“دور 44″… الرجراجيون وبدايات الإسلام

قبائل الشياظمة بإقليم الصويرة تحتضن أقدم المواسم بالمغرب انطلقت رسميا مطلع الأسبوع الماضي بمنطقة الشياظمة (إقليم الصويرة) فعاليات الموسم السنوي الربيعي لقبائل رجراجة، المعروفة محليا باسم "دور الأربع والأربعين". وتتميز هذه المواسم بخاصية فريدة من نوعها على اعتبار أنها تقليد سنوي يمتد أزيد من ستة أسابيع متصلة، مما يساهم في إنعاش الحركة التجارية والتعريف بالموروث الثقافي للمنطقة ، كما تتخلله عادات وطقوس صمدت لقرون عديدة، تجعل المحتفلين بها يستحضرون معها جوانب من بدايات انتشار الدين الإسلامي ببلاد المغرب الأقصى خلال القرون الأولى للهجرة. كانت الساعة تشير إلى الحادية عشرة صباحا، لحظة تحرك الموكب الرسمي الذي سيشرف على خروج الخيمة من زاوية بن حميدة التي تقع بجماعة قروية تحمل الاسم نفسه، (توجد على بعد حوالي 50 كليومترا عن الصويرة في اتجاه آسفي) . كل شيء في هذه الرقعة التي لا تتجاوز بضعة أحياء تحيط بالزاوية التي تعتلي ربوة تطل على مناظر خلابة، وتستكين للهدوء طيلة أيام السنة، وعلى وقع همهمات طلبة المدرسة القرآنية الصادرة من خلف جدران الزاوية زارعين بذلك دفئا روحيا في أرجاء المرافق المكونة للتجمع السكاني الذي تتشكل منه جماعة ابن احميدة. رغم انطلاق فعاليات هذا الموسم قبل بضعة أيام، إلا أن أقطاب زوايا رجراجة يعتبرون محطة "زاوية ابن احميدة" بمثابة الانطلاقة الرسمية بحكم أنها تشهد خروج الخيمة الرجراجية من الزاوية، وهي الخيمة التي تتمتع بحضور رمزي ومركزي في كل المحطات التي يمر منها الدور عبر أربعة وأربعين موضعا بقبائل الشياظمة والمناطق المجاورة.لكن صبيحة يوم خروج الخيمة الرجراجية، ارتدت القرية الصغيرة حلة جديدة استعدادا لاستقبال هذا الطقس السنوي الذي يبث الدفء في أوصالها، وتحولت بين عشية وضحاها إلى سوق شعبي يحج إليه الباعة من كل فج عميق، وينصبون خيامهم عند مغرب شمس اليوم الذي يسبق حضور الطائفة الرجراجية بزاوية "ابن احميدة"، لتبدأ معاملاتهم التجارية مع زوار "الدور" خلال الساعات الأولى من صباح اليوم الموالي.وانطلق طقس خروج الخيمة الرجراجية، من منزل نقيب الطائفة الرجراجية في موكب مهيب يتقدمه أعيان الطائفة ورموزها ومريدوها والمنتسبون إليها، في اتجاه زاوية ابن احميدة حيث توجد المدرسة القرآنية العريقة التي تشتهر بها المنطقة، وتستخرج منها الخيمة التي تُهيأ يوما قبل هذا الطقس وتخضع لإصلاحات وترقيعات إن اقتضى الأمر ذلك.واستقبِل الوفد من قبل طلبة وأساتذة المدرسة القرآنية، بتلاوة القرآن وترديد الأمداح النبوية والأذكار الصوفية، يتقدمهم بعض الشباب الذين يحملون أطباق "عصيدة الذرة"، التي يتهافت عليها الرجال والنساء والأطفال كل يحاول أن ينال نصيبه من الطبق ولو تعلق الأمر بلقمة صغيرة تُذهب عنهم البأس والأذى حسب الاعتقاد الشائع محليا.ولا تتوقف الطقوس المصاحبة لخروج الخيمة فقط على التذوق من أطباق "العصيدة"، بل ترافقها طقوس أخرى منها ترديد أزجال وتراتيل وأمداح نبوية خاصة يتلوها تلاميذ الزاوية، فيما انبرى أفراد الطائفة الحمدوشية لأداء مردداتهم الشعبية، وسط تجاوب ملحوظ من قبل الجموع الغفيرة التي ملأت الساحة التي توجد أمام باب الزاوية في انتظار خروج "الخيمة"، وكل هذا في ظرف زمني من المفروض أن لا يتجاوز ساعة، وقبل أذان صلاة الظهر.لحظة أطل الجمل الذي ستُحمل عليه الخيمة قادما من الجهة نفسها التي قدم منها الموكب في ما قبل. شرع الجميع في إفساح الطريق له ولقائده، ليقف أمام باب الزاوية، في الوقت الذي تعالت الهتافات والأهازيج والزغاريد إيذانا بقرب موعد خروج الخيمة التي حُملت من داخل الزاوية ووضعت فوق الجمل الذي اتخذ مكانه "باركا" وسط الجموع الحاضرة.وقبل وقوف الجمل الذي يحمل الخيمة، يشرع مقدمو زوايا رجراجة في حصة من الأدعية، معلنين دخول "الدور" مرحلة جديدة تتسم بحضور الخيمة في كل أطواره، في الوقت الذي خلت فيه المحطات الأولى وهي زاوية "علي بن بوعلي" (بمنطقة أقرمود)، حيث تعطى الانطلاقة الأولية، وتليها زاوية "سيدي علي لكراتي" ثم زواية سيدي محمد بن عبد الجليل (تالمست)، (خلت) من حضور الخيمة.وينطلق موكب الخيمة، المحملة على ظهر الجمل، من زاوية ابن احميدة في اتجاه ضريح "سيدي عيسى بوخابية" مخترقا "الشارع" الرئيسي للقرية الذي اصطفت على جنباته خيام الباعة والتجار الذين يعرضون منتوجات وسلعا مختلفة من ملابس ولعب الأطفال و"الفاكية" والمأكولات وغيرها، على امتداد أزيد من نصف كيلو متر، قبل أن يتناقص حجم الموكب المرافق للخيمة، تدريجيا، بعد تجاوزها التجمع البشري المكون للموسم، ولا يبقى معه سوى ممثلي الزوايا، بحكم أن المسافة الفاصلة ما بين ضريحي سيدي عيسى ثم سيدي بلقاسم اللذين يقصدهما الموكب، تتجاوز ثلاثين كيلو متر.بعد أن عرج موكب الرجراجيين على ضريح وزاوية سيدي عيسى بوخابية، حيث يؤدون صلاة العصر دون أن ينصبوا الخيمة، يشدون الرحال إلى ضريح سيدي بلقاسم الموجود بالقرب من الشريط الساحلي المحاذي للبحر، وقد ضمه التقسيم الترابي إلى إقليم آسفي لكن الرجراجيين ظلوا مصرين على انتمائه إلى قبائل الشياظمة، فيحط الدور به، بل وتنصب الخيمة الرجراجية لأول مرة منذ انطلاق الموسم، وتبدأ الطقوس الرسمية له خاصة ما يتعلق بتسلم "الفتوحات" و"الزيارات"، لترفع الخيمة خلال مغرب اليوم الموالي نحو موضع آخر، وهكذا دواليك إلى أن تنتهي محطات "الدور". أصل "رجراجة" وسبب تسميتهم يذكر ابن خلدون في الجزء السادس من تاريخه قبيلة "رجراجة" ضمن القبائل المصمودية الأمازيغية، وقد ظلت محافظة على طابعها وهويتها الأمازيغيتين إلى حدود العهد الموحدي حين امتزجت أنسابها بالعرب، بفعل حركة عبد المومن بن علي الموحدي، وبعده حفيده يعقوب المنصور، وكان الهدف من وراء هذه الحركة الحد من فرص الثورة لدى العنصر الأمازيغي عبر البحث عن سبل التقريب بينه وبين العنصر العربي، وقد أتت هذه السياسة بالنتائج المرجوة منها إلى حد ما، رغم التحفظ الذي أبداه الرجراجيون إزاء الدعوة الموحدية…أما سبب تسميتهم "رجراجة" فقد تعددت بشأنه الروايات التاريخية/ فنجد في كتاب "السيف المسلول" لمؤلفه عبد الله السعيدي الرجراجي بأن كلمة "رجراجة" هي من باب تسمية الشيء بلفظه، فهي مشتقة من عبارة "يترجرجون" التي وردت على لسان فاطمة ابنة النبي محمد عليه السلام" الذي تم انتداب سبعة رجال من هذه القبيلة لزيارته، بعد أن سمعوا بنبأ الدين الجديد، فشدوا الرحال إلى المشرق لمقابلة الرسول عليه السلام واعتناق الإسلام، ولما وصلوا إلى وادي مكة رفعوا أصواتهم بذكر الله وكانوا يرطنون بلهجاتهم المحلية، قال الرسول لابنته فاطمة: انظري ما هذا؟ فقالت صوت جيش قوم يترجرجون، فقال: سميتهم يا فاطمة…إلا أنه من المستبعد أن يكون سبب تسميتهم كذلك، أولا لغرابة هذا الحديث إن لم نقل لطابعه الأسطوري، وثانيا لان التسليم بهذه الرواية يفضي إلى الجزم بواقعة مقابلة هؤلاء الرجال السبعة للرسول عليه السلام، وهذه المسألة محل خلاف وسط المؤرخين بين من يثبتها أو ينفيها أو يشكك فيها.لكن في المقابل نجد أن الأستاذ أحمد التوفيق يورد في هامش كتاب تولى تحقيقه تحت عنوان "التشوف إلى رجال التصوف" لابن الزيات أن كلمة "رجراجة" أصلها "إيركراكن" ومفردها "أرّك"، وهو من فعل "أرّك" الذي معناه بارك، ومنه "تارّاكت" وهو موكب التبريك، و"أركراك" هو المتبرك به.ومهما كان الخلاف بين المؤرخين حول أصل التسمية، أو قضية "صحبة رجراجة" فإن الإجماع شبه حاصل على فعالية الدور الذي قام به هؤلاء مع بدايات انتشار الإسلام بالمغرب، فأبو القاسم الزياني في "الترجمانة الكبرى" ذهب إلى اعتبارهم "أول من أدخل الإسلام إلى المغرب ونشره في أوساط البربر".وهناك من رأى أن أجداد الرجراجيين من بقية الحواريين (اتباع النبي عيسى عليه السلام)، وذلك حسب وثيقة تاريخية أوردها صاحب "السيف المسلول"، أي أنهم، بحسب الوثيقة ذاتها، كانوا مسيحيين، وانتقل أربعة منهم من جزيرة الأندلس (إسبانيا حاليا) إلى المغرب، قبل ظهور الإسلام، فارّين بدينهم من الاضطهاد، ونزلوا بساحل "أكوز" على ضفة وادي تانسيفت، وأسماؤهم كما وردت في عدد من المصادر التاريخية هي كالتالي: أمُج، وعلقمة، وأردون وأرتون.ومنهم انحدر سادات الرجراجيين ورجالاتهم السبعة الذين تُزار أضرحتهم خلال المواسم الربيعية وهم: سيدي واسمن وأبو بكر اشماس وابنه صالح وعبد الله أدناس وسيدي عيسى بوخابية وسعيد السابق وسيدي يعلى بن واطل بن مصلين.وهؤلاء السبعة هم الذين أثيرت مسألة صحبتهم ومقابلتهم للنبي عليه السلام، هل هي واقعة حقيقية أم لا؟ أسباب خروج الخيمة أياما بعد انطلاق الدور لكن ما الذي يجعل الخيمة تبدأ من ضريح سيدي عيسى بوخابية ولا تبدأ من الأولياء الذين سبقت محطاتهم في "الدور"؟الجواب عن السؤال نجد جزءا منه في في هامش إحدى صفحات كتاب "السيف المسلول" لمؤلفه عبد الله السعيدي الرجراجي (تولى تحقيقه والتعليق عليه نجل المؤلف) إذ يقول "... أعتقد أن بداية الدور من سيدي علي بن بوعلي، لم يأت وليد صدفة، وإنما بعد تدبير وتقدير، فسيدي علي يقع ضريحه في وسط القبيلة تقريبا، والانطلاق منه يكون أسهل بالنظر إلى الصلحاء الآخرين الذين يجيئون بعده (...) أما الخيمة التي لا تقام به ولا بسيدي علي الكراتي ولا بسيدي محمد بن عبد الجليل، فمرد ذلك والله أعلم (يقول المؤلف) إلى أن الذين سهروا على ترتيب هذه الأدوار فكروا بأن من المعقول أن تقام لأول مرة بواحد من الصحابة، (الرجراجيون يعتقدون أن بعضا من أوليائهم صحابة) ولما كان سيدي عيسى بوخابية أقرب إلى تلمست من الناحية الجغرافية، كانت الخيمة تقصده ساعة انطلاقها من زاوية "ابن احميدة". إنجاز: عزيز المجدوب

“دور 44″… الرجراجيون وبدايات الإسلام

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

أفلام تطوان تعالج حقوق الإنسان وقضايا المتوسط

السعيدي : المولى إسماعيل أوقف "الدور" خوفا من نفوذ الرجراجيين

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات