العقوبات البديلة في مفترق الطرق

نقاش بين مؤيد ورافض وتساؤلات حول مدى تقبل المجتمع لها احتدم النقاش، أخيرا، حول مشروع العقوبات البديلة، الذي دافع عنه، عبد اللطيف وهبي، وزير العدل، معتبرا إياه قانونا يسعى إلى تحقيق غاية إعادة التأهيل والتربية وأنسنة السياسات الجنائية. ويتوزع النقاش بين طرفين، أحدهما مؤيد للمشروع ويسير في تبني أطروحة الوزير، والثاني معارض ويرى فيه انزلاقا ومحاولة لشرعنة الإفلات من العقاب، وهو موقف يتماهى مع الأقاويل والتدوينات الكثيرة التي نقلت أخبارا ضمنها مغالطات حول مضامين المشروع ذاته. أهم أصناف العقوبات البديلة المقترحة في المشروع، هي العمل لأجل المنفعة العامة أو فرض تدابير رقابية أو علاجية أو تأهيلية، أو المراقبة الإلكترونية باعتماد السوار الإلكتروني، والغرامة اليومية، وتقييد بعض الحقوق. الدول الأوربية تتبنى هذا النوع من العقوبات، وبعض الدول الخليجية أيضا من قبيل الإمارات، فالعقوبات البديلة لا تتخلى عن العقاب، بل تأتي بعقوبات يمكنها أن تستبدل سلب الحرية ويكون لها المفعول الرادع، خصوصا أن المشروع تناول العقوبات التي يحكم بها بديلا للعقوبات السالبة للحرية في الجنح، التي لا تتجاوز العقوبة المحكوم من أجلها 5 سنوات حبسا نافذا. لكن هل يقبل المجتمع هذه العقوبات؟ المصطفى صفر الحبس يشفي غليل الضحايا العقوبات البديلة تواجه إكراه "نضربو وديتو في جيبي" واسترخاص حقوق المعتدى عليهم أثار تداول عدد من المطالب الرامية إلى إلغاء العقوبات الحبسية وتعويضها بالعقوبات البديلة أو أداء الغرامات الثقيلة، بالنسبة للجنح التي تقل مدة عقوبتها عن خمس سنوات، سخطا واسعا وسط نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي، الذين اعتبروا التخلي عن اعتقال المتهمين في قضايا الحق العام مسا بحقوق الضحايا وتشجيعا على ارتكاب جرائم السرقة والضرب والجرح والتحرش والنصب والاحتيال. وأوضح نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، على أنه لا يمكن للعقوبات البديلة لوحدها أن تمنع ارتكاب الجرائم، باعتبارها حلا غير واقعي، مشددين على أن التخلي عن الزج بالمتورطين في السجون مقابل أداء الغرامات المالية اليومية يعتبر حماية لمرتكب الجريمة من الزجر، خاصة أن "شراء أيام السجن" سيكون من نصيب كل من توفر على المال. وأورد معارضو العقوبات البديلة التي سيحكم بها مستقبلا في المحاكم بديلا للعقوبات السالبة للحرية في الجنح، التي لا تتجاوز العقوبة المحكوم بها خمس سنوات، أن الإجراء لا يستقيم والواقع، فالضحية لا يمكن له تقبل رؤية المعتدي متمتعا بعقوبة بديلة ويتجول في الشارع العمومي، مما قد يشعره بأن العدالة لم تنصفه، وهنا سيفتح الباب أمام تفشي مجموعة من السلوكات، أولها شرع اليد بهدف انتزاع الحق الضائع. ورغم توضيح وزير العدل أن اعتماد الغرامة المالية يهدف إلى تنفيس اكتظاظ السجون، فإن المعارضين لهذا الإجراء الجديد، يرون العقوبات البديلة تواجه إكراه "نضربو وديتو في جيبي" التي تحيل على معنى استرخاص حقوق المعتدى عليهم، سواء في واقعة السرقة أو الضرب أو التحرش أو النصب والاحتيال، مشددين على أنه لا يمكن للعقوبات البديلة أن تمنع ارتكاب الجريمة في حال ساهمت في تخفيف اكتظاظ المؤسسات السجنية. ونشر عدد من الشباب "الفيسبوكي" تدوينات تقول "عوض الحديث عن إلغاء عقوبة الحبس في القضايا الجنحية، التي تقل مدتها عن خمس سنوات، آن الأوان لإعادة تطعيمها بعقوبات أخرى، من قبيل المشاركة في إنجاز السدود والقناطر وفتح الطرق في أقاصي الجبال والقيام بخدمات تدريس للتلاميذ المعوزين وتنظيف وكنس الشوارع في الصباح والعودة مساء إلى الزنزانة، كيف لا وقضايا النصب والاحتيال والاعتداءات الجسدية والسرقة، أضحت في تزايد في ظل استهتار عدد من الأشخاص بالقانون وبالعقوبة الحبسية، فما بالك في حال إلغائها وتعويضها بأداء غرامة مالية فقط. وطرح نشطاء "الفيسبوك" أسئلة استنكارية من قبيل "ما موقف وزارة العدل والقضاء من وضعية ضحية يجد نفسه أمام استفزاز المعتدي عليه أو الشخص الذي استولى على أمواله أو هتك عرض ابنته يتجول أمامه بحرية، إلا لأنه له القدرة على دفع غرامة مالية؟ أين هو مبدأ إحقاق الحق وإنصاف الضحايا؟ ألن يؤدي "شراء أيام الحبس" بأداء غرامة مالية في إطار العقوبات البديلة إلى زرع الحقد في أوساط المجتمع المغربي والتشجيع على الإفلات من العقاب وتنمية الحس الانتقامي، لأن الضحية لن يقبل بالمتهم خارج السجن، مشددين على أن الواقع المغربي مخالف للنظريات. محمد بها وهبــي وورطـة الاعـتـقـال قال إن القاضي يبقى إنسانا ويمكن أن يمنح المتهم خمس سنوات بدل 20 لا تفت الفرصة عبد اللطيف وهبي، وزير العدل، في خرجاته الإعلامية أو حتى داخل اللجان السرية للتشريع وحقوق الإنسان بمجلسي النواب والمستشارين، لتأكيد مدى انزعاجه من قرارات اعتقال لا تستوجب برأيه ذلك. تصريحات وهبي تؤكد استمرار قرارات الاعتقال عوض أداء الكفالة، والمتابعة في حالة سراح، في حق متابعين يتوفرون على كافة ضمانات الحضور، رغم الدوريات الصادرة عن رئاسة النيابة العامة والقاضية بترشيد هذا النوع من الاعتقال باعتباره تدبيرا استثنائيا. وقال وهبي، تعقيبا على تدخلات أعضاء لجنة العدل والتشريع بمجلس المستشارين، الأربعاء الماضي، أثناء مناقشة مشروع القانون المتعلق بتنظيم وتدبير المؤسسات السجنية في جلسة دامت لأزيد من 4 ساعات، إن التوجه نحو الاعتقال أصبح سياسة جنائية معتمدة رغم عدم ضرورتها، مؤكدا أنه يتفهم ذلك لأجل تهدئة الرأي العام الوطني. وكشف الوزير أمثلة على ذلك بخصوص أهمية المتابعة في حالة سراح، عوض الاعتقال الاحتياطي، بالنسبة إلى أشخاص تتوفر فيهم ضمانات الحضور، والمثول أمام قضاة التحقيق وفي المحكمة، من قبيل الوزراء، والبرلمانيين، ورجال المال والأعمال، والمسؤولين الكبار بمؤسسات عمومية، إذ توجد إجراءات إدارية تمنعهم من مغادرة التراب الوطني تحد من حرية تنقلهم. وأعلن الوزير عن تغيير في بعض فصول القانون الجنائي بالتخلي عن العقوبات الأشد وحصرها في بعض الجرائم، وتقليص المدة القائمة الآن من 5 سنوات سجنا إلى 30 ، لتصبح من 5 سنوات إلى 10، ومن 10 سنوات إلى 15، لتصل أقصى عقوبة 25 سنة ، واعتماد العقوبات البديلة لتقليص الضغط الحاصل على السجون. وقال الوزير الذي كان يتحدث أيضا قبل أشهر في المؤتمر الثاني للمساعدة الاجتماعية بالمحاكم الذي احتضنه مركز العدل بسلا، إن الهدف هو تحويل المحكمة إلى مرفق إنساني، مضيفا أن المسؤولين القضائيين عليهم فهم أن المساعدات الاجتماعيات لا يجب توظيفهن كاتبات. ونبه المسؤول الحكومي إلى أن القاضي يجب أن تتوفر لديه الإنسانية، لأنه يبقى في نهاية المطاف إنسانا، إذ يمكن أن يحكم على المتهم بعشرين سنة، ويمكن أن يخفف الحكم بكثير إلى خمس سنوات، مراعاة لظروف إنسانية حينما يمثل أمامه هذا المتهم. وباتت أصوات سواء من داخل أسوار وزارة العدل أو خارجها، تؤكد صراحة أن الدوريات الصادرة عن رئاسة النيابة العامة بشأن ترشيد الاعتقال الاحتياطي ومواجهة اكتظاظ السجون لا يتم تفعيلها، وأنه حان الوقت للتخلي عن العبارة الشهيرة منذ الاستقلال والتي يخطها قضاة النيابة العامة إلى يومنا هذا "الإيداع للسجن بسبب خطورة الأفعال المرتكبة وانعدام الضمانات"، مؤكدين ضرورة شرح هذه الخطورة وتجلياتها، وأيضا نوعية هذه الضمانات المنعدمة في نوازل الحال. عبد الحليم لعريبي لا لـ"رسملة" القضاء المحامية الصغيري : المجتمع غفور رحيم وتعويض الحبس بالغرامات سيكرس الطبقية في الوقت الذي أبدى مواطنون تحفظهم من العقوبات البديلة، على اعتبار أنها لن تكون كافية لردع المجرمين، بل ستحرض آخرين على ارتكاب المزيد من الجرائم، ما دامت أقدامهم لم تطأ السجن، فند قانونيون ومهتمون هذه التخوفات، ونوهوا بهذه المبادرة، لكن مع تحفظ على بعض العقوبات، منها الغرامات مقابل السجن، لأنها ستتسبب في احتقان اجتماعي كبير. بالنسبة إلى لبنى الصغيري، برلمانية ومحامية بهيأة البيضاء، فإن العقوبات البديلة في كل الأحوال وعلى علتها، متطلبة بالنسبة للمجتمع المغربي، ولو أن نسبة كبيرة من المغاربة لم يستوعبوها ولهم مواقف معارضة لها، اعتقادا أن تنزيل العدالة لا يكون إلا بفرض عقوبة حبسية، لكن من الناحية القانونية، فالعقوبات البديلة تقدم خدمات جليلة للمجتمع المغربي، لأنه عوض أن نضحي بمستقبل شباب، قادتهم الظروف للتورط في جرائم، غالبا اقترفوها لأول مرة، وبسيطة وعادية، عبر الزج بهم في السجن، يجب أن نكون رحيمين ومتساعدين معهم، عبر منحهم فرصة للتهذيب والإصلاح بمنازلهم، خصوصا أن المؤسسات السجنية فشلت في القيام بدورها الأساسي، إضافة إلى تزايد مخيف في عدد السجناء من سنة لأخرى، والمؤسف أن أغلبهم شباب في مقتبل العمر. وأكدت البرلمانية والمحامية الصغيري، أن العقوبات البديلة، كما نوقشت في الغرفة الأولى بمجلس النواب، تبقى نصا قانونيا متميزا، سيما أنه عوض عقوبات سجنية محددة بعقوبات بديلة، مشددة على أن تنزيل العقوبات البديلة لا يعني أن العقوبات الحبسية تسقط عن المتهم، بل يدان بها حسب طبيعة الجريمة المتورط فيها، إلا أن القاضي يقرر استبدالها بعقوبة بديلة، منها الحرمان من أحد الحقوق الشخصية أو منعه من التجول في توقيت محدد وداخل مساحة معينة، أو اعتماد السوار الإلكتروني، الذي نجح تنزيله بشكل كبير في أوربا وأمريكا، إذ بدل السجن يبقى المتهم في منزله وتحت مراقبة والديه وسلطتهما. إلا أنه رغم هذه الإيجابيات، عبرت المحامية عن رفضها المطلق لاعتماد نظام الغرامات في العقوبات البديلة، إذ اعتبرتها "رسملة القضاء" وستفتح الباب أمام الطبقية في التقاضي بمنطق "نشري حبسي"، ما دام الأثرياء سيتفادون دخول السجن لأنهم قادرون على تسديد قيمة العقوبة الحبسية ماليا، في حين سيكون مصير الفقراء الاعتقال ما داموا عاجزين عن تسديد قيمة هذه الغرامات. إلى جانب الغرامات، نبهت المحامية والبرلمانية إلى أن منح العقوبات البديلة يكون خاضعا للسلطة التقديرية للقاضي، وبالتالي على السلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة تحمل مسؤوليتهما، من خلال فرض مراقبة قانونية، لتفادي أي تشويش خلال تنزيل هذه العقوبات واستغلال جهات معينة صلاحيات القاضي، للادعاء بوجود تلاعبات في منح العقوبات البديلة من عدمها، لتحقيق الغاية والفلسفة من تبني العقوبات الجديدة، مشددة على أن الأمر ليس تشكيكا في القضاة، وإنما يعود ذلك إلى أن النص القانوني أغفل التطرق لهذه الرقابة، لقطع الطريق عن محاولات استفادة جهات من العقوبات البديلة في قضايا تستحق عقوبات حبسية، فخضوع هذه القرارات لرقابة السلطة القضائية ورئاسة النيابة العامة، هو حماية للقضاة وضمان للمحاكمة العادلة للمواطنين. مصطفى لطفي

العقوبات البديلة في مفترق الطرق

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

إبراهيم... مستكشف عوالم "الديناصورات"

السيسي رئيسا لمصر لولاية ثالثة

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات