دراسة: موقع مدونة القيم القضائية في مشروع الدستور (الحلقة الثالثة)

القاضي المبتدئ يبدأ مساره المهني بأجر شهري لا يكفي حتى الاحتياجات الأولية للمواطن البسيط إذا كان تاريخ المغرب أفرد للقضاء مكانة هامة ومحورية في ترسيخ وحدة الدولة والحفاظ على مقوماتها، فإن مستقبل الوطن الآن أمام حدث تاريخي مرتكز في العديد من خياراته التي لا رجعة فيها على وجود سلطة قضائية مستقلة، بكل ما تحمل هذه الكلمة من معاني ودلالات يكون هدفها خدمة المواطن بحماية حقوقه وحرياته وأمنه القضائي والتطبيق العادل للقانون عليه. جاء المشرع الدستوري المغربي في الفصل 109 ليقرر ما يلي: «يعد كل إخلال من القاضي بواجب الاستقلال والتجرد خطأ مهنيا جسيما بصرف النظر عن المتابعات القضائية المحتملة»، مما يعطي في نظري القوى الإلزامية لمدونة القيم القضائية المغربية، ويؤكد ما سبق أن طرحته في الندوة الوطنية لمدونة القيم القضائية التي سبق أن نظمتها الودادية الحسنية للقضاة سنة 2009 بمراكش من أن القيم في صيغتها، وشكلها الحالي ليست مجرد مثل أومواعظ، وإنما هي التزامات قانونية لها من القوة ما يرتب متابعة تأديبية في حق المخل بها.الملاحظة الثانية: لابد من الاعتراف بأن أي وثيقة، مهما كانت دقه صياغتها، لا يمكنها بتاتا الإجابة على كافة الإشكاليات في مجال يتسم بالتنوع والتعقيد، وهنا سيبرز دور المجلس الأعلى للسلطة القضائية باعتباره طبقا للفصل 113 من مشروع الدستور: «الساهر على تطبيق الضمانات الممنوحة للقضاة، سيما فيما يخص استقلالهم وتعيينهم وترقيتهم وتقاعدهم وتأديبهم ..»، فهو سيكون بلا شك الجهة التفسيرية الوحيدة المخول إليها وضع الحدود الفاصلة والواضحة لهذه المبادئ العشرة التي جاءت بها مدونة القيم القضائية، ويبين ما يجب فعله من طرف القضاة سواء سلوكا مهنيا أو خارجه، فالمجلس الأعلى للسلطة القضائية بمناسبة في القضايا المعروضة عليه يمكن أن يوضح للجميع (ممارسين وأفرادا عاديين) من أين تبتدئ حرية القاضي في إبداء آرائه المكفولة له دستوريا (الفصل 111) ومن أين يبتدئ الالتزام بالتحفظ الذي يطوق القاضي ؟ وما هو الحد الفاصل بين مبدأ استقلال القاضي وشرط احترام التسلسل الرئاسي لقاضي النيابة العامة مثلا ؟ وهل مبدأ التحفظ يعني التزام الصمت؟إذن فالمجلس الأعلى للسلطة القضائية سيكون له دور محوري في وضع «دليل عملي «لكيفية التعاطي مع هذه القيم القضائية وهذه المقتضيات الدستورية وهو ما جعل في نظري المشرع الدستوري يكلفه في الفصل 113 من مشروع الدستور بأن « يضع تقارير حول وضعية القضاء ومنظومة العدالة ويصدر التوصيات الملائمة بشأنها « وذلك على غرار باقي المجالس العليا في بلدان عريقة في مجال الديموقراطية واستقلال القضاء مثل كندا وفرنسا. مع الإشارة إلى أن مسألة ضوابط وآليات هذا النشر قد أثارت عدة نقاشات وإشكاليات في هذين البلدين ويتعين الانتباه إليها. إن السؤال الذي يفرض نفسه بقوة عند الاطلاع على مقتضيات الباب السابع من مشروع الدستور المتعلق بالسلطة القضائية هو البعد المالي واللوجيستيكي لهذه المقتضيات التي تستهدف الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة حقيقية؟إن قدرة السلطة القضائية على العمل بفعالية وتوفير العدالة التي يريدها المواطن ويستحقها ترتكز في نسبة كبيرة منها على المبادئ والقيم القضائية التي حاولت الودادية الحسنية للقضاة من خلالها تقديم مقاربة واقعية للجانب القيمي لرجال القضاء باعتبارهم أهم مرتكزات مشروع الإصلاح وركنه الأساس. لكن تفعيلها وإعطاءها الزخم القانوني والديناميكية الايجابية التي ترفعها من موقعها كنصوص إلى واقع وممارسة يستشعرها المتقاضون، يقتضي مناقشة الاستقلال المادي للقضاء والقضاة استنادا إلى المرجعيات العالمية.أ- الوضع الحالي لأجور القضاة في المغرب: إن التشديد على ضرورة إبراز هذا الوضع بشكل واضح ليعلمه المواطن المغربي، سببه هو أن الكثير يعتقد جازما أن راتب القضاة يتجاوز في حده الأدنى مبلغ 20000 درهم شهريا استنادا إلى ما يروجه البعض من إشاعات من فترة لأخرى حول زيادة في هذه الأجور ومقارنة له ببعض الوظائف الحكومية الأخرى مما يجعل أمر الزيادة حقيقة لا جدال فيها يتم التعامل مع القضاة على أساسها.إن هذا الاعتقاد السائد وإن كان غير مستند على أساس واقعي لكنه يعكس في نفس الآن التفكير والتحليل المنطقي لهذا المواطن الذي يعتقد ببداهته الفطرية- هو محق في ذلك- أن حماة العدالة من المفروض أن تكون أجورهم « مرتفعة» مقارنة بكتلة أجور سامي موظفي الدولة.لقد فهم المواطن أنه لكي يطمئن لحكم القاضي ولسلطته يجب أن يكون هذا الأخير في منأى عن أي تأثير أو تدخل من قبل الغير سواء كان هذا التدخل معنويا او ماديا بصفة مباشرة أو غير مباشرة، ولن يتأتى ذلك إلا بتحصين القاضي ماديا واجتماعيا.لكن حقيقة الوضع المادي والاجتماعي للقضاة للأسف هي غير ذلك، فالقاضي المبتدئ يبدأ مساره المهني بأجر شهري لا يكفي حتى الاحتياجات الأولية للمواطن البسيط ويجد نفسه أمام مسؤوليات ومهام من التنوع والتعقيد والخطورة ما تنوء به الجبال وأمام كم هائل من الالتزامات الأخلاقية والمهنية وأمام مسار للترقية غير محفز تماما، وبعد عمر طويل وبتوفيق من الله قد يختم مساره المهني إذا قدر له ذلك بالوصول إلى درجة استثنائية وأجر شهري قد لا يسعفه في مواجهة العواقب الصحية التي تخلفها إكراهات الجلسة والملفات عبر السنين. محمد الخضراوي عضو الودادية الحسنية للقضاة

دراسة: موقع مدونة القيم القضائية في مشروع الدستور (الحلقة الثالثة)

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الحبس لدركيين بسلا أدينوا بالابتزاز

الاستماع إلى مغربيين أدينا في الجزائر في قضايا الإرهاب

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات