تخوفات من توظيفه في أغراض هدامة والقضاء على هويات المجتمعات بقلم: د. خالد الشرقاوي السموني (*) إن أكبر التغيرات التي حدثت في تاريخ البشرية تعود إلى وسائل الاتصال، فقد كان اختراع آلة الطباعة مثلا نقلة نوعية في تاريخ المجتمعات الإنسانية، ثم توالت الابتكارات والتطورات في مجال وسائل الاتصال والإعلام حتى برزت موجة جديدة مما يسمى بالإعلام الرقمي أو الإعلام الجديد أو الإعلام الاجتماعي، يتميز بخصائص لم تعرف من قبل عن الإعلام التقليدي من حيث التقنيات والسرعة الفائـقة. فهو كل وسائل الاتصال الجديدة المتمثلة في مواقع التواصل الاجتماعي من فيسبوك، وتويتر، ويوتيوب، وغوغل، والمدونات، وإنستغرام، والهاتف الذكي، والفضائيات ثلاثية الأبعاد وغيرها من الوسائل . فلقد صارت المجتمعات تعرف اليوم ثورة إعلامية تجلت في التطور المتسارع في وسائل الاتصال، جعل العالم قرية كونية مفتوحة، وألغى كل المفاهيم التقليدية للحدود الجغرافية بين الدول، وتم التغلب على قيود الوقت والمسافة، كما انتشرت شبكات الاتصال، سواء الصحافة الإلكترونية والمدونات، ومواقع التواصل الاجتماعي، أوالبريد الإلكتروني وغيرها، مما زاد بشكل كبير من فرص تنويع مصادر المعرفة والمعلومات و إتاحتها لكل الشعوب، و قدرتها على التأثير في الثقافة و في الهوية الثقافية، وعرفت كـثير من المجتمعات بفعل هذا الإعلام الجديد قيما ثقافية بعضها مخالف لقيمها الثقافية المحلية. وقد أدى نمو وسائل الاتصال الرقمي وتطورها السريع إلى تغيرات جوهرية مست البنى الاجتماعية ونتجت عنها تغيرات شاملة في الحياة الثقافية، وأصبح من الممكن الآن أن تكون المادة الثقافية متاحة للجميع على شبكة الإنترنت، وأن تنعقد العلاقات والصلات الثقافية بين الشعوب، فانزاحت الحدود الجغرافية التي كانت تعيق الاتصال الثقافي واللغوي. وإذا كان لهذا التطور الهائل في مجال الإعلام نتائج إيجابية على مستوى تنوع مصادر المعرفة والمعلومات والانفتاح على العالم الخارجي في ظل الاتصال الثقافي، وتعزيز مبـادئ التسامح والتعايش والاحترام المتبادل وتقبل الآخر وتفهمه وتقريب شعوب العالم على تنوع واختلاف أديانها ومعتقداتها وثقافاتها ولغاتها، فإنه في الوقت نفسه له تأثيرات سلبية على الثقافة وعلى الهوية الوطنية. فله القدرة، بوسائله المختلفة على إذابة المقومات الثقافية من أجل بناء ثقافة عالمية تسيطر على الثقافات المحلية وزحزحة العلاقات المجتمعية والروابط الأسرية، وإفساد تربية الناشئة وسلوكات الشباب، والتشكيك في المعتقدات الدينية، والترويج لمفاهيم وسلوكات تتنافى مع مبادئ المجتمع وقيمه. وما نخشاه اليوم أن تكون الحرب القادمة التي سيشهدها العالم، هي حرب إعلامية، ستوظف من خلالها الدول الصناعية التي تمتلك التكنولوجيا المتطورة، الإعلام الرقمي بكل أنواعه في أغراض قد تكون هدامة للثقافة أو على الأقل تشويهها، وأيضا القضاء على الهويات الثقافية للمجتمعات. ولذلك، ينبغي ألا يكون الإعلام الرقمي أداة في يد الدول الصناعية والمتقدمة لغزو الدول الضعيفة ثقافيا وفكريا وفرض هويتها عليها في ظل ما يسمى بالعولمة الثقافية، إذ ينبغي أن يبقى الإعلام الرقمي من أهم عوامل نقل الحضارة، وتعزيز الحوار الثقافي والتعايش بين الشعوب، وتحقيق الاتصال الثقافي بين الأفراد والجماعات والأمم. كما يجب عليه المساهمة في نشر ودعم الموروث الثقافي للدول، نظرا للأدوار التي قد يلعبها في تعزيز الاتصال الثقافي، وبناء علاقة تكامل وانسجام بين الثقافات المختلفة والمتعددة، بما فيه خير للبشرية جمعاء. فالإعلام الرقمي مطالب بتقديم رسالة إيجابية تهدف لبناء مجتمع دولي خال من الصراعات الثقافية، يسود فيه التعاون والحوار والاحترام المتبادل بين الخصوصيات والهويات الثقافية، عوض أن تسود ثقافة مهيمنة تسعى إلى تذويب الثقافات الأخرى. ومن جانب آخر، يجب على الدول أن تعيد النظر في منظومتها التربوية و التعليمية، من حيث الأساليب والمناهج والمحتوى، لمواجهة تحديات الاعلام الرقمي ومسايرة التطور الهائل لتكنولوجيا الاتصال، وأيضا التطور السريع للمفاهيم الثقافية والنظام الثقافي والسلوكي، والتحولات اليومية التي يعرفها المحيط الخارجي بسبب ثورة الاعلام الرقمي أو الإعلام الجديد. (*) مدير مركز الرباط للدراسات السياسية والاستراتيجية