الأمن القضائي يبدأ من أمن القاضي

من الأمور الطريفة التي صارت تؤثث فضاء قاعات المحاكم خلال الفترة الأخيرة مشهد رئيس الهيأة الذي يستوقف محامي الدفاع ليسأله عما إذا كان غير مطمئن إلى حياد المحكمة، أو يستفسره إذا كانت المحكمة هي المقصودة مما يشير إليه من تخوف من تأثر المحكمة بالانطباعات الرائجة حول المتهم. وقد يتمادى أحد الرؤساء هنا أوهناك، فيوقف النقاش ليؤكد أن الهيأة حريصة على حسن تطبيق القانون، وأنها لا تميل إلى جهة دون أخرى وأنه لن يسمح لأحد (والكلام موجه بطبيعة الحال إلى المحامين)، بأن يوحي بغير ذلك. وهنا تنكشف مفارقة مذهلة : ذلك أنه نظرا لأن العناصر الأمنية موضوعة بشكل مباشر تحت سلطة النيابة العامة، وباعتبار الحضور الأمني البارز في المحاكم، فإن السطوة والهيمنة والرمزية قد صارت من نصيب جهاز النيابة العامة، ولم يعد لمفهوم المحكمة التي يفترض فيها أن تجسد الأمان وتنبسط فيها أجواء الاطمئنان من حضور إلا بقدر امتداد منصة قضاة الحكم التي يجلسون عليها في القاعات، بل لقد رأينا جلسات ضاق فيها صدر عضو النيابة العامة بمحاولات رئيس وقور فرض الهدوء بالحكمة والموعظة الحسنة، فيخاطبه بحزم لرفع الجلسة، ثم يعود وقد نزع بذلته يرغي ويزبد ويأمر وينهى ويصرخ في وجوه عناصر الأمن يأمرهم بإخراج جزء من الحضور. وإذا كان لابد من دليل إضافي على الهاجس الأمني الذي أغرق المحاكم المغربية ولوث أجواءها، فها هي ظاهرة الكاميرات المثبتة ليس فقط في زوايا الممرات والأبواب، بل كذلك في كل ركن من أركان قاعات الجلسات، ومباشرة فوق رأس رئيس الجلسة! لقد صار القاضي يؤدي عمله تحت مراقبة الكاميرا.. لماذا؟ ومن يراقب؟ وكيف يتم ذلك بالنقل المباشر أو بالتسجيل؟ وإذا كانت المراقبة مباشرة فهل يمكن أن نتصور أنه يتلقى التنبيه والتوجيه خلال الجلسة؟ أو ربما التوبيخ بعد الجلسة؟ غير أن الأخطر في كل هذا هما أمران اثنان لا أظن مهندسي خطة المراقبة بالكاميرا قد انتبهوا إلى أهميتهما:الأمر الأول، إذا كانت المراقبة الأمنية للقاعات ومجريات الجلسات ضروريةً رغم حضور القضاة ورغم السلطات الممنوحة لهم ورغم محاضر الضبط، فكيف يُطلب من المتقاضين الثقة في سلطته والاطمئنان إلى تقديراته؟ والأمر الثاني، إذا كان القاضي يمارس تحت رقابة الكاميرا، أي تحت رقابة أشخاص آخرين يملكون عليه سلطة ما، فماذا ستكون أولويته، العناية بحكم القانون أم العناية برأي المراقبين ؟ لا أود هنا الخوض في تقدير مدى مشروعية زرع كاميرات المراقبة بقاعات المحاكم وضوابطها وشروطها،وعدم امتلاك القاضي نفسه سلطة عليها، لكني أسائل أثرها على استقرار نفسية القاضي واستقامة ضميره بينما يخضع لمراقبة مبهمة من جهات خارجية على كل حركاته وسكناته، وأقواله وأفعاله، بل ردود أفعاله، بل حتى عدم إبداء ردود أفعال حيث كان ينبغي حسب رأي المراقبين. في أجواء عدم الطمأنينة الشاملة هذه، وتفشي التوجس وعدم الثقة وإضعاف المهمة القضائية، انفجرت في دواليب المحاكم تحت غطاء السرية الإدارية ممارساتٌ أخرى، صارت تهدد الأمن المهني للقضاة. إذ من الطبيعي أن تقود المقاربة الأمنية ( بمعناها الواسع) إلى تفشي السلوك البيروقراطي وإضعاف جودة العلاقات المهنية وقتل مرونتها. فتهمش النجاعة القضائية بمفهومها الجوهري، أي الجودة الموضوعية للأعمال القضائية( التطبيق السليم للقانون والعدالة والإنصاف)، لصالح المتطلبات الشكلية والإحصائية، تحت تهديد سيف المحاسبة الإدارية والتأديبية. وسيلاحظ المتتبع لحركة المحاكم دون عناء أن كواهل القضاء تئن بشكل متزايد تحت وطأة التتبع الإداري المكثف لكل حركاتهم وسكناتهم، وكثرة الملاحظات والاستفسارات، وأنواع التقارير التي تُرفع دون توقف إلى مؤسسات الرقابة والتفتيش والتأديب. وإذا كان جهاز النيابة العامة قد اعتاد الضغط التراتبي، نظرا للطابع الإداري الذي يتسم به تنظيمه، ونظرا لذوبان ذاتية أعضائه في وحدته المؤسساتية، فإن المبالغة في ممارسة هذا الضغط – رغم نُبل المقاصد- قد أدت إلى نتائج عكسية لدى قضاة الحكم، وأفرزت سلوكات مسيئة إلى المهمة القضائية نفسها. وليس من المصادفة أن تناسلت ظاهرة الاستقالات وطلبات التقاعد المبكر في جسم القضاء، وخاصة قضاء الحكم خلال السنوات القليلة الماضية، إلى درجة أن التنظيمات المهنية قد دقت ناقوس الخطر لتجلب الانتباه إلى تدهور ظروف اشتغالهم. وإذا تذكرنا بأن القضاة مدعوون إلى الاتصاف بأسمى الصفات النفسية والأخلاقية، وانتبهنا إلى أن ضمائرهم مثقلة بهول مهمة النظر في حقوق الناس وحرياتهم، ثم سلمنا بأنهم بشر يخطئون ويصيبون تحت عيون الرقابة والتتبع والاستفسار، فلا يعجبن أحد إن رأينا منهم يوما من يلتمسون رضا مسؤوليهم ورؤسائهم الإداريين قبل تلمس صواب التقديرات وعدالة القرارات، ولا يعجبن أحد إن رأى يوما قاضيا يعرض قناعاته وتقديراته على المسؤول القضائي قبل إعلان حكمه، أو يلتمس من قيدوميه توجيهه إلى أسلم الطرق وأقرب التقديرات إلى رضا رؤسائه، وغير ذلك من السلوكات غير الطبيعية التي قد تؤول إليها الأمور تحت الضغوط التي أشرنا إليها. لا أقصد بهذه الملاحظات تقديس القضاة وتنزيههم عن الخطأ، ولا إنكار الحاجة إلى المراقبة والمحاسبة، ولا أزعم أن المحاكم لا تحتاج إلى تدبير وتسيير وتوجيه. بل على العكس من ذلك أؤكد أن مراقبة سلطات القضاة ومحاسبة المخطئين، وتعزيز الإدارة القضائية من مقومات العدالة الراشدة. لكني إذ أنبه إلى هذا الواقع أريد التذكير بأن تطوير مرفق القضاء وتعزيز سلطته لا يمكنه أن يقارب فقط بالمنطق الإداري، ولا يمكن لمطلب النجاعة فيه أن يقارب فقط بأدوات علوم التسيير، بل إني أزعم أن هذه المقاربة لا ينبغي أن تكون لها الأولوية في معالجة قضايا العدالة. صحيحٌ أن المحاكم بما هي مرافق عمومية يقاس صلاحها بموازين التسيير والإدارة الضامنة لولوج المتقاضين،وحسن توزيع المصالح، ونسبة المردودية الكمية، وكفاية وسائلها المادية والبشرية. لكن القضاء بما هو مؤتمن على حقوق الناس وحرياتهم، وبما هو قائم بأمانة العدل، ليس مجرد مرفق عمومي، بل هو قبل ذلك ملجأ المتنازعين ومأمن الخائفين. والقضاة ليسوا مجرد "موارد بشرية"، بل نريدهم أن يكونوا أمناء العهود وضمائر الأمة، وينبغي أن يرمزوا للاستقامة والنزاهة والحكمة،ويسهروا على التوازن والإنصاف، وأن يجسدوا أعلى درجات الكفاءة القانونية والوعي الاجتماعي. ولذلك فإني أرى أن المسار الذي تسير فيه مجهودات الإصلاح خلال العقد الأخير، رغم إيجابياتها الواضحة على بعض النواحي التدبيرية، قد جعلت الأولوية للأعراض وأهملت الجواهر. بل إنها قد بالغت في رسم القوالب والأشكال والإطارات التنظيمية بعلة تحديث مناهج الإصلاح ووضع الأهداف القابلة للتكميةla quantification، دون أن تلتزم بالحد المعقول في ذلك، وصارت تعرض القاضي لإكراهات تقنيات الإدارة وتحقيق الأهداف الإحصائية، وتلوح أمامه بأدوات الزجر والتأديب والمحاسبة والمراقبة، مقابل تهميش مقوماته وكفاياته الإنسانية النفسية والفكرية. وسأضرب مثالين لهذه المفارقة. أولهما المفارقة القائمة بين رفع مستوى الإكراهات التدبيرية الزمنية المتعلقة بآجال البت موازاة مع تزايد أعداد الملفات، في مقابل مضاعفة حالات التفتيش والرقابة المنصبة على جودة الأداء القانوني والتنقيب عن الأخطاء القضائية وتعريض أصحابها للمحاسبة التأديبية. وثانيهما، وهذه غريبة فعلا، ما نعاينه من تعزيز أدوات الرقابة والضغط البيروقراطيين، في مقابل مدونة للأخلاقيات تدعوالقضاة إلى الجرأة والشجاعة! لهذا ولغيره مما يضيق المجال عن التفصيل فيه، أدعو القائمين على الشأن القضائي إلى إيلاء القاضي–الإنسان الاهتمام الذي يليق به، أو على الأقل الاهتمام نفسه الموجه إلى القضاء-المؤسسة. فإن العدالة تقوم بالقاضي قبل أن تقوم بإدارة القضاء،وجلال مهمة القاضي أثقل في ضمائر الناس وأجلب لثقتهم من هيبة السطوة والقوة. * محام بهيأة البيضاء

الأمن القضائي يبدأ من أمن القاضي

تطوير مرفق القضاء وتعزيز سلطته لا يمكنهما أن يقاربا فقط بالمنطق الإداري (2/2)

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

أشباح وراء كشف جريمة قتل

جثة معلقة تستنفر الدرك

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات