رحيل المغربي الذي شارك في رحلة بحرية على قارب فرعوني عبر المحيط الأطلسي غيب الموت، الأحد الماضي، المغامر والرحالة المدني آيت أوهني، عن سن ناهزت الخامسة والثمانين، والذي يعد المغربي الوحيد الذي شارك ضمن رحلة "رع 2" الاستكشافية التي قادها المغامر والرحالة النرويجي "تور هيردال"، وانطلقت من شواطئ آسفي في ربيع 1970، لتعبر المحيط الأطلسي في اتجاه القارة الأمريكية، في قارب مصنوع على الطريقة الفرعونية، على متنه ثمانية رحالة من دول مختلفة. في هذا الخاص تستعيد "الصباح" أهم كواليس هذه الرحلة التي كانت البصمة المغربية حاضرة فيها، من خلال هذا المغامر المغربي الذي ودعنا. إنجاز: عزيز المجدوب في البدء كانت الفرضية. فرضية داعبت خيال وذهن العالم النرويجي تور هيردال سعى من خلالها إلى ضحد وهْم أوربي، مفاده أن الرحالة "كريستوف كولومبوس" هو مكتشف القارة الأمريكية، في الوقت الذي كانت فيه هذه القارة مهدا لحضارات عمرت آلاف السنين قبل أن يحل بها البحارة الإيطالي بدعم إسباني، بما يعني أن هناك آخرين سبقوا إلى القارة المكتشفة. حاول "تور هيردال" إثبات أن الحضارات التي كانت قائمة في القارة الأمريكية قبل وصول كولومبوس إليها، لم تكن معزولة، وإنما كانت تربطها ببقية الحضارات في القارات الأخرى أكثر من صلة، وأن البحارة الصينيين والعرب كانوا أيضا يتنقلون إليها، بل حتى الفراعنة الذين تعود حضارتهم إلى آلاف السنين كان بإمكانهم تجاوز ما كان يسمى "بحر الظلمات" أي المحيط الأطلسي، عبر قوارب مصنوعة من قصب البردي كالتي كانت تتحرك في واد النيل، وبالإمكان تكرار التجربة ذاتها خلال القرن العشرين، لإثبات صحة هذه الفرضية. ويبدو أن هيردال الذي كان مفتونا بحضارات الشرق لم يقتصر على تجربة الفراعنة المصريين لإثبات فعالية السفن المصنوعة من القصب، بل كرر التجربة، في ما بعد، مع قارب عراقي سومري من القصب أسماه "دجلة" وعبر به نهري دجلة والفرات عبر الخليج إلى عمان وباكستان، ثم عبر المحيط الهندي إلى جيبوتي في القرن الإفريقي. لكن رحلة "رع 2" التي أراد من خلالها "تور هيردال" إثبات فرضيته كانت تكتسي صبغة خاصة، وتنطوي على مجازفة كبيرة، خاصة أن عبور المحيط الأطلسي على متن سفينة مصنوعة من القصب، ليس بالأمر اليسير. أمريكا الفرعونية لا شيء استطاع ثني العالم النرويجي عن تحقيق حلمه وإثبات صحة فرضيته، ومما عزز نسبة صحتها هو تحمس علماء آخرين أثارتهم الفكرة بناء على نتائج حفريات أجريت في مواقع مختلفة من القارة الأمريكية، حيث تم العثور على العديد من التماثيل والنقوش الفرعونية وهو الأمر الذي رجح فرضية وصول الفراعنة إلى تلك الأماكن خاصة في أمريكا الوسطى. لكن الإشكال الذي كان مطروحا هو كيف بإمكان الفراعنة الذين لم يكونوا شعبا متمرسا على الملاحة، شأن الفينيقيين مثلا، وأن علاقتهم بالماء لم تتجاوز حدود النيل وأعاليه، أن يجتازوا المحيط الأطلسي عبر سفن قصب البردي الذي لا يتحمل طويلا الماء وسرعان ما يذوب فيه؟ المهمة لم تكن باليسيرة بالنسبة إل العالم "تور هيردال" والطاقم العلمي المصاحب له، ما دفع "هيردال" إلى الاطلاع على كافة الوثائق والرسومات التي تبين كيف كان الفراعنة يشيدون سفنهم، فاكتشف أن السر في صمود هذه السفن هو أنها كانت تطلى بالقار (الزفت) الذي كان يساعدها على مقاومة تسربات المياه ولا يجعل قصبها يذوب بسرعة. التجربة الأولى في 1969 تمكن "تور هيردال" من صنع قارب فرعوني طوله 15 مترا، وسماه "رع" ( وهو اسم إله الشمس عند الفراعنة)، فنقل هذا القارب إلى السواحل المغربية حيث انطلقت الرحلة الأولى التي شارك فيها سبعة بحارة من جنسيات مختلفة فيها النرويجي والأمريكي والتشادي والمكسيكي والإيطالي والروسي والمصري. لكن التجربة الأولى لهؤلاء المغامرين السبعة، لم تلاق النجاح المطلوب، إذ بعد خمسة وعشرين يوما من توغلهم وسط مجاهل المحيط الأطلسي وبعد أن تجاوزوا نصف المسافة المراد اجتيازها، انشطر القارب إلى نصفين بعد أن تشبع القصب المكون له بالمياه، قبل أن تجهز عليه عاصفة، دفعت طاقم السفينة الفرعونية إلى الاستعانة بقارب مطاطي أعد خصيصا لهذا الغرض. بدا أن التجربة الأولى اعترتها مجموعة من الاختلالات والنقائص التي سجلها "تور هيردال" واستفاد منها ليتجاوزها في رحلة ثانية حدد موعدها في السنة الموالية. ميناء آسفي... أثر الفينيقيين في المرة الثانية كان إصرار "تور هيردال" والطاقم المرافق له، لا حدود له، إذ بقي الفريق نفسه مع التحاق مغامر ياباني، وآخر مغربي عوض انسحاب تشادي كان ضمن المجموعة. المغربي كان هو "المدني آيت أوهني"، الذي حكى تفاصيل الرحلة الثانية، التي كان أحد أبطالها والفاعلين فيها. قال آيت أوهني، في حديث سابق مع "الصباح"، "الصدفة وحدها كانت وراء انضمامي لطاقم سفينة "رع 2" إذ كنت حينها أشتغل مديرا لفندق بمدينة آسفي شاءت الصدف أن يحل طاقم الرحلة به، ومن هنا نشأت صداقة بيني وبين أفراد الطاقم خاصة العالم النرويجي "تور هيردال"". في تلك الفترة من ربيع 1970، حل بمدينة آسفي الفريق العلمي لرحلة "رع 2" عازمين هذه المرة على ألا يخلفوا وعدهم مع التاريخ مهما كلف الأمر ذلك، خاصة أن المشروع مولته هيأة الأمم المتحدة. تمت الاستعانة ببحارة يتحدرون من بوليفيا، وهم من بقايا الهنود الحمر، لصناعة سفينة "رع 2" خاصة أن هذا الشعب كانت به بعض المناطق التي يستعمل فيها أبناؤها مراكب قصب البردي. وتطلب الأمر شحن 12 طنا من القصب استقدمت من بحيرة "ثانا" الإثيوبية عند منبع النيل، إلى مدينة آسفي. وقع الاختيار على هذه المدينة الساحلية نظرا لموقعها الإستراتيجي على الواجهة الأطلسية، إذ بها واحد من أقدم الموانئ التاريخية الذي كان يتردد عليها الفينيقيون ومختلف الحضارات التي كانت تمر عبر المحيط الأطلسي، فضلا عن رياح "الأليزي" والتيارات البحرية التي تميز ساحل آسفي. استغرق تشييد السفينة حوالي شهرين وفق ما أكد، المدني آيت أوهني، وكانت الدعامة الأساسية لهذه السفينة عمودين مشكلين من حزمتين أسطوانيتين شدتا من الأمام بواسطة حبال متينة، إضافة إلى تشكيل قاعدة خلفية للسفينة وقعرها وبقية المرافق المؤثثة لها، مع اتخاذ كافة الإجراءات التقنية والهندسية، لكي لا يتكرر سيناريو التجربة الأولى، ولضمان نجاح العملية. والطريف في هذه المغامرة، أضاف المدني، أن طاقم الرحلة أصر على أن تكون المؤونة على الطريقة الفرعونية القديمة، إذ لا وجود لمصبرات أو أي شيء من هذا القبيل، بل أشياء مخزنة بطرق عتيقة مثل اللحم المملح (القديد) والسمك المجفف والخبز اليابس والعسل والفول السوداني والزبيب والتمر، أما المياه فتم تخزينها في القدور والقرب الجلدية. وتقرر تحديد موعد الانطلاق بعد الانتهاء من تشييد السفينة يوم 17 ماي سنة 1970، هذا اليوم الذي كان مشهودا بمدينة آسفي، كما يتذكر ذلك المدني آيت أوهني، إذ خرجت، يقول، فئات واسعة من سكان المدينة لمرافقة طاقم الرحلة ضمن موكب رسمي وشعبي، وبحضور ممثلي الصحافة الوطنية والدولية. كانت الانطلاقة حوالي الساعة السادسة صباحا، ورغم هيجان البحر ساعتها إلا أن سفينة "رع 2" أخذت طريقها في شق عباب المياه المسفيوية، ورافقتها في البداية مجموعة قوارب صيد إلى أن شيعوها خلف الأفق، لتواصل بعد ذلك السفينة المسير نحو الشواطئ الجنوبية للمغرب، وصولا إلى جزر الكناري المقابلة للصحراء المغربية، ثم انعطفت السفينة من هناك في اتجاه القارة الأمريكية. كانت السفينة تعتمد في سيرها على الرياح والتيارات البحرية، إضافة إلى أن الطاقم عمد إلى تعليق مصابيح زيتية حتى يتسنى للمراكب الأخرى معرفتها، سيما أن سفينة "رع 2" وبحكم أنها مصنوعة من قصب البردي فإن رادارات السفن لم يكن بإمكانها رصدها. أما توثيق الرحلة فكان يتم عبر تصوير مشاهدها بواسطة كاميرا يدوية، كما أن الأداة التقنية الوحيدة المستعملة فكانت آلة لقياس ارتفاع المياه، أما الباقي فكان عبارة عن أدوات تقليدية تماشيا مع روح عصر الفراعنة. وعلى امتداد أيام الرحلة شكل أفراد الرحلة نموذجا فريدا للتعايش بين الحضارات والديانات، وفق ما حكى المدني آيت أوهني، وهذا الأمر كان أحد الأهداف المتوخاة من الرحلة، فضلا عن المغامرات والمفاجآت التي تعرضوا لها في عرض البحر، منها أن السفينة بعد أن قطعت مسافة طويلة تشبع قصبها بالماء، فغاص جزء منها في الماء الشيء الذي اعتقد معه الطاقم أن سيناريو رحلة "رع 2" سيتكرر وسيكون مآل السفينة هو الغرق، لكن وبإصرار طاقم السفينة واصلت سيرها، رغم الأعطاب التي لحقتها جراء تلاطم الأمواج عليها إلى أن وصلت جزر "البارباد" ببحر الكرايبي على السواحل الأمريكية، فكان ذلك إيذانا بنجاح الرحلة وتحقيق حلم مغامريها الثمانية بعد 57 يوما من الإبحار بالمحيط، قطعوا خلالها 6400 كليومتر.