التسيب وثقافةُ الاستسهال

لم نشهد، في التاريخ العربي الحديث، تسيُّبا في استخدام المفاهيم كالذي نشهده منذ عشرين عاما، وفي العشرة الأواخر منها على وجه التحديد. وأكثر المفاهيم عرضة للتمريغ والابتذال وسوء الاستخدام مفاهيم السياسة، أو المفاهيم التي تنتمي إلى نظرية السياسة! فثمة استسهال بالغ في استخدامها، وكأن معناها في غاية الوضوح لدى من يستخدمها! وأكثرهم لا يعلم أنه لا يعلم معناها ، وإنما يستبدهها من دون أن يدري أن وراء كل مفهوم منها تاريخا من الإنتاج الفلسفي والنظري، وأن دلالاتها مستقاة من تلك الأصول الفلسفية، وفهمها لا يستقيم في الوعي من دون العودة إلى تلك الأصول. وإذا كان في حكم المستحيل أن نطالب الناس جميعا باستيعاء تلك المفاهيم انطلاقا من أصولها الفلسفية والفكرية، فلا أقلّ من أن ننبّه على التمادي في لوكها وكأنها بداهات واضحةٌ في الأذهان، وتدويرها في حلقات مفرغة على شكل جُمل لا تقول شيئا، ولا تقدّم معرفة بشيء، ولا تزيد عن كونها لَغواً!إن مفردات / مفاهيم عدة مثل: الديمقراطية، المواطنة، المجتمع المدني، المجتمع السياسي، الفرد، الحرية، المؤسسات، الدولة، السلطة، النظام السياسي، التعاقد، التوافق.. الخ، مفردات نصادفها في ما نقرأ ونسمع كلّ يوم، ونحسب أن دلالاتها واضحةٌ ومتقررة في الأذهان، من دون أن يكلّف أي منّا نفسه عناء التوقف عندها، ومساءلة نفسه إن كانت معانيها جلية في ذهنه! والمشكلة ليست، فحسب، مشكلة المتلقي - القارئ أو السامع - وإنما هي، في المقام الأول، مشكلة المُرسِل (الكاتب أو المتحدث)، فالمئات يكتبون كل يوم، أو يتحدثون، في صحف المغرب وإذاعاته وتلفزيوناته، مستخدمين هذه المفاهيم، وكأنها مجرد ألفاظ عادية، كلفظة حذاء أو قلم أو منزل أو سيارة أجرة! وأمثالهم يفعلون الشيء نفسه في بلاد عربية أخرى - كثيرة - يُشبهنا كتابُها وقراؤها في هذا التسيُّب! ولو أنت! سألتَ أي واحدٍ ممن يكتبون أو يتحدثون، مستعملين تلك المفاهيم، عن معنى مفهوم واحد منها، لِمَا ظفرتَ منه بجواب، ولا وجدتَ فيهم من يدرك خطأ استبداهه الأشياء والكلمات إلا من رحِم ربُّك! إذ كلٌّ بما لديهم فرِحون.يزيد معدّل التسيُّب تضخما حين تنتقل من عالم الكُتَّاب والسياسيين إلى عالم القرّاء والمعلّقين في شبكة الإنترنت! يبلغ استسهال الكتابة مداه، هنا، حتى على صعيد اللغة التي غالبا ما تكون عرضة لمذبحة! يأخذ الكاتبون والمعلّقون حريتهم في قول أيّ شيء، وفي استخدام لغةٍ لا تنتمي إلي تقاليد النقاش ولا التفكير. دعك من العاميّة المخلوطة ببعض الفصحى، أو من فرنسية الحديث اليومي، ودعك من مفردات الشتم والقدْح التي هي «النقد» عندهم، إنك تجد ذلك التسيُّبَ فائضا على نحو مخيف، ولكنك تعثر عليه ممزوجا -ويا للغرابة - بالاعتقاد المريح بالوضوح النظري في مسائل يحتاج تحصيلُها إلى قراءة آلاف، وربما عشرات آلاف، الصفحات من الأصول النظرية والفلسفية الحديثة والمعاصرة!إن المرء لَيَتَولاَّهُ بُهْرٌ بهذه الكمية من «الشجاعة» في استسهال التفكير والكتابة، عند جمهور عرمرم من المتحدثين في شؤون السياسة، في مغرب اليوم! وإذا كان ممّا يُحْمَد للحريات النسبية، التي يَنْعَم بها المغرب، أنها أطلقت ألسُنًا كان يعقِلها القمعُ والخوف، وأفرجت عن إرادات كبَّلتها أصفاد الماضي، فإن لهذا الدواء بعضا من المضاعفات الجانبية ناجمٌ بعضُها من الإفراط فيه، ومن سوء تقدير المدى الطبيعي، والمقدار الضروري، من الحرية التي ينبغي أن يمنحها الناس لأنفسهم. فلقد نفهم أن يحرص المرء منا على التمسُّك بحقه في الكلام والرأي، وهذا أمر محمود ومرغوب وعلامة صحة لا غبار عليها، وعلينا - جميعا - أن نحيط حقَّه هذا بالحماية وإن اختلفنا في الرأي. ولكن هل من الحكمة أن يمنح المرءُ نفسه حرية في الاستخدام الفوضوي لمفاهيم ذات أصول فكرية من دون أن يستوعيها في أصولها تلك، وأن يتنطع لمساجلة أهل الاختصاص فيها؟ هل من الحكمة أن نتكلم أكثر مما نسمع، وأن نكتب أكثر مما نقرأ، وأن نكتفي بتصفح الجرائد والمواقع الالكترونية بدلا من اقتناء الكتب وقراءتها؟ الدكتور عبد الإله بلقزيز

التسيب وثقافةُ الاستسهال

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الاشتراكيون ينتصرون لزواج المثليين بفرنسا

400 طفل استفادوا من ملتقى مدارس السلة بطنجة

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات