“البيضاء دون أزبال”… حلم لم يكتمل

يجتاز قطاع النظافة وجمع النفايات والأزبال بالدار البيضاء مرحلة دقيقة تضعه أمام امتحان عسير في أفق تحقيق المشروع الكبير " البيضاء دون أزبال". المشروع الذي كلف إعداده غلافا زمنيا تجاوز سنتين، واستثمارا ماليا بملايين الدراهم، "يجلس"، منذ بداية شتنبر الماضي، في قاعة الامتحان، بعد أن شرعت الشركتان المكلفتان بعقد التدبير المفوض، عمليا، في تنزيل برامجها ووضع آلياتها في المقاطعات الست عشرة، دون أن تسكت أصوات الاحتجاجات وحملات عدم الرضى والانتقادات التي تتجاوز المواطنين العاديين إلى مسؤولين ومنتخبين ورؤساء مقاطعات. لكن، هل تبدو الصورة فعلا بكل هذا السواد؟ وهل الدار البيضاء بعد العقد الجديد، هي نفسها قبله؟ ما هي حقيقة الوضع ميدانيا؟ ما الذي تغير وما الذي ينتظر تغييره؟ وهل يمكن تحميل الشركتين المسؤولية كاملة؟ أم يتحمل المواطنون والسكان أقساطا منها؟ لنبدأ، أولا، بتأمل هذه المشاهد، ضمن مشاهد أخرى كثيرة، رصدتها عين "الصباح" خلال جولة ميدانية لمراقبة سير العمل بمقتضيات العقد الجديد، واختبار سلوكات السكان والتغييرات الطارئة عليها، بعد دخول الجيل الجديد من الآليات والإجراءات حيز التنفيذ، وكذا وضع ممارسات عمال النظافة ومسؤولي الشركات تحت المجهر. المشهد الأولبزقاق متفرع عن شارع مولاي يوسف بمقاطعة أنفا (مستشفى مولاي يوسف بالضبط)، تترجل المرأة كاملة الأناقة من سيارتها، وتفتح الصندوق الخلفي. تحمل كيس أزبال من الحجم الكبير، تقترب قليلا من الحاوية الزرقاء، ثم تلقي الكيس الكبير بجانبها، وتركب سيارتها وتنصرف. المكان خال، إلا من عامل نظافة بزي مميز، يتابع المشهد بصمت، ثم يدفع عربته الصغيرة، متمتما بكلمات غير مفهومة. المشهد الثانيتسير شاحنة من الجيل الجديد أمام عاملي نظافة يجر أحدهما حاوية من الجيل القديم، تقترب الشاحنة من جبل صغير من الأزبال المتكومة قرب حاويتين كبيرتين من الجيل الجديد. يستعين العاملان برفش (بالا) وجاروف (راطو) من الجيل القديم لجمع النفايات في الحاوية الصغيرة، وحين تمتلئ، يتعاونان على وضعها في أسنان جرار آلي يتكلف برفعها أوتوماتيكيا وصبها في بطن الشاحنة. تنصرف الشاحنة من الجيل الجديد ويسير وراءها عاملا النظافة بخطوات تعبة وملامح وجمة، بينما مازالت العجوز تتسول أن يتكلف أحدهما بحمل جثة كلب نافق رماه أحدهم تحت نافذتها وانسحب. المشهد الثالثيغادر الطفل ذو العشر سنوات، منزله بأحد دواوير الهجاجمة، يحمل بعناء دلو أزبال من الحجم الكبير، ثم يعبر الطريق في اتجاه حاوية القمامة في الجهة الأخرى. بصعوبة، يحاول الطفل رفع الدلو لإفراغه عبر إحدى الفتحتين الصغيرتين في أعلى الصندوق الأزرق، يعاود المحاولة، عدة مرات، وحين يتعب، يطلب من شخص يمر بمحاذاته مساعدته في التخلص من الأزبال، يفعل الشاب المستعجل ذلك عن مضض، ثم يلقي الدلو الفارغ جانبا وينصرف. يلتقط الطفل الدلو، ينظر داخله، وحين يتأكد أن شيئا مازال عالقا في قاعه، يضربه بعنف مع سطح الحاوية ويغادر. المشهد الرابعيقف "تريبورتور" قرب ثلاثة صناديق للقمامة بالشارع الكبير بسيدي مومن. يترجل السائق، ويصعد بخفة ورشاقة خلف عربته، ويحمل كيسا ثقيلا ممتلئا عن آخره بقطع من الأحجار وقطع اسمنت ومخلفات البناء ويضعه قرب الصناديق، ثم يعود حاملا كيسا ثانيا وثالثا ورابعا وخامسا... وعاشرا، يضعها بالمكان نفسه. وقبل أن ينصرف، يرمي كيسي أزبال خفيفين من فوق عربته، تمزق أحدهما بعد ارتطامه بالأرض، فظهرت أحشاؤه. المشهد الخامسيفتح صاحب العربة التي تجرها دابة (بوعار) بعنف غطاء صندوق القمامة الموضوع قرب محطة للحافلات بشارع علي يعتة بعين السبع، ثم يرمي بنصف جسده وسطه، بحثا عن شيء/ أشياء لا يعرف استعمالها. يضغط "البوعار" بقوة على الصندوق ويستخرج كيسا بلاستيكيا يجهز عليه بآلة حديدية في يده، يفتش بحركة سريعة وسطه، يلتقط ملعقة وسكينا دون مقبض ومتلاشيات أخرى، ويرميها في عربته، قبل أن يتخلى عن الكيس قرب صندوق القمامة، ثم يعود ليغطس رأسه ونصف جسده من جديد وسط الحاوية بحثا عن صيد جديد. المشهد السادس"يتعاون" عامل صيدلية بمقاطعة المعاريف مرتديا وزرته البيضاء مع زميل له لإبعاد حاوية قمامة من الزقاق المقابل للصيدلية. يستعين الاثنان بقضيب حديدي معقوف من الأمام، ويزرعانه وسط الحاوية ويجرانها بعيدا، وبالضبط وسط الشارع المقابل. هذا المشهد يتكرر في عدد من مقاطعات المدينة، حيث يعمد السكان إلى "طرد" صناديق القمامة وإبعادها عن منازلهم ومقرات إقامتهم ومحلاتهم التجارية، اتقاء لروائحها الكريهة وتراكم الأزبال حولها، وتفاديا للإزعاج الذي يمكن أن تحدثه "جيوش البوعارة" حولها. صعوبة التأقلم السريع مع الآلات والتجهيزات الجديدة هذه المشاهد وغيرها، التي تتكرر يوميا بأشكال وصور مختلفة بأحياء وشوارع ومقاطعات الدار البيضاء، قد تساعد في رسم جزء، فقط، من الصورة، لكنها لا تقدم الصورة كاملة لقطاع شديد التعقيد تتداخل فيه مسؤولية الشركات والمؤسسات والجهات المكلفة بتدبير النظافة وجمع الأزبال المنزلية وترحيلها، وبين سلوكات المواطنين والسكان وطالبي الخدمة، وأدوار الأسرة والمدرسة والمجتمع في ترسيخ ثقافة المحافظة على البيئة والتربية المستمرة عليها. قطاع بسرعتينالمواطنون، الذين تحدثت إليهم "الصباح"، في رحلتها الميدانية التي شملت حوالي 12 مقاطعة، لا يكفون عن التذمر ويتكلمون بصوت مرتفع عن ما يصفونه بفظاعات شركات النظافة والمسؤولين الجماعيين الذين لا يتحملون مسؤولياتهم، حسبهم، ويتركون المدينة عرضة لجبال من القمامة والنفايات والأزبال التي تكاد تغرق أحياءهم وأزقتهم.بمقاطعات أنفا والمعاريف وسيدي بليوط وجزء من ابن امسيك ومولاي رشيد وسباتة قد تجد ما يبرر سخط السكان على خدمة النظافة، أولا، بسبب طبيعة هذه الأحياء المصنفة راقية وتتوفر على عدد أكبر من المحلات التجارية والإقامات السكنية ومجموعات أحياء الفيلات والإدارات العمومية والشركات والمكاتب الخاصة، وثانيا، بسبب ثقل التجربة السابقة وسلبياتها التي أثرت على صورة النظافة بهذه المقاطعات ووضعتها مباشرة تحت الملاحظة والمراقبة، خلال التجربة الجديدة، سواء من قبل السكان أو المنتخبين أو السلطات الإدارية.أغلب الملاحظات التي سجلتها "الصباح" بهذه المقاطعات، وباقي المقاطعات الأخرى التي تدبرها الشركة الفرنسية "سيطا البيضا"، انصبت حول محورين اثنين: - الأول، يتعلق بنوعية الحاويات الزرقاء الكبيرة التي اختارتها الشركة لبدء تجربة جديدة في الدار البيضاء، وهي حاويات مختلفة بمواصفات تقنية تساهم في الحفاظ على البيئة ونظافة الهواء من الروائح الكريهة وتمنع تشتت الأزبال خارجها، كما تختزل العدد الكبير من صناديق القمامة بفضل حجمها الكبير، إضافة إلى سهولة حملها وتفريغها.هذه المواصفات لم تعن بالنسبة إلى عدد من السكان أي شيء، إذ لم يتوانوا عن التعبير عن تذمرهم من هذه الحاويات الجديدة، ليس بالكلام فقط ولكن بالممارسة، إذ يفضلون وضع الأزبال والأكياس الكبيرة جانبها، ما يساهم في تشكيل مطارح صغيرة وسط الأحياء تصدر عنها روائح كريهة.من السكان، من "فضل" اقتلاع الغطاءات الصغيرة التي تسد فتحات هذه الحاويات ورميها، أو سرقتها حتى يسهل عليهم رمي الأزبال، أما "المتعاونون" جدا، فيعمدون إلى رمي الأزيال بتفريغ حمولات الدلاء، وحين ينتهون يفرغون ما تبقى في الأرض أو فوق صندوق القمامة، وينصرفون، ما يحول فضاءات هذه الصناديق إلى مجمعات للأوساخ والذباب والبقع السوداء.ثانيا، طريقة جمع الأزبال، إذ عبر عمال النظافة الذين التقتهم "الصباح" بمقاطعة أنفا والمعاريف ومولاي رشيد وسباتة، عن التذمر نفسه. وقال أحدهم "واش هاد الشركات جات باش تسهل علينا الخدمة ولا تصعبها علينا"، مفسرا ذلك بأن السكان يجدون صعوبة في حشو أزبالهم وأكياسهم الكبيرة وسط الفتحات الصغيرة، بالتالي يفضلون رميها جانبا، في حين تبقى هذه الحاويات شبه فارغة. حاويات من نوع "باف"العلمي البسباس، مدير قطب الجماعات المحلية بسيطا البيضا، يقر بصعوبة تنزيل النموذج الجديد لحلول النظافة المعمول به في أكبر عواصم العالم على أرض الواقع، لكنه لا يقر باستحالته، مؤكدا أن الأمر يتطلب بعض الوقت، قد يصل إلى نصف سنة من بداية الاشتغال الفعلي بالعقد الجديد بالبيضاء، وهي مدة كافية لإنجاز تقييم يفضي إلى خلاصات، بعد أن يتأقلم المواطنون مع هذه الحلول المبتكرة.وقال البسباس، في حديث لـ"الصباح"، إن "سيطا البيضا" تتكلف بمنطقتين تضمان ثماني عمالات، وهي المنطقة 1 التي تضم عمالات أنفا والفداء، ثم المنطقة 3 التي تضم عمالات مولاي رشيد ابن امسيك، وهما المنطقتين اللتين يتواصل بهما المجهود نفسه سواء في المرحلة الانتقالية، أو المرحلة الفعلية الحالية، علما أن مجهودا استثنائيا يبذل من قبل مسؤولي الشركة ومستخدميها وأطرها لخلق نوع من الألفة بين المواطنين والشكل الجديد للحاويات المسمى (بورن دابور فولنتير-باف)، وهي الحاويات التي وزعت منها الشركة حوالي 3 آلاف وحدة عبر تراب المنطقتين.وأكد البسباس أن اعتماد هذا النوع من الحاويات يعتبر ثمرة دراسة علمية أظهرت عددا من الإيجابيات مقارنة مع الحاويات القديمة ( أكبر حجما، وأحسن جمالية، وفعالية أكبر لمنع التسربات وقوة التحمل لأنها مصنوعة من المعدن وليس البلاستيك)، كما أنها مزودة بفتحات صغيرة، نزولا عند عادات مواطنين يفضلون طرح الأزبال في أوقات متفرقة في اليوم وبكميات قليلة يمكن استيعابها في كيس من الحجم الصغير. ولتفادي عدد من المشاكل وسوء الفهم التي خلقتها هذه الحاويات بالنسبة إلى بعض المواطنين، تعمل "سيطا البيضا"، خلال الأيام المقبلة، على تدشين حملة تحسيسية وتواصلية حول هذا الموضوع لشرح مزايا وخصائص الـ"باف"، من أجل تطبيع السكان مع هذا الشكل الجديد، علما أن جميع مستخدمي الشركة وأطرها ملزمون بالتواصل مع المواطنين حول هذا الموضوع على مدار اليوم، شأنهم في ذلك شأن "سفراء النظافة" الثمانية المعتمدين خصيصا للتوعية وتحسيس البيضاويين بأهمية مردودية الحفاظ على مدينة نظيفة ونقية. في الحاجة إلى التحسيس هذه الملاحظات حملناها، أيضا، إلى هدى الشيشاوي، رئيسة قسم النظافة بجماعة الدار البيضاء، التي قالت "بالفعل، مازلنا نرى بعض السلوكيات غير المنضبطة مع المرحلة الجديدة، خاصة على مستوى التعامل مع النوع الجديد من الحاويات الذي نأمل أن يستوعبه المواطن في أقرب وقت، للانتقال إلى مستويات أخرى في العلاقة بين الشركات والمواطنين عبر مجموعة من المحطات، تم تسطيرها في المخطط التواصلي الاستراتيجي".وأكدت الشيشاوي "إن الجماعة الحضرية للدار البيضاء واعية كل الوعي بالصعوبات الحالية، وتسعى للتخفيف منها في أفق معالجتها بشكل كلي، دون أن تفرط في الالتزامات الموضوعة على عاتق الشركتين اللتين نتواصل معها باستمرار لتنبيههم لهذه المشاكل وحثها على حلها في الآجال المنصوص عليها قانونيا، قبل الانتقال إلى مرحلة الجزاءات التي ستكون صارمة ولا مجال للتهاون فيها".إضافة إلى رفض الحاويات الجديدة من قبل عدد من السكان، يقاوم بعضهم التحولات التي تعرفها الدار البيضاء في قطاع النظافة بطرق أخرى، مثل سرقة صناديق القمامة وتدميرها وإحراق بعضها في عدد من الأحيان، والكتابة فوقها، ناهيك عن عمليات الترحيل والتحويل المستمر التي تخضع لها هذه الحاويات من قبل سكان يرفضون أن توضع قرب إقاماتهم ومحلاتهم التجارية.صعوبة التألم مع صناديق القمامة الجديدة تبدو بشكل أقل في المقاطعات التي تديرها الشركة اللبنانية "أفيردا"، وهي أول تجربة لها في الدار البيضاء. وعزا مواطنون ذلك إلى سهولة الولوج إلى هذه الصناديق التي تشبه كثيرا الحاويات القديمة مع وضع غطاء لها، كما أن انتشارها بأعداد كبيرة، ربما يسهل عملية التأقلم معها من قبل السكان بهذه المناطق، ما لاحظته "الصباح" خلال جولتها.يقول فراس عقرجي، المدير العام "لشركة أفيردا المغرب"، إنه يمكن "اليوم الحديث عن تحسن ملحوظ خاصة بعد مرحلة دخول الأسطول الجديد من الشاحنات والآليات والمستوعبات الخدمة الفعلية في كافة العمالات والمقاطعات التي نخدمها"، موضحا لقد ساهمت هذه الموارد من تمكيننا خاصة خلال عيد الأضحى من القيام بخدمة لاقت استحسانا لدى السكان بفضل سرعتها ونجاعتها بالتخلص من نفايات العيد".وأكد عقرجي أنه رغم النقاط الإيجابية التي تحققت خلال المدة الوجيزة للدخول الفعلي للعقد الجديد، إلا أن تحقيق الاستدامة ومستوى ثابت من النظافة يتطلب المزيد من العمل والمثابرة على ثلاثة محاور رئيسية:أولا: العنصر الأساس في هذا القطاع أي العمال الموظفون والجماعيون، إذ لا بد من الوصول إلى مستوى عال من الفاعلية والكفاءة. ونحن نتأمل من خلال التعاون والشراكة مع الفرقاء الاجتماعيين من الوصول إلى صورة لعامل النظافة تليق بالمجهودات الكبيرة المطلوبة في سبيل تحقيق مستوى النظافة المنشود.ثانيا: "إشراك السكان في عملية النظافة عبر تحسيسهم بضرورة المحافظة على بيئة نظيفة و جعل أحيائهم مكانا أفضل وإلهامهم للاعتناء ببيئتهم ونرى أن دورنا هو أن نبين لهم كيفية القيام بذلك".ثالثا: "الانخراط في تنظيم عملية الفرز لتفادي سلبيات الطريقة الحالية ودورنا هو بوضع كافة خبراتنا في مجال الفرز وإعادة التدوير لإيجاد حلول مستدامة قابلة للتطبيق". إنجاز: يوسف الساكت

“البيضاء دون أزبال”… حلم لم يكتمل

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

ابـن يقتـل والـده بخريبكـة

الزومي: ننتظر تدخل الملك

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات