أسرى حرب الصحراء … عمر بوسنة: تركونا حفاة ثلاثة أشهر

عذبه خمسة جلادين أمام أنظار 86 أسيرا لمدة فاقت ست ساعات متتالية جلهم مروا من مركز الروبيني، الكائن فوق التراب الجزائري، ذاق أغلبهم مرارة التعذيب بمختلف صنوفه. إنهم جنود وعسكريون مغاربة، سقطوا في قبضة الأسر من قبل شرذمة من انفصاليي جبهة بوليساريو. هناك من قضى أزيد من ربع قرن في الأسر، سنوات كلها معاناة، لكن رغم القواسم المشتركة بين الجنود الأسرى المغاربة، إلا أن لكل حالة خصوصيتها. مازال هؤلاء يحملون ذكريات فلم تنفع نعمة النسيان في إسقاطها من ذاكرتهم، وبقيت المشاهد والصور واللقطات عالقة في الأذهان. "الصباح" التقت بمجموعة من الأسرى، جالستهم ساعات طوالا، وتقاسمت معهم صفحة أليمة من تاريخهم، إلا أن العودة لم تضع نقطة نهاية لهذه المآسي، بل فتحت صفحة أخرى، إنها معركة مستمرة بحثا عن الكرامة، وعن سبل العيش الكريم. التحق عمر بوسنة بالقوات المساعدة عام 1977، كان متخصصا في تشغيل جهاز اللاسلكي، ويشتغل ضمن مشاة التدخل السريع، في الوحدة الثالثة للمسيرة الخضراء، إلى أن اعتقل من قبل انفصاليي بوليساريو قبل نهاية الثمانينات. في يوم 11 أكتوبر عام 1989، اعتقل بوسنة في قطاع حوزة، القريب من وادي الساقية، في الأقاليم الصحراوية. في حدود الساعة الرابعة من صباح يوم 11 أكتوبر 1989، يتذكر بوسنة الهجوم الشرس الذي شنته عناصر انفصالية على قطاع الحوزة، لقد استفاق الجنود المغاربة على وقع هذا الهجوم، فوجدوا العدو وقد باغتهم في موقعهم، وبأسلحته المتطورة. انطلقت المواجهة، كان بوسنة من ضمن حاملي السلاح، شأنه شأن باقي العسكريين المرابطين في المنطقة. جاؤوا مدججين بأسلحة ثقيلة، «علما أننا كنا نتوفر على سلاح أرضي، في حين أنهم كانوا يجدون حرية كبيرة للتنقل باستعمال أسلحة متطورة، كانوا يحصلون عليها كهبات من طرف ليبيا، المشهورة بحيازتها للأسلحة الثقيلة». كان بوسنة، ضمن فيلق يتكون من 130 شخصا، ولسوء الحظ، تزامن الهجوم مع وجود عدد أقل ضمن هذه المجموعة، فكانت المواجهة غير متكافئة. يحكي بوسنة أنه وقت الهجوم، تم اعتقال عدد كبير، في حين أن عدد الناجين كان قليلا، أما الذين سقطوا برصاص بوليساريو فكثيرون. كان نصيب عمر بوسنة الأسر، نقل إلى منطقة الحمادة، ولم يكن يدري أين هو، لكنه تأكد له في ما بعد أنه يوجد فوق التراب الجزائري، وأن ضباطا من هذا البلد تكلفوا باستنطاق الأسرى المغاربة، قبل نقل الجميع إلى مخيمات بتندوف. يتذكر عمر بوسنة القبطان الجزائري عبد الرحمن، الذي كان يكرر خلال الاستنطاق سؤال سر توجيه السلاح نحو الإخوة، يقصد انفصاليي بوليساريو، عوض توجهيها "إلى القصر في الرباط"، في إشارة منه إلى ضرورة الانقلاب على النظام. سؤال كان الجنود المغاربة يتلقونه بكثير من الغضب، ويجيبون بأجوبة لاذعة، تنزل كالصفعة على الضابط الجزائري، "الذي لم يكن يدري خطورة الكلام الذي يوجهه إلينا، لكن بتوفيق من الله، كنا نجد العبارات المناسبة التي تجعل ذلك المسؤول يذهل بما نرد عليه". كما كان حرص الضباط الجزائريين شديدا لمعرفة نوعية الأسلحة التي كانت بحوزة عناصر الجيش المغربي، وأماكن زرع الألغام، وغيرها من التفاصيل الدقيقة، التي كانوا لا يجدون لها أي جواب من قبل الأسرى المغاربة. قال بوسنة "كنا نرفض أن نمد هؤلاء بأدنى معلومة، فنحن أوفياء للوطن وروحنا معلقة ببلدنا، ولا يمكن أن نكشف التفاصيل التي هي في ملك الإرادة"، كان جميع الأسرى يتهربون من تقديم إجابات، رغم أن الثمن يكون هو التعذيب الجسدي والنفسي الذي لا يمكن أن يتحمله أي مخلوق، ويفتخر بوسنة أنه إلى جانب أصدقائه الجنود الأسرى، لم يتفوهوا بأي معلومة، "وهذا أمر نفتخر به". استمر التحقيق في مخيمات تندوف لمدة يومين، مكث الأسرى في العراء، لكن سرعان ما تقرر نقلهم إلى منطقة الروبيني، هناك استقبلوا من قبل الانفصاليين، وانطلقت الاستنطاقات. جرد الجميع من لباسهم العسكري، وأجبروا على ارتداء آخر مدنيا، عبارة عن سروال وقميص، دون مراعاة المقاسات. لا مجال للاختيار، كما أجبر الأسرى على المشي حفاة لمدة طويلة، إنه نوع من التعذيب الذي يتلذذ الانفصاليون في ممارسته عليهم، ففي تقديرهم، أن "الأسرى لن يتمكنوا من الهروب أو الفرار، إذا ما بقوا حفاة، لأن الأرض كلها حجر ومليئة بالمسامير والقطع الحديدية، إضافة إلى الرمل الحار من شدة حرارة الطقس"، يوضح بوسنة، الذي بقي هو ورفاقه 869 حفاة لمدة زادت عن ثلاثة أشهر، أما ملابسهم فأصبحت كأنها مصنوعة من البلاستيك بسبب عدم تغييرها لفترة طويلة جدا. في أحد الأيام، اختير بوسنة بالصدفة من قبل الانفصاليين من أجل أن يردد كلمة، تعفيه من العذاب. أمر بوسنة بأن يسيء إلى الملك أمام الملأ، إلا أنه رفض. وأمام أنظار 86 أسيرا، مجردين من أقمصتهم، ويضربون بواسطة سلك كهربائي. "إنه موقف رهيب أن يطلب من جندي أن يتفوه بعبارة ضد ملكه، مقابل خلاصه من عذاب شديد يتعرض له يوميا، بل في كل آن وحين"، يقول بوسنة الذي في رأيه أن من استسلم لهذا، فكأنما خان ملكه وشعبه، ووضع وصمة عار فوق جبينه. صمد بوسنة لكل الضغوطات، وبعد أن رفض التلفظ بما أمر به، ذاق تعذيبا يقول إنه لن ينساه مهما عاش. وبمجرد إعلان رفضه وإصراره على هذا الرفض، شارك خمسة من الثوار الصحراويين في تعذيبه من الساعة الحادية عشرة صباحا إلى غاية الخامسة مساء، وبدون توقف. انهالوا عليه بالضرب في كل أنحاء جسده الذي مازال يشهد على التعذيب الذي تعرض له ذلك اليوم الأسود، تحت أنظار 86 أسيرا، من بينهم معطوبون وشيوخ. ومن شدة ما ذاقه بوسنة من تعذيب، حاول أن يجيب على سؤال حيره طيلة فترة تعذيبه، مفاده أين تلقى هؤلاء الانفصاليين "تقنيات" تعذيب المغاربة، وكيف استطاعوا أن يتفننوا في أنواع هذا التعذيب؟ إنهم مجرمون، يقول بوسنة، الذي دخل في غيبوبة، وأصبح كأنه جثة هامدة، بل إن خبر وفاته شاع بين الأسرى، غير أنه وقعت المفاجأة. بدأت بعض أعضاء بوسنة تتحرك، وشعر كأن شخصا يرشه بالماء، بكى جميع الجنود من هذا المنظر الأليم، ونسوا آلامهم. عندما فتح بوسنة عينيه، وجد نفسه محاطا بأربعة أصدقاء، هم العربي المتحدر من الدار البيضاء والمهدي من القنيطرة، وعبد الوهاب من هرمومو، وعلال من بني ملال. أخذ الأصدقاء الأربعة يبكون حالة بوسنة، ذاع خبر عدم وفاته، واستبشر الجميع خيرا، إنه يوم لا ينسى. على وجه السرعة، أخبرت الإدارة بأن بوسنة مازال على قيد الحياة، فصدر أمر بتوقيف التعذيب، فحمله أصدقاؤه، وتكلفوا بالعناية به. نظفوا وجهه من الدم، وبدأت ملامحه تظهر، وأدخل في حفرة، كانت بمثابة مستقر للأسرى، لأن الانفصاليين يسعون إلى ضبط مراقبتهم، من خلال مكوثهم في الحفر. يقول بوسنة لا يمكن أن يتصور المرء كيف عاش الأسير في ضيافة المرتزقة. بعد ذلك اليوم الأسود، بقي بوسنة بدون مأكل ولا مشرب، وفي اليوم الموالي، أمر ليخرج رفقة باقي الأسرى للقيام بالأعمال الشاقة، رغم حالته الصحية المتدهورة. كان الجميع يلزم بالقيام بأعمال شاقة، سواء تعلق الأمر بتحويل الأحجار الثقيلة، أو حفر الآبار، أو بناء الجدران وغيرها من الأعمال التي كان الغرض منها ليس تقديم خدمة للانفصاليين، ومساعدتهم على تشييد البنيات التحتية، بقدر ما كان ممارسة نوع من التعذيب. طيلة مشوار العمل، كان الأسرى يتعرضون للضرب بأسلاك كهربائية، كان الصبر هو السلاح، أما خيار الفرار أو الهروب، فلا مجال للتفكير فيه. بقي بوسنة على هذه الحال إلى أن حل الصليب الأحمر الدولي بالمخيمات عام 1992، منذ تلك الفترة، تقلصت أشكال التعذيب، وتزايدت كثرة زيارات الصحافة المحلية والدولية. مقابل ذلك، كان الانفصاليون يستفيدون من بعض لوازم النظافة، "إذ كيف يعقل أن تستعمل قطعة صابون واحدة من قبل أربعة أو خمسة أسرى، أو أن نتناوب على شفرة حلاقة، لكن شعرنا بالفرج بعد الزيارة التي قامت بها إلى المخيمات صحافيتان فرنسيتان تابعتان إلى دانيال ميتران، زوجة الرئيس الفرنسي". تعلق الأمر بالصحافية، ذات الأصول العربية، عفيفة كرموس، في حين نسي بوسنة اسم الصحافية الثانية، المهم أنهما كانتا تنقلان صور الأسرى المغاربة إلى المسؤولين الفرنسيين، ورفعتا تقريرا مفصلا عن حياتهم، خصوصا أن الانفصاليين، تركوا الحرية للصحافيتين للتجول بين الأسرى، هؤلاء، يقول بوسنة، قاموا بدورهم، وأخبروهما بمعاناتهم، بل إنهم حملوهما مسؤولية إيصال رسالة إلى دانيال ميتران التي كانت في تلك اللحظة تتعاطف مع الانفصاليين. كانت الصور وأشرطة الفيديو كفيلة بنقل الصورة الحقيقية للأسرى المغاربة، وواقع عيشهم في مخيمات العار. ومنذ تلك الزيارة، انقلبت الموازين، وخرج الأسرى من المأزق الذي وجدوا فيه كرها. كما خفت المعاناة، لأن الانفصاليين وجدوا حرجا كبيرا في الاستمرار في تعذيب الأسرى، انتظر بوسنة دوره لينعم بالحرية، فتم ذلك يوم 18 غشت 2005، أي بعد أن قضى 17 سنة وبضعة أشهر. عاد عمر بوسنة ليعانق الحرية، ووجد ابنته التي كان عمرها ثلاثة أشهر، وابنه ذا الربيع الأول، شابين، لم يتعرفا عليه وقت وصوله إلى مطار أكادير، يقول "الحمد لله أنني وجدت أبني كبرا وتربيا تربية حسنة، والفضل يرجع إلى زوجتي التي أفتخر بها". نادية البوكيلي

أسرى حرب الصحراء … عمر بوسنة: تركونا حفاة ثلاثة أشهر

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

إطلالة على ذاكرة مكناس ... قصر المحنشة مقر إقامة العائلة الملكية

الفتنة في الإسلام ... الحرب بين جيش علي وجيش الجمل

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات