ليلة القدر… طقوس دينية خاصة بالأطفال

أسر تحرص على مصاحبة أبنائها إلى المسجد وأخرى تحتفي بالفتيات المقبلات على الصيام ينفض الجمع حول مائدة الإفطار مبكرا هذا المساء، على غير العادة. تسارع الأم إلى جمع الأطباق والكؤوس في آنية كبيرة وتضع بقايا الطعام في كيس خاص تشد أطرافه بإحكام، ثم تطلب من أبنائها الثلاثة المغادرة، على وجه السرعة، إلى الغرفة المجاورة لارتداء ملابسهم التقليدية ريثما تنتهي من غسل الأواني وإعادتها إلى مكانها. - «طلقو راسكم، المسجد غادي يعمر وماغادي نلقاو فين نصليو»، يصل صوت الأم من المطبخ حاسما.يضع الحاج محمد، كما تلقبه زوجته خديجة، نتفا أخرى من بخور سعودي ممتاز في مبخرة كهربائية وضعها على الجدار القصير المطل على الصالون، اقترب أكثر لاستنشاق رائحة زكية عمت أرجاء البيت، قبل أن يململ رأسه ويحرك شفتيه وحاجبيه علامة رضا على نصيحة زميله في العمل الذي أوصاه بتاجر معروف بحي الحبوس بالدار البيضاء متخصص في جلب أرقى أنواع البخور من دول خليجية بعينها.يخرج عمر وعبد الله وحسن، مهرولين، من غرفة المجاورة في اتجاه الحاج، وقد ارتدى الأول والثاني جلبابين أبيضين وبلغتين في اللون نفسه، بينما ارتدى شقيقهما الأكبر عبد الله جابادورا حريريا مائلا إلى الأصفر ولف رأسه برزة بيضاء جعلته يبدو أكبر من سنه، ما أثار ابتسامة صغيرة من والدته التي عادت للتو من المطبخ. وفي طريقها إلى غرفة النوم مدت يدها نصف المبللتين من جلباب ابنها الصغير (عمر) لتعدل انكماش الأكتاف ووضع «القب»، قبل أن تطلب منه إدخال رجليه جيدا إلى «البلغة» حتى لا تعرقله أثناء نزوله درج العمارة.تسرع خديجة في غرفة النوم، وترتدي جلبابا نصف تقليدي بلون بني ومنديلا باللون نفسه، ثم تضع على عينيها خطوطا خفيفة من الكحل وتحمل سجادتها، ثم تطلب من «الحاج» التأكد من سحب الموصل الكهربائي من جهاز المبخرة وإغلاق باب الشقة جيدا قبل الخروج إلى المسجد.في السيارة، كان الصوت الشجي للمقرئ الشيخ عبد الصمد عبد الباسط، يتقاطع مع شغب عمر وعبد الله وحسن في المقاعد الخلفية وتباهيهم بملابسهم الجديدة، بينما فضل الحاج وخديجة التزام الصمت وقراءة بعض الأوراد والأدعية القصيرة إلى حين الوصول إلى المسجد الكبير. ليست المرة الأولى التي تحيي فيها الأسرة الصغيرة ليلة القدر بمدينة الدار البيضاء التي وصلت إليها قبل خمس سنوات، في إطار حركة انتقالية رُقي فيها الأب إلى منصب مدير محلي، لكن في مثل هذه الليلة من كل رمضان، تحرص الأم على الاحتفاء بها بشكل مختلف وتعد لها ما استطاعت من عدة أسبوعا كاملا، من منطلق أن المناسبة شرط، وما بالك إذا كانت المناسبة ليلة مباركة وكبيرة عند الله تنزل فيها الملائكة وتسلسل فيها الشياطين وتفتح فيها أبواب السماوات والجنة والرحمة والغفران.في هذه الليلة، تمنت خديجة أن تكون رزقت بأنثى تزين عقد أشقائها الثلاثة. حلم طالما راودها كما زوجها الحاج عبد الله، وكثيرا ما تبادلا نظرات باردة كلما صادفا بنات الجيران يتنططن على الحبل في الباحة الخلفية للإقامة بتنوراتهن القصيرة وبراءة بلا حدود.في ليلة «سبعة وعشرين» من رمضان، يتخذ هذا الإحساس شكل حزن دفين يطلع صهدا وتنهدات من صدر خديجة، وهي ترى بنات جاراتها المقبلات على الصيام لأول مرة، يرفلن في لباسهن التقليدي المميز، ويرفعن أكف الحناء إلى السماء، وقد تزين بحلي فضية وذهبية أكبر من سنهن، ووضعن في عيونهن خيوطا رقيقة من الكحل وبعض الماكياج الخفيف، ونظمت في حضرتهن مراسيم عائلية صغيرة احتفاء بصيامهن الأول. بعض الأسر يحرصن على هذه المناسبة ويحطنها بطقوس خاصة، وتكاد تتحول الفتاة الصغيرة المقبلة على الصيام إلى عروس مدللة تستجاب طلباتها وترتدي أغلى الملابس والحلي، ويقام من أجلها برنامج تنشيطي خاص، طيلة النهار، لطرد إحساس الجوع والعطش عنها.وقبل موعد الإفطار بساعة أو ساعة ونصف، ترتدي الفتاة لباسا مميزا عبارة عن قفطان حريري تعقد أكتافه بحلية خاصة (خلالة) ويربط جبينها بخيط رقيق به بعض الأحجار الكريمة، وتكحل عينيها ويربط شعرها إلى الخلف بمنديل يسمى «القضيب» وتجلس في مكان تسنده مخدات صغيرة يتوسط مائدة الإفطار محاطة بزميلاتها وصديقاتها وأفراد عائلتها. وعند موعد الإفطار، تحرص الأم، أو الجدة، على قطع صيام ابنتهما بقطرات عسل طبيعي توضع في فمها بواسطة خاتم ذهب، تضعه الفتاة تحت لسانها، ثم تفرغ عليه كوبا من الحليب، قبل أن تقوم بسحب الخاتم. بعد ذلك يقدم لها ما طاب ولذ من المأكولات والأطباق التي أعدت خصيصا لها في هذه المناسبة التي ترتفع فيها الفتاة إلى مقام أميرة صغيرة تزف، في طقس خاص، إلى المسجد لأداء صلاة العشاء.المسجد ممتلئ عن آخره، ساعة ونصف قبل موعد أذان صلاة العشاء، كما الباحة الخارجية الفسيحة وجنبات العمارات القريبة التي افترشت أرضيتها بعدد كبير من السجادات. الرجل ذو القامة القصيرة واللحية البيضاء المشذبة يطلب، برفق، من المصلين ملء الفراغات الصغيرة بين الصفوف لفسح المكان لمصلين آخرين «تزاحموا تراحموا يغفر لي ولكم الله»، يرددها مرارا، قبل أن يطلب من الطفل التائه الالتحاق بوالده، أو قريبه. رائحة بخور زكي تعم الأرجاء يطوف به شاب بلباس أبيض بين صفوف المصلين، بعضهم انهمك في قراءة سور من القرآن في انتظار الأذان، بينما فضل آخرون تزجية الوقت في وشوشات في مواضيع طارئة تتحول إلى ضجيج في بعض الأحيان، يتطوع أحد المصلين بالتصدي لها بإصدار صوت من فمه «شووووووت...الله يخليكم باراكا من الهضرة حنا في الجامع، ماشي في السوق». يعم الصمت برهة، ثم تعم الوشوشات مرة أخرى.بجهد يجد الحاج وأبناؤه الثلاثة مكانا ضيقا غير بعيد عن مدخل العمارة، يفترش سجادتين وحصيرا بلاستيكيا ويضع بجانبها قارورة ماء مثلج. وبينما طلب من ابنه الصغير (عمر) البقاء بجانبه، اشترك عبد الله وحسن في سجادة واحدة واقتعدا فوقها في صمت متأملين حشودا من المصلين والمصليات من مختلف الأعمار مازالوا يتقاطرون على المسجد بملابسهم التقليدية، أما خديجة، فقد فضلت أداء صلاة العشاء وصلاة التراويح والقيام قرب الدرج المؤدي إلى الطابق الأول المخصص للنساء.خرششات في مكبر الصوت «الله أكبر..الله أكبر»، صوت من داخل المسجد، أغلب الظن للإمام، يرحب بالمصلين ويبارك لهم هذه الليلة المباركة ويتلو عليهم برنامجا دينيا حافلا يبدأ بصلاة العشاء، ثم أداء جزء من صلاة التراويح، يليه متابعة المسابقة النهائية في تجويد القرآن المنظمة منذ النصف الثاني من رمضان لفائدة أطفال الحي، ثم استكمال صلاة القيام التي سيتناوب على إمامتها ثلة من الشباب المقرئين، أحدهم من أبناء الحي استكمل دروسه الجامعية في فرنسا، استراحة العشاء، تليها جولة أخرى من صلاة القيام تنتهي قبيل أذان صلاة صبح اليوم الموالـــــي. يوسف الساكت

ليلة القدر… طقوس دينية خاصة بالأطفال

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

3 أسـئـلـة: السكاش*: ليلة مغربية خالصة بنسائم خاصة

"التوكال" السلاح الفتاك للجبناء

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات