الأحياء الجنوبية بآسفي… مقبرة العاطلين

قادها التهميش وندرة فرص العمل إلى جعلها بؤرة للإرهابيين وفضاء للتلوث يُنصح زوار الأحياء الجنوبية بآسفي ليلا بتعطيل صفة الشجاعة إلى حين الوصول إلى منازلهم سالمين، وفي حالة الاخلال بذلك يتحمل الزائر تبعات إصابته بسكاكين اللصوص، أو يسمع ما "طاب" من سب وشتم تجار المخدرات في الدروب. الوقت جاوز الأصيل قليلا، وضجيج الباعة المتجولين يصدح في أرجاء سماء مدخل أحياء الزاوية، حينها يقف الزائر على أول مفارقات الأحياء الجنوبية في عاصمة السردين، ففي الوقت الذي افتتح فيه سوق نموذجي من أجل احتواء الباعة المتجولين حرص الأخيرون على مقاطعة دكاكينه، ونصبوا خياما بلاستيكية بجواره لبيع الخضر والفواكه وباقي السلع... إنه مشهد يكشف خلل العلاقة بين مشاريع كبيرة طواها النسيان، وأحياء فقيرة تنتج الجريمة و»المعارضين».تتعدد طقوس أحياء الزاوية الفقيرة التي تشبه كثيرا الأحياء في الأفلام المصرية الشعبية، فهناك أحداث يومية متشابكة، وعلاقات اجتماعية غريبة، وديكور لا يحترم عادة تصاميم التهيئة، حيث الأزقة الضيقة والمتشعبة تتخللها حركة سير فريدة من نوعها من عربات الدواب والسيارات.. إنه حي «كاوكي»، كما يسمي المسفيويون أحياء الزاوية التي يعجز رجال الأمن عن سبر أغوارها، حتى أن الغرباء قلما ينتبهون إلى وجودها وزيارة دروبها والغوص في متاهة أزقته ومشاكلها.يحيط بأحياء الزاوية، جنوبا، البحر ومصانع السمك «المفلسة» وقضبان السكك الحديدية، وشرقا مصانع الفوسفاط، وهو موقع جعل الحي فضاء للسحب، إذ تتجه إليه مباشرة، يوميا، أدخنة مصانع عديدة، حتى أن آخر حالة للتلوث أدت إلى اختناق 61 شخصا تلقوا الإسعافات الأولية، ثلاثة منهم وضعوا في قسم الإنعاش.يروي السكان حادث التلوث بكثير من المرارة، إذ اضطرواإلى إغلاق النوافذ، والاستعانة بالكمامات والمناديل والملابس، لوضعها على الأنوف والأفواه قصد الحد من تأثير «ثاني أوكسيد الكبريت» الذي أشبع به هواء مدينة آسفي، وتهافت الرجال والنساء صحبة أطفالهم على سيارات الأجرة التي تسابقت مع سيارة الإسعاف التابعة لرجال الوقاية المدنية في نقل المصابين إلى المستشفى الإقليمي، فالمسؤولون حددوا أسباب تلوث المدينة، آنذاك، ف»ارتفاع درجة الحرارة، والتحرك البطيء للتيارات الهوائية التي تعمل على إعادة تفكيك مقذوفات الغازات المنبعثة من العوادم التي تمتد على ارتفاع يخضع للمعايير المعمول بها في هذاالمجال، وضعف حركة التيارات الهوائية، وكنل الغيوم التي حملت مقذوفات الغازات التي تتمركز فوق المدينة ومنعتها من التوجه نحو البحر»... إنه الوجه الآخر لأحياء «كاوكي» التي جعلتها الطبيعة وموقعها الجغرافي أول المستقبلين للسحب.الولوج إلى الأحياء الجنوبية بآسفي أشبه باقتحام قلعة محصنة، فالطريق تقود إلى أحياء متفرعة وأزقة ضيقة ومنازل عشوائية حرص أصحابها على تثبيت الأعلام الوطنية كوسيلة لتفادي هدمها، إذ نبتت مثل الفطر في كل الاتجاهات، ونجحت لوبيات البناء العشوائي فيما عجزت عنه وزارة السكنى، بعدما أصبح امتلاك منزل لا يكلف كثيرا.فيما مضى كانت الأحياء الجنوبية تابعة إلى نفوذ جماعة الزاوية، قبل وحدة المدينة. تم تصنيف الجماعة من بين الأغنى على الصعيد الوطني، إذ كان المكتب الشريف للفوسفاط يضخ في ميزانيتها مبالغ مالية تقدر بالملايين، إلا أن مشاريعها لم تعكس هذا الثراء، فسرعان ما توقفت أشغالها.يعدد السكان المشاريع المتوقفة التي تحولت إلى آثار، ومنها القاعة المغطاة «النخيلة»، وسوق القليعة، إذ لايخلو الحي من مرافق موقوفة التنفيذ، مثل المركب الرياضي النخيلة المجاور لحي المطار، الذي انطلقت أشغال بنائه سنة 1996 على مساحة تقدر ب2400 متر مربع بمبلغ مالي قدر حينها ب 5.124.364.92 درهما، أدي منه للمقاولات المشرفة مبلغ 5.110.305.64 درهم، ويتكون المركب المذكور من قاعة مغطاة، وعدد من المرافق الأخرى، ويضم مركزا للإيواء على مساحة تقدرب 1965 مترا مربعا بميزانية حددت حينها في مبلغ مالي قدره 2.183.131.24 درهما. ويتكون المركز من قاعة للتنشيط، ومرافق أخرى، منها على الخصوص 15 غرفة كاملة، ومقصف ومطعم ومطبخ ومقتصدية وقاعة للمطالعة والعرض... ثم فجأة استيقظ السكان أن المشروع مجرد حلم فقط.طال الإهمال، أيضا، المركز الثقافي الذي ابتدأت الأشغال به سنة 1996، وتسلمت المقاولة المشرفة مبلغ 4.233.917.05 دراهما من إجمالي مبلغ الصفقة، ويتكون المركب المذكور من مكتبة، وقاعتين للمطالعة، وخمسة أقسام، وقاعة للاجتماعات، وعشرات المرافق الأخرى، منها مرافق صحية، وقاعة متعددة الاختصاصات، وقاعات للرسم، وثلاثة أقسام للموسيقى، وقاعة لتعليم المسرح، وقاعة لتعليم الرقص الكلاسيكي، وقاعة لفن التصوير الفوتوغرافي، وبعد سنوات من التسويف والمماطلة المرتبطين بإنهاء أشغاله، فوجئ سكان الزاوية بتفويت المركب الثقافي إلى مؤسسة التكوين المهني والتي بادرت إلى تحويله إلى مركز خاص بتقنيات التواصل، في وقت ضاعت فيه أحلام الشباب. ومن أجل إيواء الباعة المتجولين الذين تعج بهم منطقة الزاوية، بادر المجلس الحضري لجماعة الزاوية، إلى إعطاء انطلاقة أشغال بناء سوقين بكل من حي القليعة وكاوكي، إذ ابتدأت الأشغال بسوق القليعة سنة 1997 بتكلفة مالية بلغت 1.582.419،50 درهما، وليبقى إلى حدود الساعة مغلقا رغم انتهاء أشغال بنائه بنسبة كبيرة جدا، في وقت توقفت فيه أشغال بناء سوق كاوكي، وأصبحت بنايته الآن عبارة عن أطلال وملجأ آمن للمتسكعين.قاد الإهمال والتهميش إلى كوارث في الأحياء الجنوبية، إذ ارتفعت نسبة الجريمة بشكل كبير فيها، وسجلت الدوائر الأمنية ارتفاع معدلات جرائم السرقة بالإكراه والخطف سواء بالإغارة على المنازل والمحلات التجارية أو عن طريق إعتراض المواطنين وسلبهم ما بحوزتهم بالقوة تحت التهديد بإستعمال السلاح الأبيض، كما اشتكت إدارة الفوسفاط من خسائر فادحة جراء السرقات التي تعرضت لها.وفي الجهة الأخرى تعددت الاحتجاجات التي تعرفها الأحياء الجنوبية من العاطلين الراغبين في التوظيف، والمنخرطين في الجمعيات والحركات الإحتجاجية، فمن أحيائها تنطلق مسيرات «20 فبراير»، ومن أزقتها خرج عادل العثماني الإرهابي الذي فجر مقهى أركانة بمراكش، واستقر كمال عماري (العضو في 20 فبراير)... فمن يتحمل مسؤولية «التسيب» بالأحياء الجنوبية؟ لا أحد يملك الجواب، فالأحياء تم تهميشها بشكل خطير، وغياب العمل أحد أسباب الانفلات الأمني، فيكفي أن أسر بأكملها كان مورد رزقها الوحيد العمل في مئات معامل السمك التي توقفت، فالتحقت بصفوف العاطلين الباحثين عن لقمة عيش حتى ولو كانت ملوثة. خالد العطاوي (موفد الصباح إلى آسفي)

الأحياء الجنوبية بآسفي… مقبرة العاطلين

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

ليلة رأس السنة... نايضة

"أزطا" تستنكر استمرار منع تسجيل المواليد بأسماء أمازيغية

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات