة أو في تفاصيل عديدة ليس مجال ذكرها الآن. صنعات وحكايات كتاب "صنعات وحكايات من الموسيقى الأندلسية المغربية"، حسب مؤلفه، هو محاولة للمساهمة في التأليفات المتعلقة بهذا الفن العريق، ولكن من وجهة أدبية صرف. صدرت أعمال تقارب الجوانب التاريخية وكتب خاصة بالأشعار المغناة في مختلف النوبات من أجل توفير المتن الشعري لكل من يود أداء طرب الآلة، وكتب أخرى اختارت التدوين الموسيقي لنوبات الآلة، لكن عنصرا مهما وأساسيا بقي فيه نقص حاصل، وهو كيف يفك الممارس والمتلقي مغالق بعض النصوص المؤداة، لذلك كان هذا الكتاب الذي توجه لأصغر مكون لكل ميزان من ميازين النوبات، وهي الصنعة والمقصود بها كل مقطوعة شعرية موجودة في هذا الطرب سواء كانت من الفصيح أو من الموشح أو من الزجل أو من البرولة وأقصد الأشعار المنظومة بالعامية المغربية، ومحاولة موقعته ضمن نصه الأصلي وتفكيك بنيته لغة وعروضا وبلاغة ومعانيَ، لأني أعتبر أن مسألة فهم الأشعار هي مدخل أساسي للتذوق الواعي. واختار الباحث عبد السلام الخلوفي للكتاب عنوان "صنعات وحكايات من الموسيقى الأندلسية المغربية" لأن الغرض من التأليف، حسب قوله، كان هو وضع الصنعة أي المقطوعة الشعرية الواحدة تحت المجهر، وكل صنعة تخفي وراءها حكاية بل حكايات سواء تعلق الحكي بالشاعر أو بزمانه أو بالظروف التي قيلت فيها، وبعلاقاتها المتشعبة مع بقية الأبيات المشكلة للقصيدة الأم، أو علاقة الصنعة بصنواتها التي تسبقها أو التي تليها. وانتقى الخلوفي في الكتاب ثلاثين صنعة من مختلف ميازين الموسيقى الأندلسية المغربية، وكل صنعة حاول أن يموقعها ضمن القصيدة الأصلية، ويعرف بقائلها وزمانه وأحكي حكايته، ثم يشرح الأبيات لغويا وعروضيا وبلاغيا، لتقريب المعاني، خاصة ولغة هذه الأشعار ليست سهلة بالمرة، ولن تسعف عملية التوجه للمعاجم لفهمها، بل تتطلب تمحيصا من كافة الجوانب لفك أسرارها. في سطور < فنان وباحث موسيقي ومعد برامج فنية. < من مواليد طنجة وخريج معهدها الموسيقي. < أستاذ مكون بالمركز التربوي الجهوي بالرباط: مادة التراث الموسيقي المغربي بشعبة التربية الموسيقية ومادة اللغة العربية. < ساهم في موسوعة الفنون مع أكاديمية المملكة ببحث حول "مسألة الهوية في الأغنية المغربية العصرية". < معد مجموعة من البرامج التلفزيونية منها "ميراث" و"شذى الألحان" و"أنغام الأطلس" و"الخالدات" و"أنغام" و"نغنيوها مغربية" و"أنغام عشقناها". < اشتغل مديرا فنيا في العديد من المهرجانات منها "مولديات البوغاز" و"مواسم خالدة" و"الأندلسيات الأطلسية" وغيرها. عبد السلام الخلوفي (خاص)