“سوق السنغال”… قصة نجاح بعد لعنة الإفلاس

وسط المدينة العتيقة للعاصمة الاقتصادية، استطاع المئات من المهاجرين القادمين من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، إنعاش سوق نموذجي، كانت السلطات قد أقامته بديلا لفائدة باعة عشوائيين، لكنهم فشلوا في خلق رواج به، فتخلى الكثيرون عن محلاتهم لصالح المهاجرين، "الصباح" تنقلكم، بالكلمة والصورة، إلى "سوق السنغال" لاكتشاف أسرار هذه الحكاية. "من سينكر فضلهم على السوق؟ لن يكون إلا حاسدا أو جاحدا إن لم يكن عنصريا، فهؤلاء نجحوا فعلا في ما فشل فيه أبناء المدينة"، الكلام هنا، لمالك محل تجاري بالبيضاء، متحدثا عن فضل مجموعة من المهاجرين والمهاجرات، القادمين من بلدان إفريقيا جنوب الصحراء، في الرواج الذي يعرفه سوق شهير بالمدينة.هنا "كازابلانكا"، بعيدا عن أخبار التوتر وتبادل العنف بين المهاجرين المتحدرين من بلدان جنوب الصحراء والمواطنين المغاربة هذه الأيام، تتواصل بباب مراكش، قلب المدينة النابض، فصول حكاية مثيرة وفريدة، في التشكل، أبطالها أفارقة غادروا السنغال والكامرون وغينيا وساحل العاج، فهاجروا نحو الشمال، بحثا عن فرص أفضل، أو تذكرة مرور إلى الجنة الأوربية، غير أنهم استطابوا المقام، بعد نجاحهم في ما فشل فيه تجار محليون.ملخص الحكاية، أن سوقا أريد له أثناء تشييده، أن يكون "نموذجيا" على مشارف مدينة قديمة، لكنه فشل، بسبب "مزيج من شبهة سوء التدبير وفقر العزيمة المغربية"، إلى حدود وصول رجال ونساء، عبروا الصحراء الكبرى، هربا من ويلات مختلفة، واستطاعوا تدارك الأمر، عندما أصبح السوق، فعلا نموذجيا، تحت مسمى "سوق السنغال"، وبفضل عزيمة وإرادة "100 في المائة إفريقية"، أصبح الربح الخالص لمحل واحد، وفي شهر واحد، يناهز مليوني سنتيم! فشل السوق البديلفي سنة 2003، قررت السلطات المحلية بالبيضاء إنهاء واقع من الفوضى بساحة "جامع الكبير"، التي أصبحت سوقا عشوائية، "من أجل تطبيق سياسة تأهيل المدينة القديمة"، كما يحكي عن ذلك عبد المولى مجاهد، واحد من التجار الجائلين الذين يعنيهم القرار، وبالنسبة إليه "رغم أنه كان معترفا بنا من طرف السلطات الولائية، إلا أنه لحظة تنفيذ قرارها بإنهاء عملنا بالساحة، لم تقدم لنا بديلا".تجار السوق، سينضاف إليهم آخرون ينشطون بدرب عمر، وسيجد الجميع أنفسهم عرضة للعطالة وشظف العيش، فقرروا الانتظام في تنسيقية، وتنظيم مسيرة نحو العاصمة الرباط، وعن هذا، يحكي عبد المولى قائلا "اكترينا ثلاث حافلات، فتوجهنا نحو الإقامة الملكية بطريق مكناس في سلا الجديدة، وكان مطلبنا إقرار بديل عن سحب الرخص وإنهاء عملنا في الساحة".بالعودة إلى البيضاء، بدا أن المطلب وجد آذانا صاغية لدى جلالة الملك، فجاءت البشرى، في شكل أوامر بتمكين التجار من بديل، لأن تأهيل المدينة العتيقة، ربما، يجب أن لا يتم على حساب السلم الاجتماعي، فانطلقت الحوارات، وتقرر تحويل مرآب عمومي بمدخل المدينة القديمة إلى سوق نموذجي.ويقول عبد المولى، الذي يتزعم التجار منذ ذلك الحين، "رغم أنه لم يتم إشراكنا من طرف السلطات الولائية في صياغة تصورها لتشييد السوق، فتمت العملية بشكل عشوائي سنة 2004، من قبل شركة محظوظة... فقد استجبنا جميعا للشروط، نحن الذين يصل عددنا إلى 192 مستفيدا، فدفع كل واحد منا 5500 درهم ثمنا للتجهيز والتشييد". 220 محلا بدل 192بعد سنة، انتهت الأشغال، وأصبح مركن السيارات القديم، يحمل اسم "السوق النموذجي للمدينة العتيقة"، ورغم أن السلطات شيدت 220 محلا تجاريا، أي أن في السوق 28 محلا "سكر زيادة"، عن العدد المطلوب، بشهادة عبد المولى، فقد التحقت أغلبية التجار، ممن لم تنفذ مدخراتهم طيلة سنة من العطالة بانتظار المحلات الجديدة".عاد الأمل ليعلو محيا التجار، استلموا محلاتهم، وشرعوا في تموينها بالسلع، منهم من احتفظ بسلعه القديمة، وهناك، من قرر تجريب منتوجات أخرى، أو تنفيذ حلم قديم، "مع العلم أن المحلات الجديدة في الحقيقة، ليست إلا صناديق ضيقة، الكلفة الحقيقية لتشييدها لن تتعدى 700 درهم، ونحن دفعنا، مقابلا لها، ثمانية أضعاف" يؤكد عبد المولى.سعادة التجار باستئنافهم نشاطهم، لن تدوم سوى بضعة أشهر، إذ سيتبين للزبائن، الذين أقبلوا عليه في الأشهر الأولى، أن ما يعرضه تجاره، لا يختلف عن ما هو موجود في خارجه، وبباقي محلات باب مراكش، "وشتان بين التسوق من فضاء تاريخي، وتجمع قصديري، سمي تعسفا نموذجيا". وهكذا ستحل لعنة الإفلاس، بعد أن يكون التجار قد فقدوا حتى رساميلهم التي ادخروها في انتظار الحصول على المحلات.بعد الفشل الأول، رغم أن السوق تدبره الشركة ذاتها التي شيدته ويدفع لها التجار 300 درهم عن كل محل واجبا شهريا، فإنهم سيتشبثون ببصيص أمل، وسينتظمون في "جمعية القاطرة التنموية لتجار السوق النموذجي بالمدينة القديمة"، وعن ذلك يقول رئيسها عبد المولى مجاهد "أصبحت لنا صفة رسمية نتحرك تحت ظلالها، فشرعنا في توجيه المراسلات وعرض مشاكلنا على أكثر من جهة".نحن داخل أسوار القصر الملكي في الأحباس أو "الحبوس" بالبيضاء، لقد سارت الرياح مرة أخرى، وفق ما تشتهيه سفينة التجار، والعهدة على رئيسهم الحاضر هنا، عقب تلقيه دعوة عبر اتصال هاتفي لمقابلة الملك محمد السادس. بعد دقائق انتظار، "استقبلني فؤاد عالي الهمة، وقال لي: غانهضر معاكم بلسان سيدنا، هداك السوق كيفاش بغيتوه إكون؟"، يحكي عبد المولى مسترسلا "قلنا بغيناه إتيهكل، ليسألنا مرة أخرى: واش درتو شي دراسة، لأن سيدنا بغا يعرف بشحال غادي يتقام".الملك، حسب كبير التجار، كان يريد معرفة كلفة هيكلة السوق من أجل المساهمة بهبة شخصية، والنظر في القطاعات التي يمكن أن تساهم في الغلاف المالي المتبقي، ومنها المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، ولذلك الغرض يحكي التجار أن مسؤولي القصر الملكي أمروا ولاية البيضاء بتمكين جمعية التجار من خدمات التقنيين والهندسيين لإنجاز الدراسة، أمر لن يتم لاعتبارات عدة، حسب رئيس الجمعية، وفي النهاية ستتكلف هذه الأخيرة بإنجازها، لكن المساطر ستطول وسيتعثر الحلم وسط زحمة الاجتماعات والأولويات وتداخل الاختصاصات وملكية العقار الأصلي وغيرها. جيـش الإنقـاذ الإفـريقـي تفاصيل حكاية الفشل المغربي، التي لم تنته، كان يحكيها رئيس جمعية التجار، في عشية يوم صيفي، أمام بوابة السوق النموذجي، المحاط بجدار بني تخترقه سياجات خضراء، وبدخولك من تلك البوابة، يكون أول ما يستقبلك منظر امرأة، ترتدي لباسا تقليديا إفريقيا، وهي جالسة بثقة في النفس، من ورائها محل أشبه بشاشة كبيرة تظهر على أنواع كثيرة من مستحضرات الزينة والتجميل، وأمامها، على الأرض، طنجرات لمأكولات عديدة، تفوح منها رائحة توابل غير مألوفة. رسميا، وماهو معتمد على الورق، نحن في السوق النموذجي للمدينة القديمة بالبيضاء، وفي الواقع، وذلك ما توحي به الأجواء، في "سوق السنغال"، كما ارتأى البيضاويون تسميته، مادام المغاربة يشكلون أقلية وسط تجاره، مقابل هيمنة سنغالية، مدعومة بمالي و"كوت ديفوار" والكاميرون وغينيا وما جاور هذه الدول.هنا حيث تعرض مواد الزينة "الإفريقية"، سواء كانت لغرض التسمين أو التنحيف، والشعر الاصطناعي، والتوابل والأعشاب القادمة من وراء تخوم الصحراء الكبرى، والوجبات السريعة وألذ الأطباق السنغالية، خصوصا تلك التي يشكل الأرز مكونا رئيسيا فيها، والعسل الغيني، وخدمات أخرى، لا تعرفها سوى بعض النسوة اللائي خبرن أسرار السوق، تقف مريم، فاتنة تمتهن الحلاقة والتجميل، وعيشة، مساعدتها الحسناء، أمام محل لا تتجاوز مساحته مترين مربعين، وتحكي عن بدايات أبناء جلدتها في هذا السوق."البعض منا، دشنوا مشوارهم باعة متجولين، ولكن أمام الحملات والمضايقات المتواصلة لرجال السلطة، خطر ببال البعض، ممن تمكنوا من تسوية أوضاعهم القانونية، كراء محلات، وممارسة نشاط قار، وللحقيقة فالسنغاليون كانوا الأوائل ضمن هؤلاء، فقبل خمس سنوات كانوا يشكلون أغلبية ضمن بقية المهاجرين"، حديث مريم، لا يقاطعه سوى همس مساعدتها عيشة، توجها به نحو فتاة مغربية، لمحتها تمر من أمام المحل "بس بس، هل تريدين أردافا أكبر؟"، وهو ما يؤكد أن الإقبال على السوق من طرف البيضاويات وراءه موضة تجريب المنتوج الإفريقي، في رحلة البحث عن جمال مفقود.في "سوق السنغال" يحدث أن تصادف، وأنت تتجول، أطفالا يلعبون بين المحلات، وتاجرة ترضع وليدا حديثا، وهنا يؤكد تاجر مغربي شاب، يظهر أنه المحبب أكثر لدى التجار الأجانب، أن "ذلك الطفل، وتلك الرضيعة، ولدا هنا، وسط السوق، ذات مخاض مفاجئ"، وإن كان هذا يعني شيئا، فهو أن هؤلاء التجار، أصبح لهم أبناء رأوا النور في المغرب، ويحملون جنسية البلد، وهذا مؤشر على الرغبة في الاستقرار.استقرار، قد يجد أسبابه في الرواج التجاري الكبير، الذي تعرفه السوق، إذ يحكي تجار مغاربة، أن رحلات تقوم بها سيارات لتزويد هذه المحلات بالبضائع، نشيطة جدا بين المغرب وبلدان إفريقيا جنول الصحراء عبر موريتانيا، "وهذا لم يعد خافيا، فبعد مغرب شمس كل يوم، بإمكانكم معاينة العملية، بإلقاء نظرة وراء فندق مصنف قريب من هنا".بلغة الاقتصاد، الأرقام والتقديرات، التي يدلي بها العارفون بأسرار السوق، لافتة للانتباه، وهذا واحد منهم يقول "بعد الكساد السابق، وجد المستفيدون المغاربة من المحلات، ما يشفي حنقهم السابق، فالمحلات التي اقتنوها بـ5500 درهم أصبحت اليوم تكترى للمهاجرين الأفارقة بموجب عقود تسيير، تنص على واجب شهري يتراوح بين 2000 و3000 درهم".وماذا عن الربح الصافي لكل محل؟ يأتي الجواب على لسان كبير التجار قائلا "لا يمكن تعميم الأمر، ولكن أعرف تجارا وتاجرات من إفريقيا جنوب الصحراء يربحون مبالغ تقترب من عتبة الـ20 ألف درهم شهريا".تواصل جولتك في السوق، وبعد أن تلقي نظرة على "أصغر صالون حلاقة للنساء في المغرب"، وبداخله تستلقي فتاة مغربية، على كرسي يتوسط المحل، كالأميرة، ومن حولها تلتف سمراوات، واحدة تعتني بالأظافر، والثانية تهتم بالشعر المنسدل، وأخرى تعد خلطات الزينة، قد يتخيل إليك أنك غادرت بلادك، أو ربما وجدت عن طريق الخطأ، وسط سوق شعبي بالعاصمة دكار.وفقط، عندما تعود أدراجك، نحو البوابة من أجل الخروج، سيظهر لك، عبد المولى مجاهد، أمين السوق، جالسا فوق كرسي، يتأمل من وراء نظارة شمسية، كيف أن هؤلاء النسوة المتخصصات في الزينة الإفرdقية، غيرن قبح وجه السوق المغربي "النموذجي"، وطبعا، إذا أردت منه انطباعا، فسيقول لك "من سينكر فضل هؤلاء على السوق؟ لن يكون إلا حاسدا أو جاحدا، فهم نجحوا فعلا في ما فشلنا فيه قبل عقد من الزمن". إنجاز: امحمد خيي

“سوق السنغال”… قصة نجاح بعد لعنة الإفلاس

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

محاربـة التمييـز بيـن الجنسيـن

الخلفي يثير غضب المنتجين من جديد

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات