البحث عن إصلاح عابر للإيديولوجيات

ثمة ملاحظة لا تخطئها العين اليوم على امتداد العالم العربي، هي صعود الأفكار والبرامج الإصلاحية مقابل أفول وتراجع التيارات والمذاهب الأيديولوجية التقليدية.. فالكلام كثير حول إصلاحات ضرورية وملحة تكاد تشكل بذاتها برامج ومشروعات وطنية مثل تدعيم الديمقراطية وإعلاء حقوق وحريات الانسان والمناداة بقيم الشفافية والمساءلة ومكافحة الفساد.. كل هذا يتم في الوقت ذاته الذي تتراجع فيه بشكل ملحوظ الإيديولوجيات التى ألهبت العقول وأثارت الوجدان السياسي فى العالم العربي لأكثر من نصف قرن من الزمان مثل التيار القومي والتيارات الماركسية والاشتراكية والتيار الليبرالي التقليدي، وربما التيار الإسلامي نفسه الذي يعيش الآن إرهاصات تجديد خياله السياسي على يد الوسطيين الجدد.فهل يعني ذلك أن هذه البرامج والأفكار الإصلاحية يمكن أن تقدم نفسها بديلاً عن هذه التيارات كصاحبة مشروع وطني جديد معلنة بذلك نهاية عصر الإيديولوجيا؟ أم أن سطوع نجم الإصلاحيين وانتشار الأفكار والبرامج الإصلاحية لا يعكس بالضرورة قوة هذه التيارات بقدر ما يكشف عن جمود وأفول التيارات الأيديولوجية التقليدية؟ وفي عبارة أخرى، هل يمكن لهذه الأفكار والبرامج أن تمثل بذاتها تياراً سياسياً جديداً وبداية لمشروع نهضوي يعبُر به العالم العربي مرحلة تحوّله السياسي والاجتماعي، أم أنه لا غنى عن هذه الأيديولوجيات والمراهنة على ما تقدّمه من طروحات وحلول قومية كانت أم اشتراكية أم ليبرالية تقليدية أم حتى سلفية؟هل هي نهاية عصر الإيديولوجيا؟ثمة تراجع ملحوظ للإيديولوجيات التقليدية التى جسدتها وناضلت من أجلها أحزاب وحركات وتجمعات مثقفين على مدى أكثر من سبعين عاماً، وهو تراجع يسهل رصده سواء داخل الأحزاب نفسها أم في الشارع العربي.. فأين الناس اليوم من سحر المادية الجدلية وأحلام العدالة الاجتماعية التي طالما بشرت بها التيارات الماركسية والاشتراكية؟ وهل كان تراجع الحلم بسبب تفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار المعسكر الشرقي أو بسبب ما اتسم به الحلم من طوباوية أو شطط؟ أم هل كانت طرقات العولمة العنيفة وما صاحبها من انفراد قوة واحدة بقيادة العالم هي التي عجّلت بسقوط الحلم، ومعه تأكد سقوط الأيديولوجيا؟ وأين أصبح الناس أيضاً من المشروع القومي وحلم الوحدة العربية؟ وماذا تبقى من تيارات الفكر القومي على اختلاف مسمَّياتها سوى وجع الحنين للزمن الناصري والبكاء على أطلال حزب البعث ؟ ووسط مشاعر الحنين والبكاء والخوف يكاد ينفرط العقل القومي وتنفطر معه قلوب القوميين إزاء ما يحدث فى سوريا، وما حدث في العراق، ومن قَبل في فلسطين، وما يراد له ان يحدث فى أماكن أخرى من بلاد العرب.. أما التيار الليبرالي التقليدي، فرغم ثراء نظرياته وما توافر له من حظوظ فى الانتشار بحكم أنه تيار العصر، فلم ينجز شيئاً ربما لأن الآخرين كانوا أكثر ذكاء، أو لأنه تعثَّر فى حبائل البيروقراطية الحزبية، واكتفى بمجد قديم تحقق في ظروف مختلفة وعلى يد آخرين، فخفت الصوت وفتر الحماس وتسلل الوهن. وكان حزب الوفد المصري نموذجاً لذلك.وحتى التيار الإسلامي الذي أخذ بألباب وعواطف الجماهير على خلفية من أزمة هوية حضارية تعصف بالشباب وحالة الفقر الاقتصادي والثقافي في المجتمع، فإن حركة الاستنفار العالمي بفعل أحداث 11 شتنبر سرعان ما خرجت تقطع الطريق على هذا المدّ الإسلامي، وتستعدي عليه وتجفف منابعه وتصوره كأيديولوجية تهدد سلام العالم.. ولم يكن هذا التيار بذكاء ولا براعغماتية حزب العدالة والتنمية في تركيا مثلاً، فتجاهَلَ الظروف والمتغيرات وانشغَلَ بالقضايا الخلافية والتفاصيل الفقهية، وحين أتاحت له الثورة الشعبية في مصر وتونس أن يتقدم الصفوف كانت الانطباعات المسبقة والاتهامات الجاهزة تلاحقه من قبل أن يبدأ !ولكن وبصرف النظر عن خصوصية تفسير تراجع كل تيار إيديولوجي على حدة، فإن التساؤل يظل قائماً حول عموم ظاهرة أفول عصر الإيديولوجيا. أجل.. لماذا فقدت الإيديولوجيات سحرها؟ وهل كان فوكوياما محقاً حين أعلن فى كتابه الشهير «نهاية التاريخ» عن الانتصار النهائي لقيم الرأسمالية الليبرالية على كل ما عداها من تيارات ونظريات الفكر الإيديولوجى الأخرى؟ تُرى، هل كان فوكوياما يقصد انتصار الرأسمالية كإيديولوجية أم كمجموعة من القيم الاقتصادية والسياسية والثقافية المتنوعة الأخرى، والتي تستلهم من حركة التقدم بأكثر مما ترتبط بإطار معرفي وإيديولوجي محدد؟تلك على أي حال أسئلة مطروحة ولا تزال فى المجتمعات المتقدمة، لكن الإجابة عليها قد لا تصلح بالضرورة لتفسير تراجع الإيديولوجيات في الحالة المصرية والعربية عموماً.. فالسياق الاجتماعي مختلف بيننا وبين الغرب، ودرجات التقدم متفاوتة. ثم، وهذا هو الأهم، أن لدى الغرب أيديولوجيات صاحبها منهج نقدي كان قد نضج واكتمل.. هذا المنهج النقدي هو الذي قاد الغرب في الربع الأخير من القرن العشرين لأن يرجح الحلول على الأصول، وينشغل بالبرامج لا المبادئ، ويقفز في ذكاء على المطلقات لكي يحسن التعامل مع المتغيرات.. ولهذا رأينا في دول شمال أوربا، كالنرويج والسويد وفنلندا والنمسا، مجتمعات رأسمالية لكنها تنبنى نظماً للعدالة الاجتماعية عجزت عن ابتكارها الدول الشيوعية والاشتراكية في الوقت الذي نجحت فيه في تحقيق الرفاهية وضمان الديمقراطية وحقوق الإنسان.هكذا بدا تراجع الإيديولوجيات في الغرب تعبيراً عن درجة متقدمة لمنهج نقدي يتجاوز أسر المفاهيم المطلقة والنظريات الجامدة إلى فضاء المبادرة والتجديد.. فماذا عنا نحن؟ لماذا لم تحافظ التيارات والأحزاب القومية والاشتراكية والليبرالية على زخمها القديم، وأصبحت تعاني الإحباط والتشتت والانقسام؟ ولماذا فقدت الأيديولوجية الوعود والأحلام التي طالما بشَّرت بها؟ تفسيران محتملان لهذه التساؤلات أولهما أن هذه الإيديولوجيات، برغم طابعها الإنساني، تأثرت بذهنيَّة عربية تخاصم المنهج وتنفر من المراجعة بقدر ما تؤثر الإطلاق والتعميم وتميل إلى التطابق وتستعذب جموح الرأي وتطرف الرؤية.. كل ذلك على خلفية من العناد العقلي الذى اقترن خطأ بمعاني البطولة والإقدام. وحين أدرك أنصار هذه الإيديولوجيات أهمية المراجعة النقدية، وفضيلة التواضع العقلي، والوعي بالمستويات الوسطى والمعقدة للحقيقة بعيداً عن حدودها المتطرفة كحد السكين الذي يجرح صاحبه، كان الوقت قد ضاع!! وكان العالم المتقدم الذي يسبقنا في الخمسينات بمائتي عام قد أصبح اليوم يسبقنا بنحو أربعمائة عام.. أما على الأرض فكانت فلسطين سلبت واكتمل استيطانها إلا قليلاً.. وكان العراق قد تم غزوه للسبب نفسه (إيديولوجية عنيدة وممارسات حمقاء) مع أنه كان يمكن للإيديولوجية أن تكون أكثر ذكاء، وللممارسات أن تصبح أكثر دهاء!!أما التفسير الثاني لتراجع هذه الإيديولوجيات أو بالأحرى إخفاقها، فكان تجاهلها لأهم قيمتين من قيم التقدم وهما الديمقراطية بما يتفرَّع عنها من لوازم ومفترضات واحترام حقوق وحريات الإنسان.. وحين وضعت معظم الأحزاب والتيارات السياسية العربية هاتين القيمتين على رأس أجنداتها ومطالبها، لم يكن ذلك في الغالب عن سابق عزم فكري وتصميم سياسي، بل كان (لدى البعض) من قبيل الانتهازية النبيلة لحركة المتغيرات الدولية، ولدى البعض الآخر استجابة لمناخ عالمي هادر، لا قِبَلَ لأحد بالوقوف أمامه! شيء أفضل من لا شيء بالتأكيد؛ لكن الاعتراف واجب بأن زمناً طويلاً ينتظرنا قبل أن تترسَّخ قيم الديمقراطية في الوعي والسلوك، ليس فقط لدى الجماهير بل لدى النخب أيضاً. وجزء مما يحدث في مصر وتونس حالياً كفيل بتأكيد ذلك !ويبقى السؤال الآن هو هل يكون بوسع تيار الإصلاح أن يتقدم في هذه المرحلة الفارقة في تاريخ الوطن ليصوغ مشروعاً ولو انتقالياً يواجه مجموعة التحدّيات المستقبلة؟ وهل يُقَدَّر لهذا المشروع الإصلاحي أن يستفيد من تجارب الإيديولوجيات التي تراجعت يوم نزعت إلى الجموح والإطلاق وصادرت حرية الرأي والرأي الآخر.. فلم ينجز الرأي الأول شيئاً، ولم نعرف ماذا كان الرأي الآخر. سليمان عبد المنعم, عن مؤسسة الفكر العربي

البحث عن إصلاح عابر للإيديولوجيات

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الأزمـة الأوربـيـة... جـهـود لـتـعـزيـز الـثـقـة بـالـيـورو

أزمة القطب العمومي وتحديد مجال القرارات

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات