دراسة: تصورات حول ضرورة استقلال التفتيش عن السلطة التنفيذية (1/2)

الفصل 116 جاء حاسما بربط جهاز التفتيش القضائي بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية يؤكد جان جاك روسو أن النظام الاجتماعي الأمثل يفترض أن يكون العدل هو الفضيلة الأولى لكافة المؤسسات مثلما أن الحقيقة هي الفضيلة الأولى في كافة أساليب التفكير، ومن eم لا سبيل للتشكيك في عدل مؤسسة العدالة من باب أولى.ذلك أن السلطة القضائية التي من أهدافها السامية تحقيق الديمقراطية وتنمية قدرات المواطن وازدهاره لا يمكنها في غياب الاستقلال التام عن السلطة التنفيذية أن تقوم بدورها الحقيقي في المجتمع. يقصد بالاستقلال التام في هذا المجال عدم السماح للسلطة التنفيذية بالتدخل في أي مجال من مجالات الحياة المهنية للقضاة انطلاقا من التكوين والتعيين ومرورا بالترقية وإسناد المسؤولية والتأديب وانتهاء بالإحالة على التقاعد.ويعد التأديب الوسيلة الناجعة التي كانت تستعملها السلطة التنفيذية ممثلة في وزير العدل من أجل ترهيب القضاة وسلب حريتهم وضمان ولائهمK وذلك بواسطة جهاز وضع تحت سلطة الوزير بمقتضى الفصلين 13 و14 من ظهير 15 يوليوز 1974 المتعلق بالتنظيم القضائي والفصل 17 من ظهير 11 يونيو 1974 المتعلق بالنظام الأساسي لرجال القضاء والمادة 12 من مرسوم 23 يونيو 1998 المتعلق بتحديد اختصاصات وتنظيم وزارة العدل. وهي المرجعيات الحالية للمفتشية العامة. إذ يتولى وزير العدل في إطار تلك المرجعيات تلقي الشكايات وهو الذي يعين المقرر للتحري في معطياتها وهو الذي يترأس المجلس الأعلى نيابة عن الملك، ويشارك في اتخاذ القرار التأديبي النهائي على ضوء تقرير المفتشية العامة، وإليه في النهاية يرجع الإشراف على تنفيـذه دون أن يكون محط أي طعن. ولا أخفيكم، أن هذه الوضعية هي التي منعت قضاءنا من الازدهار والانفتاح وبالتالي ما كان لها أن تستمر بفعل الاحتقان الذي وصلت إليه.ذلك أن التفتيش القضائي يعتبر بمثابة أداة حادة من الجانبين فإذا استعملت في الخير كانت قاطعة للشر، وإذا استعملت للشر كانت قاطعة للخير معلنة للخراب.ولهذا قررت بعض الدول المتقدمة مثل الدنمارك وفانلاندا والأراضي المنخفضة الاستغناء عن التفتيش معتبرة أن القضاء فوق هذا الاعتبار و أن القاضي هو فقيه نفسه لن تسمح له هيبته ومقامه و نزاهته أن يكون محط تفتيش أو مراقبة وهو الذي يراقب كافة أفراد المجتمع.لكن بعد صدور دستور 2011 الذي ارتقى بالقضاء وبوأه رتبة السلطة المستقلة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية والذي أبعد وزير العدل عن تركيبة المجلس الأعلى للسلطة القضائية وخص الأخير وحده بالسهر على تطبيق جميع الضمانات الممنوحة للقضاة بدون استثناء، من حقنا أن نتساءل عن موقع جهاز التفتيش القضائي من استقلال السلطـة القضائيـة وهل سيبقى تابعا لوزير العدل أم سيصبح جهازا من أجهزة المجلس الأعلى للسلطة القضائية لكي يتحقق استقلال السلطة القضائية بالمعنى الشامل؟ بمعنى آخر كيف يمكن أن نتصور ضرورة استقلال التفتيش القضائي عن السلطة التنفيذية لتحقيق استقلال السلطة القضائية؟ لا يختلف اثنان على أن وجود مفتشية تابعة لوزير العدل مسألة لا تتلاءم مع مبدأ استقلال السلطة القضائية على اعتبار أن العدالة تلعب دورا أساسيا في إقامـة التـوازن داخـل المجتمـع، ولا شيء ينبغي أن يفقدها دورها الريادي الذي تستمده من ثقة المواطن بها.فما هي إذن المرجعيات التي يمكن أن نستند عليها لرسم تصورات استقلال التفتيش القضائي عن السلطة التنفيذية ؟ المرجعيات الكفيلة بتحديد موقع التفتيش القضائي في دستور 2011 جاء في الفصل 116 من دستور 2011 ما يلي" يساعد المجلس الأعلى للسلطة القضائية في المادة التأديبية قضاة مفتشون من ذوي الخبرة." يعتقد جانب من المهتمين بالشأن القضائي أن هذا الفصل لم يحسم في تبعية جهاز التفتيش للمجلس الأعلى للسلطة القضائية بصفة قطعية على اعتبار أنه سمح له فقط بالاستعانة به دون أن يجعله تحت سلطته.لكن هذا الاتجاه لا ينبغي أن يثني الباحث عن الوقوف على مرجعيات استقلال السلطة القضائية التي انبنى عليها دستور 2011 للحسم في هذا الموضوع أول هذه المرجعيات تكمن في المبادئ الأساسية بشأن استقلال السلطة القضائية التي تبناها مؤتمر الأمم المتحدة السابع لمنع الجريمة و معاملة المجرمين المنعقد بميلانو الإيطالية في دجنبر 1985 والتي تم اعتمادها بموجب قراري الجمعية العامة للأمم المتحدة عدد 40/32 وعدد 40/140. وفي قمة تلك المبادئ شمولية ولايته بقولها: "تكون للسلطة القضائية الولاية على جميع "المسائل ذات الطابع القضائي." و بالتالي فإن تلك الشمولية مانعة من استثناء التفتيش القضائي. ومن المعلوم أن الدستور المغربي أكد من خلال ديباجته على التزامه بما تقتضيه المواثيق الدولية من مبادئ وحقوق وتعهد بتشبته باحترامها؛ ومن ثم فإن مبادئ ميلانو تفرض على المملكة المغربية ولا يمكن لتشريعها مخالفتها.المرجعية الثانية تكمن في الخطاب الملكي بمناسبة الذكرى 56 لثورة الملك و الشعب فـي 20 غشت 2009 الذي أورد في مقدمة المجالات الستة التي اعتبرها صاحب الجلالة ذات الأسبقية، شمولية ولاية المجلس الأعلى للسلطة القضائية على جميع الجوانب المرتبطة بالحياة المهنيـة للقضـاة وذلك بقوله، "دعم ضمانة الاستقلال وذلك بإيلاء المجلس الأعلى للقضاء المكانة الجديرة بـه "كمؤسسة دستورية قائمة الذات و تخويله حصريا الصلاحيات اللازمة لتدبير المسار "المهني للقضاة..." ولا جدال في أن خطاب 20 غشت 2009 شكل محطة بارزة في مجال إصلاح منظومة العدالة إصلاحا شاملا وعميقا ووضع خطة لذلك جعل على رأسها مسألة استقلال القضاء، مؤكدا على تخويل المجلس الأعلى للقضاء حصريا الصلاحيات اللازمة لتدبير المسار المهني للقضاة. ولا جدال كذلك في أن العبارة المستعملة "حصريا" تقطع مع كل تأويل أو احتمال وبالتالي فإننا نؤكد هنا بأن المجلس الأعلى للسلطة القضائية هو المؤهل وحده والمختص بصفة منفردة وصاحب الاستئثار بالبت في ما يتصل بالحياة المهنية للقضاة بدون أي استثناء وبدون أي منازع.ولا جدال أيضا في أن تأديب القاضي لا يتأتى إلا عبر التحري في الأفعال المنسوبة إليه بواسطة مجموعة من الآليات توجد بين يد جهاز التفتيش. ومن تم وجب القول بأن هذا الجهاز لا يمكن أن يكون إلا تابعا للمجلس الأعلى للسلطة القضائية وتحت سلطته المنفردة وإلا لانعدم الأساس الذي من أجله أقيم مبدأ استقلال القضاء.المرجعية الثالثة تكمن في مقتضيات الفصل 113 من دستور2011 الذي ينص على ما يلي"يسهر المجلس الأعلى للسلطة القضائية على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة، سيما "في ما يخص استقلالهم و تعيينهم وترقيتهم وتقاعدهم و تأديبهم ." وهنا لابد من التسطير على عبارة "سيما" التي لا تفيد الحصر بل التمثيل فقط، بمعنـى أن ما ورد في خطاب 20 غشت 2009 من إسناد الاختصاص حصريا للمجلس الأعلى للسلطة القضائية في جميع المسائل التي ترتبط بالمسار المهني للقضاة يؤكده هنا في الفصـل 113 بفضل عبارة "لاسيما".وبناء على مقتضيات الفصل 113 لا يمكن النظر إلى جهاز التفتيش باعتباره آلية من آليات التأديب إلا بصفته جهازا تابعا للمجلس الأعلى للسلطة القضائية ومنفذا لتعليماتــه وسياسته في هذا المجال. بقلم: عبد اللطيف الحاتمي, (دكتور في الحقوق ومحـام بهيـأة الدار البيضـاء)

دراسة: تصورات حول ضرورة استقلال التفتيش عن السلطة التنفيذية (1/2)

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

غريتس: امنحوني أسبوعا وسترون

اعتصام معتقلي السلفية باستئنافية سلا

مقالات ذات صلة