طيب محمد عمر … رحلة 40 سنة في مهنة المحاماة

يتشبث بالمبادئ ويحارب الفساد ورافع في جل قضايا المغرب الحديث تبدو الحياة المهنية لطيب محمد عمر مثل كتاب مفتوح حول مسار محام آمن بالقيم الكونية، وناضل لأزيد من أربعين سنة في جبة البذلة السوداء لإنصاف المظلومين وإحقاق العدالة.قليل الكلام، لكنه في مرافعاته، مثل شلال هادر بالنصوص القانونية والمقارنات والاجتهادات القضائية والدراسات الحديثة والحكم التاريخية، فتختفي آنذاك ملامح وجهه البريئة وراء صرامة رجل قانون بامتياز، حتى أن أغلب الحاضرين في الجلسة يرهفون السمع كأن مغناطيسا خفيا يجذبهم إلى نبرات صوته الرزينة. حازم قلما يبتسم أثناء مزاولته المهنة، حسب بعض زملائه، لكنه خفيف الروح وسريع النكتة، حين يودع أدراج مكتبه أو يغادر بهو المحاكم، مثل محارب ينتشي فرحا بعد الفوز في كل معركة، لكنه صارم في مبادئه، إذ قلما يتراجع عن قرار اتخذه.لم ينتم إلى أي حزب سياسي، حزب الزملاء أنفسهم، رغم اهتماماته السياسية التقدمية، إلا أنه اشتهر بدفاعه المستميت عن الحريات والحقوق في عمله محاميا من خلال مرافعاته ومذكراته المكتوبة، وفي مقالات نشرت له على صفحات المجلات المتخصصة والصحف الوطنية، دون أن يتخلى أبدا عن احترام القضاء بشكل كبير، ويغار على مستوى أدائه المهني.متواضع إلى درجة الحياء، ولا يعشق أضواء الشهرة، إذ لم يفكر يوما في الترشح لمنصب النقيب لأسباب كثيرة، منها اعتقاده أنه مازال بهيأة البيضاء من هم أجدر منه بالمنصب، ومن ثمة لا يرى نفسه نقيبا عليهم، ومنها أن المترشح يجب أن تتوفر فيه مواصفات، لم يستجمعها، مثل التفرغ التام وإتقان أكثر من ثلاث لغات والتكوين السياسي والقدرة على مواجهة الفساد داخل المهنة وداخل سلطة القضاء، مهما كلف الثمن.إنه ببساطة المحامي النبيل الذي تحفل ذاكرته بالكثير من التجارب ابتدأت منذ أن التحق سنة 1970 بالمعهد العالي للقضاء، وسرعان ما قدم استقالته بعد ثلاثة أشهر، فنبل مهنة المحاماة أقوى منه، حينها قرر إعلان الطلاق مع المعهد العالي لبداية مشروع زواج مع البذلة السوداء، وطبعا استمر الوفاء إلى الوقت الراهن.أدرك طيب محمد عمر، منذ بداية مشواره، أن عشق المهنة لا قيمة له دون إخلاص لها، ففتح قلبه لنهل قيمها من روادها، فالتحق بمكتب المرحوم عبد اللطيف السملالي لمدة سنة حتى أداء اليمين في 2 مارس 1971، ثم سرعان ما تاه في تفاصيل القضايا بجدية منذ أن ترافع، يومين بعد أداء اليمين، أمام محكمة الجنايات بسطات في قضية توبع فيها متهم بالقتل العمد مع سبق الإصرار والترصد وتشويه جثة إلى جانب النقيب الطاهري. حدد المحامي مساره بدقة، فالبدايات الجيدة أحد مفاتيح النجاح، إذ غادر مكتب الأستاذ السملالي لأسباب مبدئية، علما أن الأخير سعى إلى استعادة الشاب لما لمسه فيه من جدية ونزاهة، فرفع أجره الشهري إلى 400 درهم لتبية مصاريفه اليومية، إذ كان طيب عمر يستقل حافلات من منطقة عين الشق بالبيضاء للوصول إلى المكتب، إلا أن كل هذه الإغراءات لم تدفع الأخير إلى التراجع، فالمبادئ لا تقاس بالمال، شعار لازمه طيلة مسار حياته المهنية.لم يستغرق بحث طيب محمد عمر طويلا، إذ التحق بمكتب الأستاذ بن عبد الجليل بشارع الحسن الثاني، ثم انفصل عنه لأسباب عديدة، ثم اتصل به المرحوم المعطي بوعبيد بعد ما عاين فيه المثابرة في العمل حين كان طيب عمر كاتب «ندوة تمرين سنة 1974»، وأنجز دراسة حول عقوبة الإعدام التي تزامنت مع إعدام بعض ضباط الجيش إثر محاولات الانقلاب الفاشلة، في حين كان الشاب الطيب يناضل لإلغائها.وفي سنة 1974 كانت بداية المحامي طيب محمد عمر المهنية، إذ فتح مكتبه الخاص حيث يوجد الآن، فهو يكره التغيير، ويؤمن أن الثبات على المبادئ من شيم النزهاء، ولعلها الأسباب التي جعلته حريصا على الاستقرار المكتبه إلى الآن في المكان نفسه، فهو كما ينوب عن وزير ما أو مستشار صاحب الجلالة أو مسؤول كبير في الدولة، يدافع أيضا عن قضايا المواطنين البسطاء، مثل قضايا الكراء أو حقوق المرأة أو حادثة سير بسيطة أو ملف شغل عاد، فقد آمن أن قدسية المهنة تفرض الاهتمام بكل القضايا، دون أن يأبه بعائداتها المالية.يصف البعض أتعابه بالمرتفعة جدا، إلا أنه يفسر ذلك بنوع من التضامن، فهي مرتفعة بالنسبة إلى الميسورين، لأن المحامي له دور اجتماعي، ويمكنه الحصول على أتعاب مرتفعة حين ينوب عن ثري، في حين يتغاضى عن أتعاب ملفات موكلين بسطاء وقد يتخلى عنها أحيانا، دون أن يحيد عن نبل المهنة بالالتزام بالمجهود نفسه، مهما اختلفت نوعية الملفات.رافع المحامي طيب محمد عمر في أهم القضايا التي ميزت المغرب الحديث، منها قضايا سنة 1975 بخصوص طلبة اليسار ومنظمة «إلى الأمام» و»23 مارس»، إلى جانب عدد من زملائه في حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، ورافع سنة 1979 في معركة الطعون الانتخابية التي مارسها لمدة طويلة منذ بداية الانتخابات البرلمانية والجماعية إلى جانب قضايا جنائية كبيرة في المغرب، بدون استثناء، ومنها قضية المخدرات القوية الأولى سنة 1984، وقضية الكومسير ثابت سنة 1993، وآخرها القضية التي لا يخفي أنها أنهكته صحيا وتتمثل في ملف خالد الودغيري المدير السابق لمؤسسة تجاري وفا بنك.يبدو طيب محمد عمر مثل بئر يحبل بالأسرار، إذ يخبئ في دواخله قضايا كبيرة في الجانب الجنائي والمدني التي دُهس فيها استقلال القضاء بشكل فظيع، إلا أنه يرى أن وجود الإرادة الملكية لإصلاح القضاء لا تمنع من انتزاع القضاء لاستقلاليته، مهما كلف الثمن، فالقاضي يجب أن يرفض تلقي التعليمات ما دام لا ينفذ إلا القانون، وحين نحصل على هؤلاء «الانتحاريين» فذاك يعتبر بداية، حينها لن يجرؤ مسؤول على اتباع سياسة التعليمات والمس باستقلاليته، سيما أنه محاط بإرادة ملكية، ويشير إلى أن الكرة الآن في ملعب القضاة، لكن ذلك لا يمنع من وجود أناس في المحيط المسؤولين التنفيذيين يتدخلون في القضاء، مستغلين خوف القضاة، بحكم طبيعتهم البشرية، على مستقبلهم المهني ومستقبل أسرهم، ويضطرون إلى الرضوخ، فنحن لا نتوفر على قضاة بإمكانهم تحمل المسؤولية وتنفيذ القضاء.تتبلور الأفكار في ذاكرة طيب محمد عمر مثل كرة ثلج تزداد مع دورانها، فهو حريص على استقلال القضاء، بحكم خبرته الطويلة، ويتألم كثيرا حين يسرد تفاصيل بعض القضايا التي غابت عنها قيم الأخلاق، فحين يكون القاضي متشبعا بالقيم الأخلاقية والتجرد عن المال يقطع القضاء شوطا كبيرا في مسلسل استقلاليته، إذ بينت التجربة أن التدخل في القضاة يقتصر على نوعية معينة منهم، خصوصا أولئك الذين يتوفرون على ملفات أو يشتبه في تلقيهم رشاوي، أما القاضي النزيه فقلما يخضع، فهو يملك حصانة الالتزام والتشبع بالقيم والأخلاق.حين يلتقط طيب محمد عمر أنفاسه، فذاك لا يعني إلا الرجوع بالذاكرة سنين طويلة تحبل بالمفاجآت والخبايا يفضل السكوت عنها، ويعلن أنه حين يتقاعد سيخصص لها مذكراته، سيما ما تعلق بجوانب التعسف على الحرية وحقوق الناس، فهناك جوانب مظلمة عايشها وتتوحد في العقلية السلطوية، ولا يخفي أنه منذ العهد الجديد بدا أن هناك تغيرا ملموسا، فهناك احترام للمؤسسات، وهناك تخوف من السلطة الرابعة، ومن القضاء المستقل النزيه، ومن المحامين الشجعان النزهاء. يعترف طيب محمد عمر أن الجانب الأخلاقي زاد سوءا، خلال السنوات الأخيرة، إذ انحدرت القيم، وأصبح الهاجس المالي والكماليات طاغي، فهناك بعض القضاة يهرولون إلى الرفاهية، علما أنها ليست من أخلاق القضاة والمحامين، فهما في كفة واحدة، وما يسجل للطيب أنه طيلة أربعين سنة لم يشارك في أي عملية إفساد للقضاء، ولا يسمح بذلك إطلاقا، فهي من مبادئه حتى لو تخلى عن قضية ما.لا يختلف طيب عمر عن النملة كثيرا في سعيها الجاد وراء العمل، إذ يحكي أحدهم أنه يستغل الضوء الأحمر ليصحح مذكرة ما، ويشتغل طيلة السنة، ولا يمنح لنفسه إلا 15 يوما عطلة، وهي عادة امتدت طيلة أربعين سنة من العمل المتواصل، سواء في الجانب المهني أو حينما كان مسؤولا في مجلس هيأة البيضاء التي قضى بها فترة من 1983 إلى 1987 رئيس تحرير لمجلة «المحاكم المغربية» مع النقيب بنزاكور، وفترة من 1998 إلى 1999 كاتبا عاما للهيأة نفسها مع النقيب الناصري، أي ست سنوات من العمل اليومي المضني.يأسف كثيرا على تردي مهنة المحاماة، فيرى أن هناك ترديا على المستوى المهني للمحامين والنقباء وأعضاء المجالس ورؤساء جمعيات للهيأة وعلاقة المحامين في تعاملهم مع موكليهم، ففي نظره أن المحامي يقدم خدمة للمواطن يفترض فيها أن تكون في المستوى، فالمحامي يقدم مادة خام لصنع حكم قضائي حين يتنافس المحامون في تقديم مذكرات في المستوى، ويضطر القاضي إلى الاجتهاد والبحث والرجوع إلى الفقه، وهي تقاليد اختفت الآن.تعلو ملامح وجهه حمرة الأسف حين يدرك أن الرواد لا يتدخلون لإنقاذ المهنة، فللأسف، يقول بحسرة «في حالتي طلب مني بعض الزملاء الترشح لمسؤولية النقيب، إلا أنني اعتبر أن الوقت فات، فقد أصبحت هناك ثقافة عند غالبية المحامين لا علاقة لها بأخلاق المهنة، ولن تسترجع مكانتها إلا في حالة وقوع رجة قوية جدا، فالمحاماة لا يمكنها أن تبقى في هذا الوضع المتخلف، فهي رائد المجتمع ولها علاقة بتطوره، والحراك الذي تشهده المجتمعات العربية يجب أن يمتد إلى المهنة، خصوصا أنها قاطرة المثقفين والحقوقيين.يستند طيب عمر على راحتي كفيه لتأمل مسار طويل أخلص فيه لليمين ونبل المهنة، ثم يطلق ابتسامة تطرد كل الهواجس بعيدا قائلا:»المحاماة مثل امرأة غيور إن أخلصت لها بادلتك بالوفاء». خالد العطاوي

طيب محمد عمر … رحلة 40 سنة في مهنة المحاماة

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

أسر تعيش في "فنادق" الحمير

الحكومة السورية تستقيل وتظاهرة في دمشق تؤيد الأسد

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات