محكيات أحمد الطالبي : المحكيـة الرابعـة… آلام بلا نهـاية

من جحيم أوفقير إلى زنازين البرواكية بالجزائر هؤلاء الجلادون الجزائريون لا علاقة لهم بالنضال وبالعمل السياسي ويمارسون العمل الأمني من زاوية واحدة: التحطيم المعنوي للضحية وبهستيرية استثنائية حينما أصبحت الضحية مغربية، إن الحقد على "المروك" و"المراركة" ضارب في الجذور. كانت جلسة ما بعد الظهر تمهيدية للإهانة والإمعان في ممارسة التعذيب بالتحضير للتصعيد ، إذ فجأة سألبس خنشة أخرى في وجهي، وعاريا بالتمام والكمال، ويتجه بي إلى قاعة أخرى مقابل الصالون، فكل شيء مهيأ سلفا. هناك ودعت الزمان، لأني لم أعد أستطيع مهما فعلت قياس الفترة التي قضيتها هناك.كل ما أذكر أن الأمسية استمرت حتى منتصف الليل، يصعب علي حصر الأشخاص (قرابة المائة) وحصر زمن السياط...حصر الأسئلة.سيستقبلني عاشور في المكتب بعبارات "ستؤدي الثمن غاليا، إن لدينا دلائل ضدك....فأجيبه بأني بريء كل البراءة وإن كانت هناك دلائل فستكون لا محالة لصالح براءتي، ثم بدأت الشتائم وبدأت آلة الكتابة في الاشتغال والمشرف عليهما يبدو أنه حفظ مسبقا مقالي عن ظهر قلب.أمرت بإزالة الملابس وتعرية نفسي، تمنعت، وبدؤوا في إزالتها بأنفسهم، وصاحب ذلك إغلاق للنوافذ بإحكام، و أنا أتساءل عما سيحضر لي؟ وماذا ينتظرني؟ هذا في قرارة نفسي..ما الذي أتى بي إلى هذا البلد فأوصلني إلى هذا الوسط؟استمرت التجربة في زمنها الموحش، أجمع شتات نفسي من آلام لا نهائية، ألملم جسدي المحاصر والمعزول في نزيفه بفعل الجلد بالسياط وكأني عبد يجلده سيده بأعنف ما تتصوره الخيالات الممكنة والمستحيلة.في نهاية الأمسية، يمدونني بكرسي ظننت أنه لأخذ قسط من الراحة، إذا بالكرسي هو الجالس ويتحول إلى جزء مني حيث أوثق به، ليبقى الظهر مقوسا، مع عودة السياط، أغيب عن الوعي وأدع الحراس يكتشفون أسراري حين يتململ الجسد...غير أن التصريحات لم تحمل لهم أي جديد، لا شيء يستحق الذكر.أستفيق لأقف وأنا المنهمك المتهالك، على أصابع الرجلين لفترة، بل على الأصابع فقط، والسوط يعلو كل أطراف جسدي. في لحظة أحسست بنفسي مجرورا من طرف الجند صوب الزنزانة، مددوني وبدؤوا عملية تدليك جسمي بمرهمات، ارتحت لعملية الدلك جيدا.الانتعاش بدأ يغمرني، (أواه) ما سر إشرافهم الجماعي على الدلك؟ ما السبب؟ ما أن عاينت الكدمات وآلام التعذيب الناتجة عن جروح وأورام، حتى تلمست الجواب، فقلت لربما هذا مؤشر لنهاية سراط الجحيم.ناولوني أقراصا وشربتها تحت المراقبة، و كانت قناعتي أنها لن تكون ضارة، هكذا زعمت..كانت ليلة متعبة شاحبة، مثقلة بأسئلتي وأسئلتهم، كلاهما يتكرر، كان سؤالي مشفوعا بجواب قد تنتهي رحلة العذاب هاته أم سأصبح جثمانا محمولا في عزلته، إلى منفاه السحيق..أو فجرا سينسل من عتمة الظلام من منفى إلى منفى... وكيفما كان الحال، فصل وسينتهي، هي قضية شعبي المغترب في وطنه...أسئلتهم كانت مشفوعة بالتعذيب تلك الليلة كباقي الليالي المعادة بأسئلتها الرتيبة حول المحاور نفسها. طبعا حين يسود السياط، تكون المتاعب جليلة، إذ لا يعقل الاستمرار في التعذيب..التهم تتحداني ليس بمنطقيتها وملابساتها، بل بفراغها وقوالبها الفاضحة التي لا تحتاج إلى خطة دفاع.. لذا كنت أحيانا أشفق على رجولتهم حين يتعبون في تمديد وقتهم الفارغ..يبدو أن الجلسة الصباحية ستتم في المكتب، لكن ما أن دخلت حتى تم اصطحابي إلى غرفة صغيرة بالطابق نفسه، غير أنها تحولت إلى حمام مستنقع، أدركت أني أمام فصل جديد، لوح خشبي مركون على الأرض، على شكل صليب، صلبت فيه بتقييد اليدين والرجلين، أرغمت على فتح فمي لترويته بالمياه القذرة إلى درجة الاختناق، أمرت برفع الأصبع كلما كنت جاهزا للاعتراف، ما أن أرفع أصبعي، إلا و نظر الجلاد صوبي شزرا ليقرأ انهياري لا صمودي، ويصيح: أتعترف كنت أدرك أن المسافة طويلة ولابد من أخذ نفس، أحافظ على رفع أحد أصابع اليدين المقيدتين. آخذ نفسا و يعاودون التعذيب حين يدركون أن ليس هناك اعتراف بشيء مفيد.في جلسة الصباح نفسها، ذقت وجبات من السياط تركزت على القدمين، وانتقلت إلى جهازي التناسلي، الأزيز يشق رأسي، أنفاسي تتقطع بالنواح والتنهدات، نبال تمزقني، الرعب يتملكني..هذه نهايتي، لم أعد أطلب إلا الخلاص بسرعة، لم أعد أتحمل الموت شاخصا تحت أبصاري .. وإن كنت أعتقد أنها نهاية حياتي، وألح داخليا في تمني النهاية، التي كانت تسير بوتيرة قاسية إلى درجة الجنون، قاسية جدا، يصعب وصفها كما يصعب تحملها.صوت أرعن يصيح في وجهي بكلمات نابية، لابد من ذكرها: "ماتنيك دين ربك، بعد اليوم".هددوني بالإتيان بزوجتي (يقصدون خديجة بنت المقاوم المغربي الحسين الخضار، وبمضاجعتها أمامي).وفي شراسة التعذيب يعلق أحدهم :إنه عنيد. ويعقب آخر: لذا هو معارض، ويضيف آخر:هو نفسه، ألف تعذيب المناضلين المغاربة بهذه الطريقة، لأنه ضابط بوليس.استمر التعذيب بكل ما رأوه مناسبا، ولم يعد في إمكاني إثبات بأني سأحيى أو أموت. قبل أن أرجع إلى الزنزانة. إعداد: يوسف الساكت

محكيات أحمد الطالبي : المحكيـة الرابعـة… آلام بلا نهـاية

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

مقالب وطرائف "المقدمين" : رجـل أو امـرأة...

جرائم هزت البيضاء : "حرب شاطئ طماريس"... يوم دام لا ينسى

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات