تصورات حول نجاعة العدالة الجنائية

قانون المسطرة الجنائية بين الفعالية في البحث عن الحقيقة والحرص على احترام الحقوق رغم أن العدالة هي قيمة إنسانية تختلف عن كل التصورات الاقتصادية التي تعتمد وسائل العمل والإنتاج والكلفة والجودة، فإن التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والتكنولوجية التي عرفها العالم، وحاجة المواطن إلى عدالة ناجعة وجيدة،كلها وغيرها أسباب دفعت إلى تفكير الفقه والمسؤولين الحكوميين والقضائيين، بالمغرب وخارجه في إعمال تلك التصورات على العدالة الجنائية. ومن الجودة أيضا ضمان الأمن القضائي، الذي أضحى قاعدة دستورية، إذ لاحظ بعض المتدخلين في ندوات الحوار الوطني، عن حق، « تباين الاجتهاد القضائي بالنسبة لنفس النوع من القضايا، حسب المحاكم، وداخل محكمة واحدة حسب اختلاف الغرف أو الهيآت التي تبت في هذه القضايا وأحيانا داخل غرفة واحدة بالنسبة إلى قضايا متطابقة...»، لذا فإن الوضع أصبح يتطلب مجهودا جبارا على صعيد تدريس الاجتهاد القضائي وتعميمه ونشره، و تحسيس الجهات القضائية بضرورة الاهتمام به، وعند الاقتضاء خلق آليات حقيقية لضبطه، تتصدى للاختلافات المرصودة ومعالجتها، مع استعمال التكنولوجيا لإعلام القضاة والمحامين بالاجتهادات القضائية الحديثة في إبانها بعد تدقيقها من طرف آليات مختصة تنشأ لهذه الغاية.أما العصرنة والتحديث ومدى تأثيرهما على المحاكمة العادلة، فقد تم عقد ندوات قدمت خلالها عروض قيمة، تسعى كلها إلى طرح وسائل التأهيل وتحديث قطاع العدل وعصرنته، والوصول إلى عدم مادية المساطر (la dématérialisation des procédures) مع التأكيد على أن تحقيق جودة العدالة ونجاعتها، يتطلب تكاثف الجهود والعمل على تسريع مسلسل ذلك التحديث والعصرنة، باستخدام تقنيات الإعلام والاتصال. هذا مع التأكيد على أنه لا يمكن عصرنة القضاء وتحديثه ومكننته دون التحسيس بضرورة إلمام المرتفق نفسه بأساليب التعامل مع التغيير الكبير المراد إدخاله على الإدارة القضائية، وإلا فإن المساواة التي أتى بها الدستور لن تتحقق على أرض الواقع، فالمواطن الأمي والمواطن الأمي معلوماتيا لن يستفيدا نهائيا من الخدمات الإلكترونية المراد للقضاء أن يقدمها، والتأكيد على ان العنصر البشري الذي سيشتغل لإعداد المنظومة الإلكترونية الخاصة بكل فرع من فروع العمل القضائي المتشعبة إجراءاته، بعد وضع النصوص القانونية المؤطرة لذلك، ينبغي أن يجمع بين تقنيات هذا العمل وبين المعرفة الكافية بالقانون وبالقضاء،إن تأتى ذلك، وإلا فبعمل جماعي تشاركي يجمع بين العلمي والعملي والحقوقي والتقني، مع الحفاظ في الوقت نفسه على استقلال السلطة القضائية إزاء «سلطة التقنيات «ومن قد يتكفل بها من هذه الجهة أو تلك، في أفق الوصول إلى تكوين جيل جديد من الحقوقيين التقنيين، قضاة ومحامين، وأطر عليا وكتاب ضبط وغيرهم .وبخصوص تأثير التحديث والعصرنة على الرفع من نجاعة العدالة الجنائية، فهو أمر أكيد بلا جدال، إلا أن تمييزا بين مكننة الإجراءات وتطوير آليات عملها وبين العمل القضائي المحض، أي البت في جوهر، يبقى أمرا واردا، ذلك أن الاستفادة من التطور التكنولوجي في مجال المعلوميات بتقديم خدمات مختلفة للمتقاضي، وتيسير ولوجه إلى المعلومة القانونية والمعلومة القضائية أمر محمود ومطلوب، شأنه شأن تسهيل التواصل بين المحاكم مع بعضها ومع إدارة السجون والشرطة والمهن المرتبطة بالقضاء، وكذا التبليغ، وحتى أداء الرسوم القضائية والغرامات عن بعد، واستخراج السجل العدلي إلكترونيا من مركز وطني، ولم لا استخراج وثيقة رد الإعتبار بحكم القانون من حاسوب بعد الإدلاء بالوثائق اللازمة، إلى غير ذلك من الخدمات الممكن الاستفادة منها. لكن العمل القضائي المحض، قد تفسده المكننة إن شاع استعمالها والاعتماد عليها في مجالات مختلفة مرتبطة بالإثبات في المادة الجنائية وبالقناعة التي تكونها المحكمة لاتخاذ قرار بالبراءة او بالإدانة.ولهذا السبب أشرت في البداية الى أن النجاعة في العدالة الجنائية هي استعمال أفضل الوسائل الممكنة، للوصول، بأقل التكاليف وفي أسرع الأوقات، إلى خدمة قضائية جيدة، وإلى» تحقيق المحاكمة العادلة «، ذلك أن الغاية القصوى من المحاكمة الجنائية في آخر المطاف هي تحقيق العدل بين الناس، ومن ثمة فإن كل ما من شأنه أن يخل بذلك من مكننة أو غيرها ينبغي التعامل معه بحذر، إن بالاستفادة الجزئية منه عند الاقتضاء، أوبالاستبعاد عند الضرورة .والحذر الأول يتجلى في ضرورة البحث عن أنجع السبل لإقامة منظومة معلوماتية محصنة تحصينا كاملا من الاختراق، ومن أساليب التزوير والاصطناع التي تتفتق عنها بشكل متجدد عبقريات المخترقين والمتلاعبين، والأمر هنا يتعلق بتوقيعات (قد تكون الكترونية ) منسوبة إلى أشخاص، وقد يتعلق بوثائق قد لا نعلم غدا أصلها من نسختها، مع ما لذلك كله من عواقب .والحذر الثاني، يتعلق بما نسمعه من النقل المرئي السمعي البصري للمؤتمرات عبر الفيديو، وإمكانية استخدامه للاستماع للشهود أو للمتهمين، مع ما قد يكون لذلك من تأثير على المحاكمة العادلة، المؤسسة على إجراءات كثيرة متماسكة تتحقق بواسطتها مجتمعة شروط هذه المحاكمة كالحضورية والشفهية، والمواجهة داخل قاعة المحكمة بين كل الأطراف وتكوين القناعة، وهي كلها أمور لا ترتبط بالكتابة، التي حل محلها «الإلكترون»، أو» اللاتجسيد»، بل تتعلق بأمور وجدانية إنسانية من الصعب مكننتها. وفي هذا الإطار اؤكد ما سبق أن اوضحته بخصوص القانون رقم 10-37 المتعلق بحماية الشهود والمبلغين وتأثيره على حقوق الدفاع، وذلك على النحو التالي :«حقا، إن هناك اعتبارين متناقضين يسيطران على قانون المسطرة الجنائية، أولهما توخي الفعالية في البحث عن الحقيقة، وهو ما يمكن أن يتسبب في حدوث انتهاكات لحقوق الإنسان، وثانيهما الحرص على احترام هذه الحقوق مع ما قد يترتب على ذلك، في بعض الأحيان، من غل يد العدالة عن الوصول إلى معاقبة الجناة، أو في نازلة الحال، عن حماية الشهود الذين قد يتعرضون لخطر أو ضرر معين، نتيجة إقدامهم على مساعدة القضاء للوصول إلى معاقبة الجناة.» بقلم: طيب محمد عمر,محامي بهيأة الدار البيضاء

تصورات حول نجاعة العدالة الجنائية

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

محاكمة قاتل مستخدمة بشركة بتاوجطات

ضحايا وخسائر في حوادث سير بمراكش

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات