دوار العسكري الخيايطة… “المغرب العميق” بالبيضاء

حينما لجأ سكان دوار العسكري إلى "الصباح" لعرض مشكلتهم، المتمثلة في أزمة الماء، كانت الفكرة عسيرة النفاذ إلى ذهن المستمع إليهم، لأن الدوار يقع في الساحل الغربي للمغرب، والشكوى من العطش وقلة الماء، من السائد أنه أمر يخص سكان الجنوب والصحراء الشرقية دون غيرهم، لكن بزيارة الدوار، وقفت "الصباح" على ما هو أكبر من مشكلة الماء: السكان هنا، "مجرد لاجئين" في نظر السكان، وإن كان هؤلاء، لا يعبرون اليوم عن ذلك. السفر إلى المغرب "العميق"، بحثا عن مواطنين يعيشون في زمن "المطفية"، وعن نساء يتحملن، بعد، مشاق قطع الكيلومترات من أجل جلب قطرة ماء من أقرب "سقاية"، وتلاميذ يتنقلون مسافة 10 كيلومترات قبل الوصول إلى حجرة الدرس، وعن رئيس جماعة وقائد وجبة غذائهما بعد نصف يوم عمل لا يمكن أن تكون أدنى من وليمة في أفخم مطعم على الطريق، لا يحتاج، بالضرورة، وكما ألفنا في السنوات الأخيرة، تمرين تسلق قمم الأطلس الكبير، أو عبور الفيافي، لأن بضواحي البيضاء، يوجد دوار، فيه آلاف من تلك المشاهد وأكثر.نحن في دوار "العسكري" التابع للجماعة القروية الساحل أولاد احريز، في دائرة حد السوالم ببرشيد، والذي أقامته أسر من "الشياظمة" و"الصحراء" و"الشلوح" و"دكالة"، قبل حوالي ثلاثين سنة من الآن، على مسافة 21 كيلومترا عن البيضاء باتجاه الجديدة، فوق هضبة تبعد عن الطريق الوطنية رقم 01 بحوالي ثلاثة كيلومترات، وعلى أراض زراعية تم اقتناؤها، من عائلات أصلية، أشهرها "الرفاعيين".الدوار الذي يعد الأكبر ضمن باقي مداشر الجماعة، يتشكل من منازل غير متناسقة، يقدر عددها بـ80، شيدت بالإسمنت، وأغلبها سقف بصفائح معدنية، وتفصل بينها أزقة لا يتجاوز عرضها مترا. وبعد ليلة ماطرة، عمتها الأوحال والبرك الآسنة وآثار السيول. أزمة مياه"هنا، لا وجود لقنوات صرف صحي"، يقول عبد الفتاح، من سكان الدوار، "باسثناء المياه العادمة، التي تتخلص منها الأسر في آبار صغيرة مغطاة، حفرتها وترتبط بالمراحيض عبر قنوات، تتخذ سيول الأمطار من الأزقة الضيقة منفذا لها، إلى أن تصل وجهتها، وفي حال كانت الأمطار غزيرة، فهي تقتحم على السكان عتبات منازلهم".غير أن هذا، ليس "الهم الحقيقي" الذي يؤرق عبد الفتاح، الشاب الثلاثيني الذي يعمل كهربائيا مياوما بالبيضاء: "مشكلتنا الحقيقية مع المياه الصالحة للشرب، فسقاية الدوار التي شيدتها الجماعة القروية والوكالة المستقلة لتوزيع الماء والكهرباء باحد السوالم، لم تفتح صنابيرها رغم انتهاء الأشغال منذ شهور".السقاية التي يشير إليها عبد الفتاح، توجد في مدخل الدوار، قرب مسجد "الرحمن"، الذي تشير صفيحة رخامية في بابه إلى أن امرأة تدعى "الحاجة خديجة"، تنتمي إلى عائلة "الجامعي" الشهيرة بالضواحي الجنوبية للبيضاء، هي التي شيدته في 1997، وقرب "صهريج" إسمنتي للمياه، هو أيضا فصل من حكاية أزمة المياه الصالحة للشرب التي تعم الدوار.فإلى حدود 2013، كان هذا الصهريج، يمد المنازل بالماء وبانتظام، وشيد بتضامن من السكان، إتماما منهم لعمل إحساني، يقف وراءه مالك مركز شهير للفحص بالأشعة في مركز مدينة البيضاء، عندما وهب للسكان، عن طريق محمد مجيب، ابن الدوار الذي يشتغل تقني إصلاح للآلات لديه في المركز، مليوني سنتيم، من أجل حفر بئر وتجهيزه بمضخة كهربائية وإمداد الأسر بالماء."بعدما رق قلب مشغلي لحال سكان الدوار، فقرر تمويل حفر البئر، كنا بحاجة إلى من يهب لنا أرضا تقام عليه البئر"، يقول محمد مجيب، الذي يقترب من إتمام عقده الرابع، متزوج وأب لطفلين، ثم أضاف "وهذا ما استجاب له ساكن ذلك البيت"، مشيرا بيده إلى منزل كبير جدا، شيد على أرض تقارب مساحتها نصف مساحة دوار العسكري، ويقطنه أحد السكان الأصليين للمنطقة. "الاستيلاء" على البئرتحقق المراد إذن، وتم حفر بئر بعمق يقترب من 100 متر، وجهز بمضخة، وتم تشييد صهريج توصل القنوات المتفرعة عنه الماء إلى داخل البيوت، مقابل تسعيرة شهرية موحدة قدرها 30 درهما لكل عداد، خلال الفترة من 2012 إلى 2013، فلماذا توقف المشروع؟حسب السكان، الذين تحلقوا حول موفدي "الصباح"، منتصف نهار الأربعاء الماضي، بمدخل الدوار، حيث يوجد المسجد والصهريج، "عملية ملء الصهريج بمياه البئر، لم تتوقف بشكل كامل، إنما أضحت خاضعة لمزاج واهب القطعة الأرضية التي حفر بها"، كيف ذلك؟.كل ما في الأمر، أن البئر أصبحت اليوم، تقع داخل منزل مالك الأرض التي حفرت عليها، إذ أنه حينما وهبهم القطعة، لم يتخل عن ملكيتها بموجب وثيقة قانونية، بل وفق أعراف البسطاء المغاربة: إن الأرض لكم في سبيل الله، وأهل الجماعة شهود، ببساطة: السكان خدعوا، "ولا يعذر أحد بجهله للقانون".حينما واجهت "الصباح" علي الرفاعي، أمام باب داره، باتهامات السكان، ظهر أن الرجل لا يبالي كثيرا، فقال حاسما "لا أعرف ماذا دهاهم، ولماذا يحدثون كل هذه الجلبة، والصهريج يمدهم بالمياه"، تسأله "الصباح": "لكنهم يقولون إن البئر وهبته لهم، قبل أن يمتد إليه سور بيتك؟"، يجيب، قبل أن يغلق الباب في وجه الزائر "البئر لي، ولم أهب أرضا لأي أحد".أمام هذا الوضع، عادت الأسر إلى استغلال "مطفيات" تتوسط منازل الدوار، فيقومون باستدعاء شاحنة صهريجية في ملكية صاحب بئر بأحد الدواوير المجاورة، ليمد هذه الخزانات التقليدية بمياه للاستعمال المنزلي، وهي العملية التي تكلف كل أسرة 100 درهم لكل شحنة من المياه حجمها ثلاثة أطنان.هذه الكمية يستهلكونها في أسبوعين، أما المياه الصالحة للشرب، فتقطع النساء والأطفال يوميا مسافة ثلاثة كيلومترات، نحو سقاية أقامتها "الوكالة المستقلة لتوزيع الماء بحاد السوالم"، بجانب الطريق الرئيسية، وبالقرب من منزل واحد آخر من السكان الأصليين. ريع حراسة السقايات المياه الصالحة للشرب التي تجلبها النساء من السقاية، يدفعن على الفور، مقابل كل 30 لترا درهما واحدا، يحصلها حارس السقاية منهن دون تسلميهن توصيلا أو فاتورة، وحسب مجموعة من النسوة تحدثن إلى "الصباح"، ففيما "تبقى كل السقايات ببقية الدواوير مفتوحة طيلة اليوم، إلا هذه، يتعمد حارسها، عدم فتحها أمامنا إلا في الفترة الممتدة من الرابعة بعد الزوال إلى السادسة مساء"."الصباح" لم تتمكن من التواصل مع حارس السقاية الموجودة بجانب الطريق الرئيسية، وعلى مقربة من بيته المعزول عن بقية الدواوير، إلا أن علي الرفاعي، عندما كان يرد على اتهامات السكان له، بالاستيلاء على "البئر"، لم يكن ذكيا بما يكفي، فدخل إلى بيته للحظة وعاد بوثيقة رسمية، بمثابة "كنز" بالنسبة إلى صحافي. الوثيقة الحاملة لعدد "1009/ك ع/م ص"، نسخة أصلية من مراسلة وجهها رئيس جماعة الساحل أولاد احريز، إلى مسؤولي الوكالة المستقلة لتوزيع الماء والكهرباء، بتاريخ 15 شتنبر 2014، يخبرهم فيها، بتعيين "علي الرفاعي" حارسا على السقاية الجديدة الموجودة بدوار العسكري، بالقرب من المسجد، والتي يشتكي السكان من "تأخير" عملية فتحها أمامهم.أحمد الرفاعي، رئيس الجماعة القروية التي تحمل الوثيقة توقيعه، وكما يدل على ذلك الاسم العائلي، قريب للحارس الجديد، كما أن دوار العسكري، هو الدائرة الانتخابية التي حصل باسمها على صفة "مستشار جماعي" التي خاض بها سباق الوصول إلى رئاسة الجماعة، كان له لقاء مع "الصباح"، بخصوص الالتباس الجديد: حراسة السقايات.وعن كيفية تنظيم عمل السقايات، بجماعته وعددها تسعة، بمعدل واحدة لكل دوار، قال إن الجماعة القروية وبعد أن تنهي أشغال إنشائها، بموجب قانون الصفقات العمومية، تسلمها إلى الوكالة المستقلة، وتنهي علاقة الجماعة بها بعد ذلك.كيف يفسر إذن أن السكان الذين انتخبوه، يدفعون مقابلا فوريا للحراس؟ وهل هؤلاء من أعوان الجماعة؟ أثناء الجواب، يظهر أن الرجل غير مدرك لحقيقة الغموض الذي تسعى "الصباح" إلى فك خيوطه، فيقول: "الحراس ليسوا من أعوان الجماعة، والعرف الجاري هو أن الأشخاص الذين أنشئت السقايات على أراض مملوكة لهم، هم من يتولون، حراستها، أي تنظيم عملية استفادة السكان من صنابيرها".تخيلوا: شخص تأتي الجماعة وتشيد مرفقا عاما، وفي هذه الحالة: السقاية، على أرض مملوكة له، يتفرج إلى أن تنتهي الأشغال، ليتولى فوق كل ذلك تسييرها! في الحقيقة يبدو هذا الأمر، ضربا من الجنون، إن لم يكن يخفي شيئا ما.يمكن تلمس بعض جوانب ذلك الشيء، في تصريحات الرئيس، حينما كشف لـ"الصباح"، أن "الحارس يدفع 90 ألف فرنك (900 درهم)، للوكالة المستقلة، مقابل أن يتولى حراستها". وعندما تستحضر شهادات السكان بخصوص دفعهم درهما واحدا عن كل 30 لترا للحارس، وتسأل الرئيس، إن كان هناك هامش للربح؟، يجيب "لابد أن تكون هناك نسبة ما، لكنني لا أعلم حجمها، ويستحسن أن تتوجهوا بالسؤال إلى المسؤول الكبير في الوكالة المستقلة".لندع هذا الموضوع جانبا، ونطرح السؤال التالي: الماء الصالح للشرب، يتم جلبه من شبكة الوكالة المستقلة إلى مشارف الدواوير، لتتم إقامة سقايات، يملأ منها السكان أوانيهم بالماء، وبالتالي لماذا لا يتم ربط منازل السكان بالماء بشكل مباشر وبعدادات منفردة، عوض هذه السقايات؟الجواب، لا يحتاج اللجوء إلى الوكالة المستقلة، كما يقترح الرئيس، لأن في أقواله ما يقود نحو السبب: "يجب أن تعلموا أن الدوار كله عشوائي، وصدر قرار عاملي بهدمه، لكن سكانه مغاربة مثلنا، وعوض تنفيذ الهدم، أمددناهم بالماء والكهرباء".ماذا يعني هذا؟ يعني أن سر معاناة سكان دوار العسكري، مرده إلى أنهم مجرد لاجئين، إلى حين، لدى السكان الأصليين، وهم أيضا مدركون لذلك، بدليل الخوف الذي يستبد بهم، ومنع الكثيرين منهم من التعبير عن مآسيهم، حتى أن الشابين اللذين وجها دعوة إلى "الصباح" من أجل زيارة دوارهم، تركهم موفدا الجريدة، يترقبان عاقبة ما قد تحل بهما. النقل المدرسي... تسعيرة "فاحشة" لا تنتهي معاناة سكان دوار العسكري أولاد احريز، عند مشكلة الماء، التي تتحمل النساء بالأساس معاناة حلولها المؤقتة، بل تمتد لتشمل مختلف الرجال والشباب والأطفال.ففي هذا الدوار، يغادر التلميذ بالسلك الثانوي أو الإعدادي، بيت أسرته في الصباح الباكر، قاطعا مسافة ثلاثة كيلومترات باتجاه الطريق الرئيسية، حيث نقطة تجمع التلاميذ، من أجل ركوب حافلة النقل المدرسي، التي تقلهم نحو مركز أحد السوالم، الموجود على بعد 10 كيلومترات.ورغم أن النقل المدرسي يعد من مشاريع المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، بشهادة السكان ورئيس الجماعة، فإن كل تلميذ يدفع للسائق تسعيرة شهرية، تقترب من نظيرتها المعتمدة من قبل مدارس التعليم الخاص بالمدن المتوسطة: 200 درهم شهريا، علما أن من الأسر، في هذا الوسط الهش، لها أكثر من ابن واحد يتابع دراسته.أما سائق الحافلة الذي ما إن رمق موفدي "الصباح" يتوجهان نحوه من أجل دردشة حول النقل المدرسي، انحنى نحو الأرض والتقط حجرا وحاول ضربهما به، فهو لا يعترف بشيء اسمه "المبادرة"، ونقل عنه التلاميذ قوله لهم بعد احتجاجهم عن ارتفاع التسعيرة "ماكرهتش نحسب ليكم 500 درهم للواحد، حمدو الله كانديرو فيكم الخير".وعلى مستوى التشغيل وبطالة الشباب، عاينت "الصباح"، كيف أن الدوار محاط بمستودعات ومعامل لكبريات الشركات، غير أن أرباب الأسر والشباب لا يشتغلون بها، ويضطرون يوميا إلى القدوم نحو البيضاء بحثا عن العمل، بمبرر "وجود توصية من نافذين بالمنطقة لهؤلاء المستثمرين بعدم تشغيلنا، لأننا سكان غير أصليين، ومجرد لصوص"، حسب أحد السكان. إنجاز: امحمد خيي

دوار العسكري الخيايطة… “المغرب العميق” بالبيضاء

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

المستشارون يتبادلون نيران التجريد من العضوية

إصلاح المقاصة... الإلغاء مقابل المساعدات

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات