مأساة إنسانية ببوشنتوف

استحال على جمعيات حقوقية مساعدة مريضة عقليا أنجبت، ببوشنتوف بالبيضاء، رضيعها في ظروف مأساوية ببيت أشبه ببالوعة مياه عادمة، قبل حوالي شهر. ولجأ حقوقيون إلى قائد المنطقة لإشعاره بحالة المريضة وبالخطر المحدق بالرضيع، كما أشعروا مسؤولين بالعمالة، والأمن إلا أن واحدا منهم كان يطالب الحقوقيين بنقل المريضة إلى المستشفى، رغم تأكيدهم أنهم يعجزون عن ذلك بدون إذن من السلطات، أو تدخل منها لحماية الرضيع والنفساء المريضة والتي مازالت تعيش على الفراش نفسه الذي وضعت عليه رضيعها، وقطعت حبل السرة بسكين بمساعدة من أمها المريضة."الصباح" انتقلت إلى بيت المريضة، وتحدثت إلى بعض جيرانها وأمها التي تعجز عن إنقاذ فلذة كبدها المريضة. لا يليق وصف «فضيحة إنسانية» بما تعيشه أم مريضة عقليا، وضعت قبل حوالي شهر وبضعة أيام مولودها الأول في بيت أفظع من مطرح نفايات، وقطعت حبل السرة بسكين قديم، مستعينة بأمها المريضة هي الأخرى، قبل أن تستسلم للمرض في فراش تفوح منه روائح البول والدماء وتحاصره أسراب الذباب من كل جهة.لا يحدث ذلك في الفيلم المصري الدرامي «تووت تووت»، الذي تنجب فيه نبيلة عبيد «المجنونة» في الشارع، ولا في غابر العصور، ولا في واحدة من البوادي المنسية وراء طموحات مؤشرات التنمية، بل في حي بوشنتوف في قلب العاصمة الاقتصادية للبلاد، وبالضبط في الزنقة 45 التي زارتها «الصباح»، على أمل أن تجد في بلاغ بعض جيران المريضة شيئا من المبالغة، إلا أن الفضيحة كانت أكبر من أن تصفها شهادات الجيران، الذين عزفوا عن زيارة البيت الذي يهدد بتفجير وباء ما. كأي أم تستقبل الشابة المريضة عقليا مولودها الأول بابتسامة طفولية، ترفع يديها المتسختين بالدماء، وتملأ أظافرهما القذارة، لتُبعد عنها أسراب الذباب التي تحط فوق فراشها المتسخ بدماء النفاس، وبقايا قيء ومشروب «رايبي» تدفق من كأسها على الفراش، ورائحة مياه عادمة تسبح في الغرفة المظلمة، قبل أن تعيده إلى يدي فاعلة الخير التي نقلتنا إلى البيت في بوشنتوف. تخفي وجهها الفاتن تحت غطاء ترفل فيه الحشرات. «بغينا الطبيب يجي لهنا ما بغاتش تخرج من الفراش»، تقول أمها باستجداء، قبل أن تهمس بخوف «أعيش هنا معها ومع شقيقي المدمنين على الكحول»، وتضيف الأم وقد استعادت نبرتها جهوريتها، أن المريضة عقليا ترفض الاغتسال وترك فراش بال في غرفة نوافذها بدون زجاج، «حين يحتاج إخوتي للمال ينزعون أبواب البيت وزجاج النوافذ وكل شيء صالح للبيع، لذلك بيتنا عار».جولة شاقة وشبه مستحيلة بسبب الروائح التي تملأ البيت، تكشف فظاعة العيش قريبا من جماعة بوشنتوف وبعيدا عن رحمة مسؤوليها، «ها أنتي شوفي»، وتشير المرأة المريضة، إلى بلاط البيت القديم الذي تغمره مياه الصرف الصحي المنفجرة من أسقف البيت، و»ما عنديش الماء، وحتى الضو منين غادي نغسل هاذشي». تعجز المرأة المريضة هي الأخرى كما يؤكد الجيران، عن تنظيف البيت، وعن توفير حاجياتهما من مأكل ومشرب، ولا حتى عن نقل فلذة كبدها إلى الطبيب، قبل وبعد الولادة.«هناء مريضة الكل يعرف ذلك، وقد تزوجت قبل سنوات، لكن زوجها أعادها إلى البيت، والجميع أيضا يعرف أن أحد أخوالها العاطلين عن العمل والمدمنين على شرب الكحول، كان يعتدي عليها». ما تشير إليه شهادات الجيران، هو أن وجود حسناء مريضة عقليا في بيت يعيش فيه مدمنون، ويستقبل مدمنين آخرين، يشكل خطرا حقيقيا عليها، دون أن يستبعدوا تعرضها للاعتداء، إلا أن والدتها المريضة ترفض الإجابة على هذا السؤال، وتقول «لم يطلقها زوجها، رماها هنا وذهب، لأنها مريضة، ولكن المهم الآن هو أن تنقذوها».ليست وضعية هناء ما حمل بعض جيران والدتها على كشف الفضيحة الإنسانية، ولا الأسرة التي تعيش ظروفا لا إنسانية بسبب أمراض وراثية عقلية والبطالة والإدمان، إنما «صراخ الرضيع الذي يقطع القلب هو ما دفعنا إلى الاتصال بكم، لا يكف المسكين عن البكاء ليل نهار، ما يهمنا هو أن تتدخل أي جهة لإنقاذه، لأن وضعية الأم لا تسمح بالعناية به، ووجوده في بيت قد ينفجر منه وباء ما نتيجة انعدام أبسط شروط النظافة، سيؤثر على سلامته وحياته» تقول الجارة التي حاولت تهدئة الأم التي ظلت تطالب بمساعدتها على حلق شعر الرضيع، «قريب يكمل الربعين، بغيت نحسن ليه». هل تعلم السلطة بوجود هذه الأسرة؟ نعم لكنها كما استرخصت حياة أفرادها البالغين، تسترخص حياة المولود وتعد الجدة بالتدخل لتسجيلها في الحالة المدنية «قال لي المقدم غادي يعاوني باش نجلب ليه، ونسجلو»، بما يشبه السذاجة تتحدث الجدة، التي لا تكف عن طلب المساعدة، وتطلب نقل الصور إلى الجمعيات الحقوقية لتتدخل «واش يقدرو إيصاوبو لينا القادوس؟ وحتى الشراجم البرد جاي، والفراش والماء والضو و..و..و...» تطول لائحة مطالب الجدة المريضة، كما تؤكد شهادات الجيران، وكلما أفصحت عن طلب جديد كشفت عن نمط العيش الذي تعيشه أسرة بيضاوية على بعد خطوات من واجهات جماعة بوشنتوف.قبل الهروب من تفاصيل قصة الأم المريضة عقليا وأطياف الروائح الكريهة التي تتحرش بك داخل هذا البيت، تهمس الجارة، «آجي تشوفي، هاذي حتى هي دارهم، كلشي ملك»، في إشارة إلى أن الأسرة تملك البيت، إلا أن ذلك ليس كافيا لأن تنجح في تدبيره بسبب المرض والإدمان، وهنا تقول الجدة «خفت يبيعو لينا الديور ونعيشو في الزنقة»، وإن كان العيش في الشارع، في مثل هذه الحالة، أنظف وأسلم صحيا من العيش في بيت/بالوعة. إنجاز: ضحى زين الدين

مأساة إنسانية ببوشنتوف

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جمعيات عاملة في مجال الإعاقة الذهنية تهدد بالإضراب

بوسعيد يوسع صلاحيات الولاة لتشجيع الاستثمار

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات