“المذكورية”… بؤرة صفيحية أخمدت في مهدها

عملية الهدم تشمل 490 براكة تناسلت في ظرف ثلاثة أشهر الطريق المؤدية إلى دوار أولاد سيدي عبد النبي، الشلالات، قيادة زناتة سيدي البرنوصي كلها حفر، وضيقة. عرضها لا يصل بالكاد إلى مترين، ومتربة غبارها يخترق الخياشيم، وفي جزء كبير منها يحفك قصب يتجاوز علوه مترين... موقع الدوار الواقع في وسط حقول زراعية خصبة وجرداء يجعله بعيدا عن أعين كل الذين يقطعون الطريق السيار الرابط بين البيضاء والرباط جيئة وذهابا. وبما أنه بعيد عن الأنظار فإن فرصة اتخاذه مرتعا وبؤرة لبناء براريك صفيحية تكون سانحة.بؤرة صفيحية من رحم الجشعفي ظرف ثلاثة أشهر تشكلت بهذا الفضاء الشاسع والقصي "بقعة" صفيحية تحتضن 372 براكة. الحكاية بدأت بسيطة ثم ما لبثت أن تفشت كألسنة لهب تشب في كومة قش. واحد من ملاك الأراضي بالدوار، ومنتخب سابقا عن الدائرة الانتخابية نفسها، يقتطع بقعة من أراضيه، وأراضي الورثة، ويشرع في توزيعها إلى بقع أرضية، بمساحات تمتد من خمسة أمتار مربعة إلى ثلاثين مترا، ويبيعها. وخلال عملية البيع، أو بعيدها مباشرة، تبدأ عملية التكاثر الانقسامي. "منعشون عقاريون" يحوزون بقعا قد تصل مساحتها إلى 100 أو 200 متر مربع، يقومون بدورهم بتجزيء هذه البقع إلى أجزاء أصغر، في الغالب تصل مساحة أكبرها إلى 30 مترا مربعا، ويفتحون سوقا لـ "المضاربات العقارية". فإما يبيعونك الأرض عارية، إلا من ترابها الأسود، أو يشيدون بها لك براكة من "اسمنت وآجر مغشوشين، وصفائح زنك يصطلي تحتها قاطنو البراكة بقيظ هذا الحر"، يقول أحد الذين أشرفوا على عملية الهدم، وهو يثبت قبعته اتقاء لأشعة شمس لاسعة.ومن بين يدي المشتري الأول، أو المشترين الأولين تناسلت مئات "البراكات". براكة عبارة عن جدران من الآجر الرمادي والإسمنت، والرمل. جدران مازالت على كثير منها أثار البلل، وكأنها وُضعت حديثا. الجدران العارية من أي "مرطوب" (الطبقة الإسمنتية التي تستعمل لطلاء الجدران)، تعتليها صفائح زنك يخطف لمعانها الأبصار. في وسط هذه الفوضى العمرانية، نبتت براريك كأنها الفطر في أرض ترابها تتطايره أدنى هبة ريح، ولما نبتت البراريك كان لابد من حل حتى لا يتفاقم الوضع، وتُولَد من رحم اللامبالاة والاستهتار والجشع بؤرة صفيحية على مرمى حجر من متروبول يصارع صباح مساء للقضاء على ظاهرة السكن العشوائي. قطع الدومينو تسقط تباعاالحل جلبته أربع جرافات على متنها، جرافات تحفها، من أمامها ومن خلفها عناصر من القوات المساعدة ورجال الدرك بالعشرات، مدججين بالهروات ومتحصنين بالخودات والصدريات الواقية وواقيات الركب وأحذية متينة لا تعنيها أتربة دوار أولاد سيدي عبد النبي المتطايرة لأدنى حركة أو هبة ريح. بمجرد وصولها صباح الخميس الماضي إلى قلب هذه الفوضى شرعت الجرافات في هدم ما تناسل من البراريك. ما هي إلا دقائق، لإشعار قاطني البراكة بضرورة لم أمتعتهم وأغراضهم، حتى يتهاوى البنيان غير المرصوص. الجدران هشة لدرجة أن سقوط أحدها يهد ما بجانبه وما يليه، كأنها قطع الدومينو تسقط تباعا في حركة مرسومة."يوم الخميس لوحده عرف هدم 82 براكة"، يقول مصدر حسن الإطلاع من أبناء المنطقة. عملية الهدم يوم الخميس باشرتها، في الساعة العاشرة صباحا، فرقة عدد عناصرها محدود، لكنها لم تكد تباشر مهمتها حتى بدأت الحجارة تتساقط فوق رؤوس عناصرها. "نخصصني ولد الكـ..."، يقول أحد عناصر القوات المساعدة، متحدثا إلى "الصباح"، وهو يتحسس الجانب الأيمن من ظهره، "لولا لطف الأقدار لاخترقت كِليتي"، يضيف بتألم باد. عملية الهدم، كما روى ذلك لـ "الصباح" شهود عيان، انقلبت إلى مواجهات عنيفة بين عناصر القوات المساعدة ورجال الدرك من جهة، وأصحاب البراريك من جهة ثانية، أصيب خلالها أربعة عناصر من القوات المساعدة نقلوا إلى مستشفى مولاي عبد الله بالمحمدية لتلقي الإسعافات. قاطنو البراريك تسلحوا بالعصي والهراوات، وتتحدث مصادر عن سلاح أبيض عبارة عن سيوف، والحجارة، التي يبدو أن إحداها كادت تنال من كِلية "المخزني" المسكين.في اليوم الموالي (الجمعة الماضي)، حلت تعزيزات جديدة من رجال القوات المساعدة ورجال الدرك، بلغ عديدها 200 عنصر من القوات المساعدة و160 من رجال الدرك، فضلا عن 10 من رجال الوقاية المدنية، باشروا عملهم هذه المرة في التاسعة صباحا، دون مناوشات أو مواجهات هذه المرة مع سكان الكاريان الموؤود. حوالي الواحدة والنصف ظهرا كانت الجرافات، تحميها القوات المساعدة والدرك، قد تمكنت من هدم "قرابة 372 براكة. وسنواصل الهدم حتى نستأصل كل البراكات التي تناسلت بدوار المذكورية خلال الأشهر الثلاثة الماضية"، يؤكد مصدر مطلع على سير العملية، طالبا عدم الكشف عن هويته ولا رتبته، في حديث جانبي مع "الصباح".سنعود... في القريب العاجل"عملية الهدم ستتواصل في القريب العاجل. مباشرة بعد توصلنا بالتعليمات من رؤسائنا"، يقول المصدر نفسه بلغة تحمل الكثير من الوعيد. الجزء الثاني من عملية الهدم سيشمل هذه المرة دوارا صفيحا آخر لا يبعد كثيرا عن دوار "المذكورية"، الدور القادم سيكون على دوار "الشعيبية". المصدر نفسه ومصادر أخرى يؤكدون أن دوار "الشعيبية" بدوره تناسلت به عشرات البراريك في غضون الأشهر الثلاثة الماضية، إذ يصل عددها إلى 118 براكة، وفق تأكيدات مصادر حسنة الإطلاع...لكن كلها ستصبح نسيا منسيا..وقريبا جدا. هذا الفيلم الدرامي والمؤثر كان له أبطال وضحايا. أبطال الأدوار "الخيرة" أدوا مهمتهم وانسحبوا مساء ليلة الجمعة حوالي الثامنة ليلا، والأشرار، صاحب الأرض والذين أعادوا بيعها، في شكل بقع، بالتجزيء، حُررت في حقهم مذكرات بحث وطنية من طرف سرية الدرك الملكي بالمحمدية لتقديمهم أمام العدالة بجريرة "التجزيء غير القانوني". عناصر هذه السرية حجزوا كذلك وثائق ست شاحنات كانت تُستعمل في نقل مواد البناء التي استُخدمت في بناء هذه البؤرة الصفيحية. والضحايا ما هم إلا الأسر التي عاش أغلبها ليلة الخميس والجمعة في العراء، يفترشون ركام الآجر المهدم ويلتحفون سماء، حرارتها في النهار لافحة وبردها في الليل قارس. "كون غير علمو الناس ملي يلاه تبنات البراكة الأولى أو الثانية"، تقول السعدية قدوري وهي تقتعد وسادة مغبرة وأمامها ما تبقى من أوان بلاستيكية يعلوها الغبار والأوساخ، "علاش خلاو الناس حتى شراو وبناو وخسرو فلوسهم عاد بان ليهم الترياب؟"، تتساءل السعدية باستنكار. محمد ارحمني

“المذكورية”… بؤرة صفيحية أخمدت في مهدها

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

بنهمو: ليس للأصالة والمعاصرة ولاة وعمال

بانوراما الصيف: معاني شيوخ الكلام (الحلقة الثانية عشرة)

مقالات ذات صلة