حكايات ناجين من جحيم ليبيا

شباب ذاقوا طعم الموت على أيدي «ملوك» المليشيات المسلحة والمهربين والمتاجرين بالبشر في الطريق بين المغرب والجزائر العاصمة وصولا إلى ليبيا والارتماء في أحضان أمواج المتوسط صوب إيطاليا، حفرت آلاف القصص المؤلمة في أذهان شباب مغاربة. نجوا غير مرة من موت محقق، ووجدوا أنفسهم في ضيافة «ملوك» المليشيات المسلحة، وعصابات الاتجار في البشر والأعضاء، وأباطرة التهريب. ففي وقت كانوا يمنون النفس بالعبور إلى إيطاليا، تحولت الأشواق الأوربية إلى أشواك في الصحراء الليبية. كثيرون دفعوا الفدية مقابل أرواحهم، وآخرون تعرضوا للضرب والتعذيب والاستغلال والتهديد بالسلاح والاغتصاب، واحتجزوا في مراكز تعج بالحشرات والأمراض، وأقاموا لأشهر في شقق صغيرة، بأعداد «خرافية» تصل إلى 500 مهاجر سري، وعانقوا أمواج المتوسط في قوارب موت مهترئة وعددهم يفوق 140 مهاجرا، بينهم فتيات مغربيات ورضع وأطفال. اليوم يعودون إلى أحضان عائلاتهم، ويحملون معهم رواسب كوابيس مرعبة. في هذا الربورتاج، تقربكم «الصباح» من واقع حياة دام سبعة أشهر في المتاهة الليبية، على لسان العائدين، وتنقل لكم معاناة عائلات كانت يائسة من عودة أبنائها. إنجاز: عصام الناصيري وتصوير: عبد اللطيف مفيق (موفدا الصباح إلى بني ملال) تعد ضواحي بني ملال أكبر "مصدّر" للمهاجرين الشرعيين وغير الشرعيين، وأغلب الشباب المغاربة الذين ذاقوا طعم المرارة في الأراضي الليبية والجزائرية يتحدرون من المنطقة. كانت "الصباح" موجودة في بيوت العائلات المحترقة بجمر فقدان أبنائها، وانقطاع سبل التواصل بينهم، حتى أن جل الأمهات فقدن الأمل نهائيا في معانقة فلذات أكبادهن. الطريق إلى الجحيم كان يوسف (اسم مستعار) يعتقد أنه قطع الشوط الأول من مسلسل هجرته إلى بلد الأحلام، عندما أقلعت الطائرة من المغرب صوب مطار "الهواري بومدين الدولي" بالجزائر العاصمة، يقول "أنتم تعلمون أن الشباب مولوع بأوربا، سمعنا أن العديد هاجر مثلنا، ولم تكن لدينا فكرة عن الأوضاع في ليبيا"، لكنه سيكون ضحية في ما بعد للتعذيب والاستغلال، وسيكون قريبا غير ما مرة من موت محقق. يكشف يوسف أنه بعد التنسيق مع "الحراك" والهبوط في الجزائر العاصمة تأتي سيارات أجرة متفرقة، تقل المهاجرين من المطار وتسلمهم إلى سيارات أخرى تتكلف بنقلهم إلى منطقة "حاسي مسعود"، بوابة الصحراء الجزائرية في اتجاه الحدود الليبية. يتحدث يوسف عن رحلته قائلا، "توجهنا نحو الحدود البرية. دخلنا إلى الصحراء. قضينا فيها ليلة كاملة"، مضيفا "واحد كيعطيك لواحد"، وأوضح المتحدث ذاته أنه كان رفقة أحد عشر مهاجرا، في حين يؤكد أن هناك بعض المجموعات التي يزيد عددها عن الثلاثين، يركبون في سيارات "الجيب" وتلك المخصصة لنقل البضائع، موضحا أن هناك من يسقط في الصحراء جراء السرعة الفائقة التي تسير بها السيارات، وآخرون تعرضوا لكسور. ومن جهته قال محمد (اسم مستعار) وهو شاب عاش بدوره الكابوس الليبي، "ما شجعني على الهجرة إلى إيطاليا عبر ليبيا هم الأصدقاء الذين سلكوا نفس الطريق"، موضحا أنه تحدث مع "الحراك" الذي يقيم في ليبيا، والذي رتب لقاءه مع "سمسار" مغربي، قاد محمد إلى وكالة أسفار سلمته تذكرة الطائرة، التي أقلعت به نحو الجزائر. وكشف محمد في حديثه مع "الصباح"، أنه أقلع نحو الجزائر في السادس عشر يوليوز من العام الماضي، مضيفا "عندما وصلت إلى المطار اشتريت شريحة واتصلت "بالسمسار"، الذي أمرني بأن أركب سيارة أجرة إلى منطقة تدعى "المحاميد"، هناك التقيت ستة مهاجرين آخرين. انتظرنا حوالي ساعتين، فجاء شخص يقود سيارة "كولف" سافر بنا إلى حاسي مسعود لمدة 12 ساعة، وأعطيناه 150 أورو عن كل شخص". ملوك الصحراء عندما يصل المهاجرون إلى حاسي مسعود يتعين عليهم قطع أزيد من ألف كيلومتر في الصحراء في اتجاه الحدود، وهناك بالضبط تبدأ رحلة الموت، إذ تنتشر في هذه المنطقة الحدودية مافيات الاتجار في البشر والأعضاء وتهريب المخدرات، ويسود في تلك الفيافي قادة يطلقون على أنفسهم "ملوك الصحراء"، ويعد "العمو" و"الزعبول" أشهر زعماء المافيات هناك، حسب رواية العائدين، وما ينقله الإعلام الليبي. يصف محمد ملامح الرحلة نحو الحدود قائلا، "شارجونا فواحد طيوطا وحنا كثر من 30 واحد"، موضحا، "كيزيدو ليها النيترو وكيعمروها بليصانص كتولي تمشي بـ200 كيلومتر في الساعة"، مضيفا، "إن لم تجلب معك الماء والأكل سوف تموت من العطش، ويأمروننا أن نمسك جيدا بأجزاء السيارة التي تسير بقوة". يتابع المتحدث ذاته حديثه قائلا "كانت معنا سيارة أخرى تقل نحو 60 شخصا، حاصرتها مافيا الاتجار بالبشر التابعة لـ"العمو" واختطفت من كان على متنها". وينقل محمد رواية أصدقائه المختطفين الذين صادفهم مرة ثانية في مركز إيواء، أنهم اختطفوا تحت التهديد بالسلاح والضرب والتعذيب، واشترط "العمو" مقابل إطلاق سراحهم فدية تصل إلى 2000 أورو، موضحا أن "الحراك" تواصل مع العائلات التي دفعت الفدية. وأضاف محمد أنه بدوره كان ضحية للاختطاف من قبل المليشيات المسلحة بعد دخوله الأراضي الليبية، قائلا "بعدما نجونا من مليشيات "العمو" في الحدود، سقطنا ضحية مرة أخرى قرب إحدى البوابات وكنا مضطرين تحت الضرب والتنكيل لدفع 450 أورو من أجل السماح لنا بالمرور"، ويتابع محمد حديثه لـ "الصباح" قائلا "خسرت كثر من 900 أورو فالصحرا". أما بالنسبة إلي يوسف، فلم تكن رحلته من حاسي مسعود صوب ليبيا عبر الصحراء بدورها مفروشة بالورود، إذ اضطر بدوره لدفع مبلغ 400 أورو لفائدة شخص يدعى "عبد النور" من أجل السماح له بتجاوز إحدى البوابات التي تسيطر عليها العصابات المسلحة. ويحكي يوسف كيف أن بعض أصدقائه الذين قابلهم في ما بعد داخل مراكز الإيواء عاشوا قصصا مؤلمة مع عصابات الاتجار بالأعضاء، وعرضوا للبيع في أسواق نخاسة داعش، مؤكدا أن العائلات تحرر الرهائن بأثمان باهظة تصل في بعض الأحيان إلى 150 ألف درهم. يقول يوسف "أكد لي صديق من المدينة التي اتحدر منها، أنه اختطف من قبل عصابات الاتجار بالأعضاء، وأقسم أنه شاهد شبابا قطعوا أطرافا، وأن العصابات احتجزته في شقق مهجورة مخضبة بالدماء وتفوح منها الروائح الكريهة"، مردفا أن صديقه عرض للبيع لداعش التي دفعت مقابل تجنيده 500 أورو، غير أن عائلته دفعت مبلغ 700 أورو لتحريره. في أحضان الأسرة بعدما قضى يوسف أزيد من شهرين في مركز إيواء بـ "تاجوراء"، في ظروف غير إنسانية، وتحت التهديد بالسلاح والتعذيب، أتاه الفرج، عندما علم أن المغرب سيشرع في ترحيلهم، يقول "نقلنا من تاجوراء إلى المطار وحلقت الطائرة صوب المغرب". ربما بين العائدين من لم يستوعب عودته إلى حضن الأسرة، وأن مسلسل المأساة أسدل عنه الستار. كذلك العائلات، جزء كبير منها لم تستوعب أن أبناءها الذين كانوا يحترقون لسماع كلمة بصوتهم، أصبح بالإمكان تحسس أجسادهم والارتماء في أحضانهم، حتى أن كثيرا من العائدين الجدد سيرقدون في أحضان الأمهات، اللائي كن يتقلبن في فراشهن شوقا إلى فلذات أكبادهن. وقبل هبوط طائرة العائدين، الذين تحدثت إليهم مباشرة بعد وصولهم، كانت "الصباح" داخل منزل الأسر المنكوبة، والتي اجتمعت مع عبد الكريم بن عتيق، الوزير المنتدب لدى وزير الخارجية المكلف بالمغاربة المقيمين بالخارج وشؤون الهجرة، أزيد من خمس مرات، وفي كل مرة كان الوزير يطمئن العائلات ويعدها أن ترحيل أبنائها سيتم قريبا، غير أن جزءا كبيرا من الأسر فقد الأمل في لقاء ذويه مجددا، إذ انقطعت سبل التواصل بينهم منذ أن كانوا في ضيافة الحراك، وكانت تأتيهم أخبار، تفيد أن بعضهم توفوا في البحر أو اختطفتهم المليشيات. وفي بيت عز الدين، منسق تحركات عائلات العالقين، اجتمعت ثلاث عائلات، كانت تجهل مصير ثلاثة شباب متغيبين في ليبيا. تقول امرأة تدعى "تاعيمات" "آخر اتصال مع ابني مر عليه شهران، منذ ليلة الخرجة"، موضحة أنها متعطشة لمعرفة إن كان ابنها على قيد الحياة أم لا. أما عائشة التي كانت تجلس في ركن الغرفة، فقالت لـ"الصباح" "لم أعد قادرة على النوم، صورة ابني لم تعد تفارقني"، ومن جانبه قال إسماعيل، منسق عن العائلات ببني ملال، وابنه متغيب بدوره، " أنا قريب من التقاعد، وقريب يطلبوا ليا شهادة الحياة أو الوفاة د ولدي، شكون غادي يعطيها ليا". في ضيافة «الحراك» بعد رحلة محفوفة بالمخاطر يصبح المهاجرون الذين نجوا من "قطاع الطرق" في ضيافة "الحراك" المغربي الذي كانوا يتواصلون معه عبر الهاتف، يقول يوسف "مع كتدخل عند الحراك كيعطيك التلفون وكيقولك هضر مع داركم يصيفطو 1000 أورو راه غدا الخرجة للطاليان"، مضيفا أن العائلات تسلم المبلغ لسمسار في البيضاء تابع لشبكة مهربي البشر. موضحا أن المهرب الذي كانوا بحوزته لم يف بوعوده، بل اكتفى بإستخلاص المبالغ من العائلات، وأخذ يكدس المهاجرين في شقة صغيرة، في انتظار وصول باقي الأفراد، إذ منهم من قضى في تلك الشقة أزيد من ثلاثة أشهر، كما أن تعدادهم كان يفوق 300 شخص من جنسيات مختلفة، بينهم مصريون وتونسيون وجزائريون...، في ظروف غير إنسانية، عانوا فيها الجوع والعطش والاستغلال، إذ كانوا يستفيدون من وجبة واحدة في اليوم فقط، يقول يوسف "كيعطيونا 5 دقايق باش ناكلو مقارونية سخونة ونرجعو للدار باش ما يشوفنا حتى واحد، ولي تعطل كيضربوه". بعدما يقضى المهاجرون أزيد من شهرين في انتظار "الخرجة" المأمولة، يخبرهم المهرب أن ساعة الحسم دقت، وأنهم سيبحرون صوب إيطاليا في قوارب "الموت"، وأن فرص النجاة من أمواج المتوسط ضئيلة، حتى لا يصعد القارب "ضعاف" القلوب. يعود يوسف بالذاكرة إلى الوراء مستحضرا اللحظة التي صعد فيها "الزودياك"، قائلا "عطانا زودياك مثقوبة، وطلعنا فيها بـ 120 واحد"، موضحا أن الحراك لا يتحمل مسؤولية قيادة القارب، بل يكتفي بالتوغل مدة ساعة أو أقل رفقتهم في البحر، ويأتي قارب آخر لإعادته إلى الشاطئ. يتابع يوسف سرد قصته مع أمواج المتوسط قائلا "دخلنا وسط الأمواج، واتسع الثقب، كنا نحاول سده بستراتنا، وكانت معنا عائلات سورية تحمل أطفالا ورضعا وفتيات مغربيات"، مستدركا، أن ما زاد الطين بلة، هو "الشيفور" الإفريقي الذي لا يتحدث سوى الإنجليزية، وكانوا يواجهون صعوبة كبيرة في التواصل معه. لم تمر سوى أربع ساعات وسط البحر، حتى سقط القارب الذي كان يوسف على متنه في قبضة جهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية الذي انتشلهم من وسط الأمواج، وقادهم إلى مركز إيواء، عاشوا فيه لحظات لا تنسى. أما بالنسبة إلى محمد فقد قضى أزيد من 10 ساعات في عمق المتوسط، يقول "دخلنا إلى البحر في الحادية عشرة ليلا، وواجهتنا عاصفة بحرية، وبعدما هدأ البحر لم نعد نعرف أين نحن"، موضحا أنهم رأوا بارجة محملة بالغاز وكانوا يعتقدون أنهم وصلوا، يقول "مزقنا جوزات السفر، وأتلفنا كل الأمور التي تثبت هويتنا"، غير أن البارجة التي كانوا يتبعونها اتصلت بجهاز مكافحة الهجرة غير الشرعية، الذي أنقذهم من الموج وأودعهم في مراكز الإيواء. ويجمع يوسف ومحمد أن مراكز الإيواء كانت تعج بالحشرات، كما أنهم عانوا البرد والجوع، إذ كانوا يعيشون رفقة 2600 مهاجر سري من إفريقيا جنوب الصحراء، كما أنهم جردوا من ملابسهم، واستولى الجيش على أغراضهم، مؤكدين أنهما مستاءان من تماطل الحكومة في التدخل من أجل عودتهم، معتبرين أن دولا إفريقية فقيرة جدا، نقلت مهاجريها الذين كانوا يقيمون رفقتهما بالمركز بعد إلقاء القبض عليهم مباشرة. وكشف يوسف لـ"الصباح" أنه عندما تقع بعض المناوشات بين المغاربة والمصريين يكون تدخل الحراس عنيفا جدا، يقول "السلاح بلما دوي عليه، ديما كاين، إلى درتي الصداع كيلوحك فالكوفر د الطومبيل وكيدير بك الرالي حتى تقرب تموت".

حكايات ناجين من جحيم ليبيا

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

"لوغو" مونديال 2026 مثار سخرية

تسكت تجد شبيهتها

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات