في ذكرى ميلاد الكاتب الذي ظل "مجرى ثابتا" لتمغرابيت تحل يوم 30 مارس الجاري ذكرى ميلاد الكاتب المغربي الراحل إدموند عمران المالح، الذي يعد واحدا من الأسماء الأدبية التي ساهمت في إبراز الوجه الأكثر إشراقا للثقافة المغربية اليهودية، ويعد مثالا واضحا على أن "تامغرابيت" مكون لا يرتبط بالضرورة بدين معين، وإنما هي كيان قائم بذاته تساهم في نسجه مختلف الثقافات والديانات التي تعايشت على أرض المغرب. في هذا الخاص تستعيد "الصباح" جوانب من مسار هذا الكاتب الاستثنائي. إعداد: عزيز المجدوب توقف نبض الأديب المغربي اليهودي إدمون عمران المالح عن النبض يوم 15 نونبر 2010، إنه القلب الذي لطالما لهج باسم المغرب وظل وفيا لثقافته حتى ولو اختلطت فيها عناصر من ديانة أخرى، فكذلك كان المغاربة اليهود الأقحاح، يعتبرون أنفسهم أقرب إلى "إخوانهم" المغاربة المسلمين، دون أدنى تعصب، قبل أن تفرق بينهم لعنة "الصهيونية" التي مقتها عمران المالح وحاربها من موقعه. لا يملك كاتب هاته السطور، سبيلا لكي يطرد من أمام عينيه، مشهد اللقاء الأول والأخير الذي أتيحت له فيه فرصة الحديث مع الأديب المغربي إدمون عمران المالح للحظات إذ قفزت إلى ذاكرتي تفاصيله، بمجرد ما اقتربت ذكرى رحيله بمزيد من الأسى والحسرة على لقاء لطالما تمنيت أن يتكرر مع رجل تكفيك لحظات معدودة لتكتشف حجم المشاعر الإنسانية الفياضة التي يجيش بها صدره. كان اللقاء في ربيع 2004، وكنت ما زلت حينها طالبا بجامعة محمد الخامس بالرباط، وبين الفينة والأخرى كنت أتردد رفقة زملائي على رواق "باب الرواح" لمشاهدة جديد عروض الفن التشكيلي. وفي إحدى المرات كنت رفقة بضعة زملاء، بينهم زميلة، نتجول في أرجاء الرواق، فإذا بالراحل إدمون عمران المالح يلج الفضاء وهو يتحرك خطوات وئيدة تحت تأثير عامل السن، متكئا على عكاز رفيع، رفقة قريبة له، وهو يهز حاجبيه الكثيفين متأملا اللوحات المعروضة، بعينين خبرتا التعامل مع الإبداعات الفنية، وتشع منهما مخايل نفس شاعرة ومرهفة يتمتع بها صاحبها. لم نتمالك أنفسنا إلا وقد تحلقنا حول إدمون عمران المالح، نسلم عليه ونسأل عن أحواله، فبدا الانشراح على محيا الأديب المغربي، الذي يبدو أنه سُرّ لمنظر شباب في مقتبل العمر تعرفوا عليه بسهولة، وكأن الأمر يتعلق بنجم سينمائي أو مغن مشهور، لكن عمران المالح فعلا كان نجما في مجاله لولا معايير زماننا الأغبر التي تمنح الشهرة لمن لا يستحقها. أكثر ما أثارنا في حديث عمران المالح هو أننا اكتشفنا فيه رجلا ملما بالمستجدات حوله، رغم أنه كان حينها قد اقترب من عقده التاسع، ومن محاسن الصدف أنه عندما سألنا عن أسمائنا واحدا واحدا، اكتشف أن زميلتنا كان لقبها العائلي "الركراكي"، فشرع في سؤالها إن كانت تنتمي إلى قبائل ركراكة الشهيرة بإقليم الصويرة، فأخبرنا أن مواسم هذه الطائفة قد انطلقت قبل أيام، وكذلك كان فعلا، ثم سرد معلومات دقيقة عن هذه المواسم بطريقة تكشف معدن الرجل الذي كان غارقا في "تامغرابيت" حتى هامة رأسه. كيف لا وسيرة إدمون عمران المالح ومواقفه في الحياة توضح بجلاء أن الرجل ظل وفيا لانتمائه إلى تربة المغرب التي استنشق عبقها لأول مرة بمدينة آسفي سنة 1917، وسط عائلة يهودية عريقة قدمت من مدينة الصويرة وذات جذور أمازيغية من جنوب الأطلس. مزاج يساري طبيعة التنشئة التي درج عليها عمران المالح في مدينة آسفي التي كانت فضاء للتعايش بين مختلف الثقافات والديانات خاصة بين اليهود والمسلمين، جعلته، في ما بعد، يرفض بشدة الهجرة إلى إسرائيل بالطريقة التي كانت تسوق لها الصهيونية، وينبري إلى إدانة أطروحاتها وفضح مزاعمها. خلال مرحلة شبابه اتضحت ميولات إدمون اليسارية، التي ستكون عاملا في معارضته لنظام الحسن الثاني في ما بعد، والتي انضافت إلى مواقفه السالفة من الصهيونية، الأمر الذي جلب له الكثير من المتاعب وفتح عليه الجبهات من كل جانب. وقع على مسار نضالي حافل، بعد أن اختار الانضمام إلى صفوف الحزب الشيوعي المغربي خلال مراحل مبكرة من عمره، وناضل من خلال هذا الكيان السياسي في سبيل استقلال المغرب، رفقة مجموعة من الأسماء اليسارية، منها علي يعتة وعبد الله العياشي، قبل أن تتوقف علاقته بالحزب في نهاية الخمسينات. وفي أواسط الستينات سيستقر إدمون عمران المالح بفرنسا، حيث سيمتهن تدريس الفلسفة والاشتغال بالصحافة. وخلال الفترة نفسها كانت يكتب مقالات يوقعها باسم مستعار هو "عيسى العبدي"، وهو الاسم الذي كان يوقع به الكثير من كتاباته حتى مطلع السبعينات من القرن الماضي، بما فيها مقالاته التي دوَّنها في جريدة فلسطين التي أصدرها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بعد هزيمة يونيو 1967، وصدر منها ما يربو عن الثلاثين عددا، وخلال هذه المرحلة ستتبلور اهتماماته الثقافية والأدبية. و في منفاه الفرنسي اشتغل المالح صحافيا بالقسم الثقافي لجريدة "لوموند"، و كان منذ طفولته مفتونا بالرسم، وسيترجم هذا الافتتان إلى مجموعة من الكتب التي ستقدم رؤيته الخاصة للفن التشكيلي، مثل "العين و اليد" و "رحلة الجير البحرية". دخول متأخر إلى الأدب ورغم أنه لم يلج عالم الأدب والتأليف إلا بعد ما جاوز عقده السادس، فإن الأديب إدمون عمران المالح استطاع أن يفرض اسمه واحدا من أبرز كتاب الأدب المغربي المكتوب باللغة الفرنسية، والتي لا تربطه بها سوى اعتبارها وسيلة للتعبير عن مواضيع ومواقف مغربية قحة. وتكشف عن ذلك عناوين كتب عمران المالح، التي بدأت تتواتر على عشاق الأدب منذ سنة 1980 حين أصدر كتابه الأول المسمى "المجرى الثابث"، ليصدر ثلاث سنوات بعد ذلك كتابه الثاني المعنون ب"أيلان أو ليل الحكي" ثم "ألف عام بيوم واحد" سنة 1986. وتواصلت إصدارات عمران المالح بوتيرة منتظمة منذ ذلك التاريخ وفي فترات متقاربة وكأنه كان يحاول أن يتدارك بذلك ما فاته من سنوات طويلة كان منشغلا فيها بقضايا أخرى، فصدرت له عناوين أخرى خلال فترة التسعينات هي "عودة أبو الحكي" و"آبنر أبو النور" و"المقهى الأزرق: زريريق" و"حقيبة سيدي معاشو"، ثم كتاب "الأم" سنة 2004 الذي ألفه بعد عودته إلى المغرب. وكما يبدو من خلال عناوين مؤلفات إدمون عمران المالح، فإن معظمها يحيل على مواضيع مستمدة من بيئة مغربية خالصة، اختلطت فيها السيرة الذاتية بالرواية أو القصة، كما أن مجمل حوارات شخوصها تتضمن تعابير وألفاظا بالدارجة المغربية، تجعل من الصعب على قارئها فصلها عن البيئة التي وجدت بها. دفن الراحل في المقبرة اليهودية بمدينة الصويرة بناء على رغبته، المدينة التي كانت دروبها ومنازلها العتيقة مسرحا لأحداث عدد من الروايات، التي نبش من خلالها في تاريخ المغاربة اليهود، و دافع عبرها عن الهوية، رافضا انسلاخ معظم الأسر اليهودية عن أصولها المغربية.