جلسات المنقبات… أسرار وحكايات

"الصباح" جالستهن وتقربت منهن أكثر وتعرفت على المنفتحات والملتزمات منهن “الغموض” هو كل ما يمكن أن يلتصق بحياة المنقبات، فالقليل فقط من المغاربة يتجرأ على التقرب منهن ومحادثتهن، باعتبار أن الغالبية العظمى تفضل الابتعاد وتجنب حتى النظر إليهن، إلا أن الواقع يوحي غير ذلك، فالسواد الذي يغطيهن من رؤوسهن إلى أخمص أقدامهن، يتحول إلى وردي وإلى ألوان الأنوثة والإثارة إذا أردن ذلك. «الصباح» تقربت أكثر منهن، وجالستهن في محاولة اكتشاف عالمهن الخاص. أول ما يمكن أن يتبادر إلى الذهن من أجل اكتشاف عالم المنقبات، والتقرب منهن أكثر، مشاركتهن في جلساتهن التي يعقدنها بشكل منتظم في أحد المنازل من أجل الموعظة والإرشاد. جلسات تنتهي بنميمةهذه المرة استدعت امرأة في الأربعينات صديقاتها المنقبات، ومن بينهن بعض الأخوات اللواتي سيسيرن الجلسة، ويناقشن جملة من المواضيع انطلاقا من الآيات القرآنية ومن الحديث النبوي.بعد صلاة العصر مباشرة، بدأت المنقبات والمحتجبات في الالتحاق بالمكان الواحدة تلو الأخرى، وشرعت كل واحدة منهن في أخذ مكان لها في انتظار أن تلتحق الأخت التي ستتحدث هذه المرة عن موضوع النقاب، وكيف يمكن للحاضرات أن يقنعن «المتبرجات» المقربات منهن بحمل الحجاب، كما ستتطرق في الجلسة ذاتها إلى كيف ينبغي للزوجة أن تتعامل مع زوجها.بعد وصول «الأخت»، تسمرت النسوة في أماكنهن، واكتفت الأخريات بمطالبة أطفالهن بالتزام الصمت والجلوس بالقرب منهن. ومن دهشة الأمهات اللواتي كن على قدر لا بأس به من التعليم، اندهش الأطفال وظلوا يحدقون في الجميع دون أن يعوا ما يحدث في المنزل المتواضع.مع أول خطوة وضعتها الأخت بالمنزل الذي ظل بابه مفتوحا في وجه كل من يريد الالتحاق بالجلسة، سمع صوت نسائي، لكنه قوي وحاد يقول «السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته»، ومباشرة بعد ذلك، ردت النسوة «وعليك السلام ورحمة الله تعالى وبركاته»، وشرعت «الأخت»، التي كانت ترتدي برقعا يغطي كامل جسدها، وقفازين يخفيان كفيها، فيما غطت عينيها نظارات شمسية سوداء اللون، فلا مكان في جسدها إلا وغطاه القماش الأسود، (شرعت) في البحث عن الوجوه التي تعرفها، كما تحدق في النسوة الغريبات عنها.جلست الأخت في المكان الذي خصصته لها صاحبة المنزل، وشرعت في نزع البرقع واحتفظت بمنديلها الأسود الذي كان يغطي جزءا من شعرها المرشوش بالشيب الأبيض. كانت «الأخت»، التي تتكلم الدارجة المغربية، تتحدث عن النقاب وكيف أن المرأة المغربية ارتدته طيلة أربعة عشر قرنا، مضيفة أن «الـــــــــــنقاب و«الحايك» هو اللباس الوحيد الذي كانت تعرفه المرأة في المغرب، قبل أن تجتاح موجة الميوعة النساء المغـــــربـــــــــيات، اللــــــــــواتـــــــــــــي أصبحن يكشفن عن تضاريس أجســــــــــــادهــــــن بلباس يكشف أكثر مما يستر».كما ألحت الأخت، التي كانت في كل مرة تتوقف عن الكلام، لتشرب الشاي الموضوع على الطاولة أمامها، وتتناول القليل من الحلوى، على أن يكون النقاب واسعا، فضفاضا، وطويلا، وغير شفاف، ولا يشبه ملابس الرجال، ولا يشبه لباس الكافرات، ولا يكون لباس شهرة، ويكون ساترا لسائر جسد المرأة، ولا تكون به زينة أو ألوان براقة لافتة للنظر.وكما كانت «الأخت» تأخذ استراحة من الكلام، كانت النسوة أيضا يسترحن، سيما أنهن ينصتن بإمعان دقيق إلى ما كانت تقوله.وبطريقة تبين مدى جدية الأخت وصرامتها، عاتبت النسوة الحاضرات اللواتي جئن للاستماع لها والأخذ بنصائحها، كيف أنهن يتساهلن مع المقربات منهن اللواتي لا يضعن الحجاب، وكيف أنهن يبقين مكتوفات الأيدي عوض التحدث وإقناعهن بضرورة لباس النقاب أو على الأقل وضع الحجاب. ومباشرة بعد ذلك، انتقلت إلى موضوع آخر بعيد عن النقاب، لكنه يهم المرأة «المسلمة» كما قالت «الأخت»، وهو يتعلق بكيفية التعامل مع الزوج، وهنا شرعت النسوة في التحدث في ما بينهن خفية، محاولات شرح وضعيتهن.قبل أن تنتهي الأخت من كلامها، بدأ الملل يتسلل إلى بعض النسوة الحاضرات، إذ بدأن في التحدث عن مواضيع أخرى، لا علاقة لها بالنقاب أو الحجاب ولا حتى ما يهم المرأة «المسلمة».وبـــــــــــدأت حلقة أخـــــــــرى من النقــــــــــاش، وانتــــــــــــقلت النسوة إلى التحدث عن أخبار متبرجات في الحي الشعبي وأخبار أولادهن وفضائح بناتهن وأشياء من هذا القبيل انخرطت فيها “الأخت” أيضا التي ظلت تسير الجلسة وتقدم الموعظة والإرشاد، مؤكدة أن ما يقع بالحي يجب تغييره، مشيرة إلى أنهن يجب أن يشجعن باقي النسوة على مجالستهن والأخذ بالإرشادات والموعظة التي تقدمها.وشرعت النسوة اللواتي جئن من أجل أخذ الموعظة والإرشاد في التحدث عن الآخرين، ودخلن عالم النميمة بدون قصد، أو ربما قصدن ذلك. منقبات منفتحات...من يراها متدثرة في عباءتها السوداء لا يظهر منها سوى شعاع بسيط من عينيها، لا يعرف أبدا ماذا يوجد خلف ذلك الستار. عندما تدخل رجاء بيتها وتنزع عنها عبء العباءة الثقيلة.. تتبدى امرأة أخرى لا علاقة لها بالكتلة السوداء التي كانت عليها قبل قليل.الآن يبدو شكل جسمها الجذاب وقــــــــــــوامـــــها المتـــــناســــــــق مــــــتناغــــــــما تماما مع قصة شــــــعرها المتماوج و”البيجامة” الحريرية التي ترتديها. الماكياج اللبناني الخفيف “ما كيخطاهاش”، فرجاء تحب الألوان وتعشق تزيين وجهها، كما لو كانت ستخرج إلى سهرة. أما العدسات اللاصقة الملونة فهي إكسسوارات لا تستغني عنها الزوجة الشابة، لكن داخل بيتها.!“كتسيف” هكذا تقول عنها الجارات والصديقات اللواتي يعرفنها داخل البرقع الأسود وخارجه. ففي البيت تبدو تلك المرأة التي ترتدي لباسا أسود خشنا في كامل نعومتها وأنوثتها وكأنها دمية. في الحفلات واللقاءات التي لا تحضرها سوى النساء، تتزين رجاء وتتجمل وتتبدى مفاتنها، وكأنها إحدى فتيات الفيديو كليب، لكن ما أن ينتهي الحفل حتى تعود المرأة إلى “الباكاج”، كما تطلق عليه ضاحكة.“الناس كيشوفني هكذا كيسحابوني معقدة... أنا عايشة حياتي، ولكن بالشكل لي بغيت أنا” رجاء ترقص وتغني وتضحك وتروي النكات وتخرج في نزهات.. “أنا بخير، ولكن الناس شوية ما كيتفهموش» تقول الزوجة الشابة، فهي ما تزال تتذكر كيف كانت النسوة ترمقنها بنظرات الشك والريبة، وهي تتجول رفقة زوجها في أحد المركبات التجارية الفخمة... «شوفي الأب كيداير والأم كيدايرة»، قالت إحداهن لمرافقتها بفرنسية رنانة، وهن يرمقنها بنظرات مستفزة. المرأتان كانتا تعقدان مقارنة بين مظهرها في النقاب الأسود ومظهر زوجها العصري وهو يرتدي الجينز و«التيشيرت».“ما كنديهاش فيهم” تعودت رجاء أن تقابل كل النظرات باللامبالاة فهي أحسن حل بالنسبة إليها، فالصورة النمطية للمنقبات سببها المنقبات أنفسهن من وجهة نظر العديد ممن التقتهن “الصباح”، فبمجرد أن يرتدي بعضهن النقاب ينعزلن ويبدأن في انتقاد الأخريات، في حين أن هناك منقبات يلتحفن بالسواد، ولا يمانعن كثيرا في الاختلاط بالذكور، طالما أن الأمر بحدود ويهدف إلى إنجاز العمل. الحياة الخاصة للمنقبات، لها صبغة خاصة، فهناك من تعتبر النقاب عرفا وعادة لا يفصل المرأة عن كيانها الاجتماعي والنفسي والثقافي، ولا يشعرها بالغربة في بيئتها الاجتماعية، وهناك نوع من المنقبات لا يتكلمن ولا يجالسن ولا يستقبلن أفراد العائلة والأسرة من الذكور، وإن كانوا إخوة الزوج وأبناءهم.ومن بين نماذج النساء المنقبات المنفتحات، 3 نسوة قصدن صالونا للحلاقة والتجميل في أحد الشوارع الشعبية بالدار البيضاء، إذ دخلت الثلاث، احداهن ارتأت أن يظهر وجهها البيضاوي الشكل، وأن تضع نظارات طبية تخفي نظراتها القوية، فيما اختارت الأخرى ارتداء حذاء رياضي أسود.نظرة الاستغراب كانت تبدو واضحة على زبونات المحل، سيما أن المنقبات الثلاث كن يردن صبغ شعورهن بألوان فاتحة وبألوان تساير الموضة، وزادت نظرات الاستغراب حدة حين أكدت إحداهن أنها تنوي قص شعرها على طريقة إحدى الممثلات الأجنبيات.خلال فترة انتظار دور المنقبات اللواتي تراوحت أعمارهن بين 26 و30 سنة، تحدثن عن آخر صيحات الموضة وعن الموسيقى وعالم الفن، ووصلن إلى حد التحدث عن المسلسلات المدبلجة التي تعرضها إحدى القنوات المغربية، متجاهلات أعين زبونات المحل التي كانت تراقب كل تحركاتهن وتنصت بإمعان كبير إلى كلامهن، فهن ينظرن إلى حياتهن بمساحة أوسع مما تسمح به فتحات الرؤية في نقابهن، كما أنهن لا يمانعن في أن يكون اللون الغامق الوحيد في حياة تكسوها ألوان قوس قزح، فهن معتادات على الضحك وممازحة الفتيات المتبرجات، بل الأكثر من هذا فهن صاحبات الأفكار المتحررة التي غالبا ما تفاجئ المقربين منهن. ... وأخريات ملتزمات إلى أقصى حدبخطوات ثابتة، تخطو السعدية، منقبة في الثلاثينات من عمرها، أم لأربعة أطفال، صوب مسجد بأحد الأحياء الشعبية لمدينة الدار البيضاء، رفقة ابنتها المحتجبة رغم أن سنها لم يتجاوز 6 سنوات.السعدية التي تعرف عند نسوة الحي أنها امرأة منعزلة لا تحب زيارة جيرانها، وحتى إذا اضطرت إلى ذلك، فإنهن لا يعجبن بحديثها ولا بأفكارها، وينزعجن من زيارتها.تقول جارتها إنها في كل مرة كانت تتحدث فيها معها تعاتبها بقوة على عدم وضع النقاب، مضيفة أنها تستهزئ منها ومن الطريقة التي تتحدث بها، باعتبار أنها لا تستشهد في حديثها بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية. وحكت الجارة، أن عائلة بالحي كانت تحتفل بزواج ابنتها، وأحيت حفلا غنائيا في الحي، إلا أن المنقبة لم يرقها الأمر، وأخذت في الاحتجاج على العائلة باعتبار أن ما قامت به يحرمه الدين الإسلامي، وأنها أحرجتها هي وعائلتها. فرنسية تعيش حياة المنقبات ارتدت بيرجير لوفرانس، فنانة تشكيلية فرنسية، البرقع لمدة شهر كامل، وتجولت في شوارع باريس من أجل أن تتعرف على ما تحسه المنقبات وعن نظرة المجتمع الفرنسي إليهن، ودونت تجربتها في كتاب بعنوان «حجاب في شهر يونيو». وقالت بيرجير، وهي في الأربعينات من عمرها، إنها لم تسع إلى إثبات حقيقة معينة، بقدر ما كانت تريد خوض تجربة مختلفة أو تحدي شخصي منفصل عن الخطاب السياسي والجدل الدائر الراهن حول البرقع في فرنسا.وأضافت الكاتبة أنها نفذت تجربتها في شهر يونيو، ونزلت إلى الشارع والأماكن العامة، واختلطت بالناس وحاولت التواصل معهم، ثم سجلت ملاحظاتها وما صادفته خلال التجربة على شكل يوميات مفصلة، في الكتاب الذي حقق مبيعات سريعة.وأضافت أنها حالما نزلت إلى الشارع مرتدية هذا اللباس، فإن كل النظرات توجهت إليها في محاولة لتعريتها، فأحست بالخوف في الطريق العام، لأول مرة في حياتها، موضحة أنه كان هناك من يشير إليها بأصبعه، ومن يسمعها عبارات جارحة، وتضيف: “كنت مثل سمكة في ماء مغلي، وشعرت كأنني معاقة لأنني لا أرى بشكل جيد، وعندما كانت درجة الحرارة تبلغ الثانية والثلاثين في الشارع، فإنها كانت تزيد خمس درجات وراء غطائي».وقالت الكاتبة إن ما كتبته لا يعبر عن رأي مسلمة ترتدي النقاب في بلد أوربي، وإنما هي انطباعات امرأة تخفي وجهها وتغطي جسمها بالكامل، فلا يرى الآخرون أي تعبير من تعبيراتها. إيمان رضيف

جلسات المنقبات… أسرار وحكايات

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الحياة المدرسية... المجتمع في قلب المؤسسة

استمرار المواجهات بين الشرطة والمتظاهرين في البحرين

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات