دراسة (الحلقة الثانية): موقع مدونة القيم القضائية في مشروع الدستور

الحمولة والمضامين الأخلاقية والحقوقية في مشروع الدستور إذا كان تاريخ المغرب أفرد للقضاء مكانة هامة ومحورية في ترسيخ وحدة الدولة والحفاظ على مقوماتها، فإن مستقبل الوطن الآن أمام حدث تاريخي مرتكز في العديد من خياراته التي لا رجعة فيها على وجود سلطة قضائية مستقلة، بكل ما تحمل هذه الكلمة من معاني ودلالات يكون هدفها خدمة المواطن بحماية حقوقه وحرياته وأمنه القضائي والتطبيق العادل للقانون عليه. يبدو أن الودادية الحسنية للقضاة نهلت من كل هذه المصادر والمرجعيات وأصدرت وثيقة هامة في مجال «علم الأخلاقيات القضائية» تتضمن عشرة مبادئ أساسية تعد عملا تشاوريا وتشاركيا كبيرا طبعتها بخصوصية التجربة المغربية وأصالة قضاتها واستهدفت بالخصوص تحقيق ما يلي: أ. بالنسبة إلى القضاة أنفسهم تمكنهم من معرفة أكبر، بواجباتهم الملتزمين بها مهنيا وأخلاقيا والتي تخولهم الاستقلالية والحياد والتجرد.ب. بالنسبة إلى المواطنين لأنها تفتح لهم بابا للاطلاع على معايير واضحة ومعروفة لأخلاقيات مهنة القضاء التي ترتكز في شق كبير منها على سلوك القاضي أثناء مزاولته لنشاطه المهني أو خارجه، ومن تم سيتم بناء الثقة التي هي من أهم أوراش الإصلاح التي تتطلب عملا دؤوبا.وهنا لا بد من الإشارة إلى استطلاع الرأي الذي أنجزه المجلس الأعلى للقضاء الفرنسي سنة 2008 والذي اعتبر فيه 94% من الفرنسيين المستجوبين أن نصا قانونيا في مجال أخلاقيات القضاء من شأنه تحسين أداء العدالة.ج: بالنسبة إلى الجهاز القضائي برمته حيث يتم تدعيم صورته وتحسين فعاليته ونجاعته. وأكد صاحب الجلالة الملك محمد السادس في خطابه بمناسبة عيد العرش على هذه المضامين بقوله:» لذا يتعين على الجميع التجند لتحقيق إصلاح شمولي للقضاء لتقرير استقلاله الذي نحن له ضامنون هدفنا ترسيخ الثقة في العدالة وضمان الأمن القضائي الذي يسير عبر الأهلية المهنية والنزاهة والاستقامة وسيلتنا حرمة القضاء وأخلاقياته ومواصلة تحديثه وتأهيله».بالاطلاع الأولي على أبواب ومقتضيات مشروع الدستور المختلفة، تجد نفحة حقوقية وأخلاقية وقيمية تغمرك بحمولاتها وتملؤك بفخر الانتماء إلى وطن هكذا ميثاقه الدستوري، فهو بحق دعوة إلى التضامن والحرية والكرامة والمساواة والمناصفة وتكافؤ الفرص والعدالة الاجتماعية ومقومات العيش الكريم والتطبيق العادل للقانون... في نطاق من التلازم بين حقوق وواجبات المواطنة وارتباط صريح بين المسؤولية والمحاسبة.وفي المجال القضائي تظهر هذه الحمولة والمضامين الأخلاقية والحقوقية بارزة بشكل جلي في مشروع الوثيقة الدستورية مما يضع مدونة القيم القضائية المغربية في قمة الهرم القانوني ويفرض علينا التعاطي مع مقتضياتها ومضامينها بكثير من الجدية والموضوعية والمسؤولية، باعتبارها عملا معرفيا وتركيبيا وعمليا مهما صادر عن القضاة المغاربة، وتجربة رائدة يحتذى بها على المستوى الدولي.وفي هذا السياق يمكننا أن نلتمس الحضور القوى لهذه القيم القضائية بشكل واضح سواء في المحور الأول المتعلق باستقلال القضاء أو المحور الثاني الخاص بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية أو المحور الثالث المتعلق بحقوق المتقاضين وقواعد سير العدالة ومن هذا المنطلق يمكن الإشارة إلى الأمثلة التالية: جاء الفصل 109 من وثيقة الدستور ما يلي: « يمنع كل تدخل في القضايا المعروضة على القضاء، ولا يتلقى القاضي بشأن مهمته القضائية أي أوامر أو تعليمات ولا يخضع لأي ضغط.يجب على القاضي، كلما اعتبر أن استقلاله مهدد، أن يحيل الأمر إلى المجلس الأعلى للسلطة القضائية.يعد كل إخلال من القاضي بواجب الاستقلال والتجرد خطأ مهنيا جسيما، بصرف النظر عن المتابعات القضائية المحتملة.يعاقب القانون كل من حاول التأثير على القاضي بكيفية غير مشروعة».كما نص الفصل 111 منه على ما يلي: «للقضاة الحق في حرية التعبير، بما يتلاءم مع واجب التحفظ والأخلاقيات القضائية».فهذان الفصلان يشكلان انعكاسا واضحا لمضامين المبدأ الأول الذي استهلت به الودادية الحسنية مدونة القيم القضائية وهو مبدأ الاستقلال حيث جاء فيه ما يلي: «استقلال القاضي دعامة متينة لقيام المحاكمة العادلة، القاضي ملاذ للمظلومين مأمور بإعادة الحق لصاحبه، ولا يمكن أن يتوفر ذلك إلا إذا كان حرا في قراراته مستقلا عن أي تأثير. ولتحقيق ذلك عليه : أن يفرض استقلاله عن باقي السلط..».وكذلك انعكاس ما جاء في المبدأ العاشر «التضامن» الذي ألزم القاضي بأن :»يواجه مع زملائه أي تهديد يهدف إلى النيل من سمعة القضاء ورجالاته أو المس بهم أو باستقلاليتهم».وهو ما أكده رئيس الودادية الحسنية للقضاة السابق الأستاذ الفاضل مصطفى فارس الرئيس الأول للمجلس الأعلى في كلمته التي استهل بها مدونة القيم القضائية حيث جاء فيها:«هدفنا من هذا العمل، تأمين استقلال السلطة القضائية والدفاع عنها وحماية وحصانة القضاة وكرامتهم، وتقوية علاقات المودة والتضامن بينهم، والدفاع عن حقوقهم ومصالحهم المشروعة، والرفع من شأن القضاء وتصحيح ما يعوق مسيرته، وتكريس المهنة لخدمة الوطن العزيز، حريصون على تثبيت ثقة المواطنين في القضاة باعتبارهم أمناء على قيم أمتنا وحراس للحريات والحرمات».إن الفصل 120 من مشروع الدستور الذي ينص على أن «لكل شخص الحق في محاكمة عادلة وفي حكم يصدر داخل أجل معقول» يشكل بدوره تطبيقا من تطبيقات المبدأ الثامن من مدونة القيم القضائية وهو «السلوك القضائي» الذي ألزم القضاة بمجموعة من الآليات والضوابط أخص منها ما ورد بفقرته الثانية: «يلتزم بالانضباط في مواعيد الجلسات ويحترم مبدأ الإسراع في الإنجاز دون تسرع في الحكم بما يكفل سرعة البت ونجاعته داخل آجال معقولة». فأسوأ ما يواجه العدالة هو أن يغدو تكديس الملفات لدى القاضي عادة مألوفة تفتقر إلى خطة منظمة للمعالجة والحال أن كل ملف وراءه إنسان ينتظر ومصالح تتعطل. إن ما ورد في المحور الثالث المتعلق بحقوق المتقاضين وقواعد سير العدالة يمكن تصنيفه ضمن ما يسمى «بالمستلزمات الأولية للممارسة السليمة للمهمة القضائية» التي تجد تطبيقاتها المختلفة في مجموع القيم القضائية المغربية.هذا النشاط وحسن إدارة القضايا ليس فضيلة شخصية بل هو أيضا التزام دستوري على عاتق القضاء برمته، لكن تحقيقه يتطلب أن توضع في متناول القاضي الوسائل اللازمة لحسن إنجاز مهامه كما نصت على ذلك المادة 6 من الميثاق الأوربي حول وضعية القضاة وكذا المادة 6 من الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان.إن هذه الخلاصة الأولية المتعلقة بتطابق مدونة القيم القضائية مع مضامين الوثيقة الدستورية يستتبع الوقوف على ملاحظات أخرى نعتقدها أساسية :الملاحظة الأولى: الميثاق الدستوري حسم في الجواب حول السؤال المطروح في الساحة القضائية الدولية وهو: ما علاقة أخلاقيات المهنة بالتأديب؟إنه بالرجوع إلى المواثيق الدولية والأدبيات التي ترتبت عنها نجد أن الآراء انقسمت إلى محورين:اتجاه أول: رافض لفكرة ارتباط مدونات القيم القضائية بالتأديب واعتبرها عبارة عن أهداف ومطامح يرجى الوصول إليها ولا يؤدي الإخلال بها إلى التأديب وفي هذا السياق أعلن المشرع الكندي بأن الأمر يتعلق بنصائح وتوصيات وأنها سقف مرتفع يرجى الوصول إليه وأن مجموعة من الظروف المحيطة بالقضاة تجعلهم يعبرون عن عدم تفاعلهم الإيجابي معها، حسب ما جاء في ديباجة القانون الكندي. وهو أيضا ما ذهب إليه المجلس الاستشاري للقضاة الأوربيين في رأيه عدد 3 الذي طالب فيه بالتمييز بين المسطرة التأديبية ومدونة أخلاقيات المهنة.اتجاه ثان: يمثله المجلس الأعلى للقضاء الفرنسي الذي تساءل بشكل إنكاري عن الغاية من هذه القيم إذا لم تكن مقرونة بالتأديب في حال الإخلال بها، وهو مطلب نادت به الودادية الحسنية للقضاة، وأثبتته في مقترحهاالمقدم للجنة تعديل الدستور. محمد الخضراوي عضو الودادية الحسنية للقضاة

دراسة (الحلقة الثانية): موقع مدونة القيم القضائية في مشروع الدستور

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الحبس لتلميذ بسطات تسبب لزميله في عاهة مستديمة

اتهام مدير مدرسة باعتداءات جنسية على تلميذات وعاملات

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات