أحداث “كوميرا”… حريق الدارالبيضاء المهول

تفاصيل يوم حاصرت الدبابات الأحياء وحلقت المروحيات في سماء مدينة مكلومة بقتلاها شٌلت الحركة بشوارع البيضاء في 20 يونيو1981، وطافت المروحيات في سمائها، وجالت الشاحنات العسكرية بأحيائها، ثم انطلق الرصاص الحي ليصيب متظاهرين، وشهدت المدينة أحلك فترات في تاريخها في مرحلة أٌطلق عليها "سنوات" الرصاص ووصف قتلاها وزير الداخلية الراحل، إدريس البصري، ب"شهداء كوميرا". علت غيوم الغضب سماء البيضاء في 28 ماي 1981 بالبيضاء، واستفاق سكانها على خبر فجر حنقهم، وأشعل فتيل انتفاضة دموية، إذ قررت الحكومة برئاسة الوزير الأول الراحل، المعطي بوعبيد، زيادة كبيرة شملت جل أسعار المواد الغذائية الأساسية، وأعلن وزير المالية، آنذاك، أمام البرلمان أن الظرفية الاقتصادية حتمت هذه الزيادة.لم يستسغ البيضاويون هذه التبريرات، فكان الخبر بمثابة إشعال عود ثقاب في كومة قش، فالزيادة طالت جميع المواد الغذائية، ووصلت بالنسبة إلى الدقيق 40 في المائة، والسكر 50 في المائة، والزيت 28 في المائة، والحليب 14 في المائة، والزبدة 76 في المائة، علما أنها جاءت بعد زيادات امتدت بين سنتي 1979 و1980، حينها بدأت أولى إرهاصات انتفاضة أتت على الأخضر واليابس.تمردت المركزيات النقابية، وانتفضت ضد المساس بالقدرة الشرائية، وخرجت اجتماعات الاتحاد المغربي للشغل والكونفدرالية الديمقراطية للشغل بإعلان إضراب عام في البيضاء، ثم تلاه إضراب وطني، وواصلت جريدتا "المحرر" و"ليبراسيون" التعبئة لدفع الحكومة إلى التراجع عن قرارها، وخلف كل ذلك كانت سياسة شد الحبل بين الدولة والمعارضة في أوجها.حل يوم 20 يونيو بالمدينة كئيبا، إذ أغلقت المحلات التجارية أبوابها، وساد هدوء مثل الذي يسبق العاصفة، ثم فجأة اشتعلت شرارة الانتفاضة حين تدخل أعوان السلطة لإجبار مالكي الدكاكين على فتح أبوابها، وأصدرت الأوامر لسائقي الحافلات بالعمل وتكلف آخرون بحافلات النقل العمومي، إذ فضلت الدولة سياسة استعراض العضلات لإثبات تحكمها وإفشال الإضراب العام. لم تستسغ السلطات نجاح الإضراب، وبمرور الساعات بدأت طلعات رجال الأمن تغزو الشوارع والأحياء لتفريق التجمعات، والتحق بهم عناصر من الدرك الملكي والقوات المساعدة، وعاين البيضاويون شاحنات عسكرية ودبابات بشوارعهم، بل طافت مروحيات في سماء المدينة، حينها تيقن الجميع أن الحرب دقت طبولها.ولأن الحنق الاجتماعي السائد، آنذاك، لم يكن ينتظر إلا إطلاق صفارة بدايته، فقد تحولت التجمعات إلى مسيرات جابت أحياء الحي المحمدي ودرب السلطان وحي الفرح والقريعة وابن امسيك واسباتة وحي السلامة وحي البرنوصي وعين السبع.. فجل الأحياء الشعبية ذاقت مرارة الزيادات في الأسعار.بدأت الأخبار تتوالى حول مواجهات بين رجال الأمن والمحتجين، وعاين البيضاويون صورا بقيت عالقة في أذهانهم إلى الأبد، فمشاهد الضرب والجرح والقتل والاختطاف والاعتقال واقتحام المنازل أصبحت تؤثث المشهد، في حين سالت الدماء بالشوارع، واستعملت القوات الأمنية العيارات النارية لقمع المتظاهرين وإخماد الغضب، بل امتدت المواجهات إلى اليوم الموالي، مما أسفر عن مئات الجرحى والقتلى.وأجمع شهود عيان على أن أول ضحية لرصاص القوات الأمنية كانت طفلة لم يتجاوز عمرها 12 سنة سقطت قتيلة في منطقة درب غلف، في حين لجأت عناصر الجيش إلى تطويق كل الأحياء، وبدا واضحا أن السلطات فضلت إخماد لهيب الانتفاضة بالقوة.لم تسلم المنازل من انتهاك حرمتها، إذ باشرت السلطات حملة اعتقالات واسعة طالت النقابيين، بمن فيهم أعضاء من المكتب التنفيذي للكنفدرالية الديمقراطية للشغل، وقدرت بعض المصادر آنذاك عدد المعتقلين ب26 ألف شخص، وامتدت إلى تحرير جريدة "المحرر" ورئيس جماعة عين الذئاب مصطفى القرشاوي الذي لفقت له تهمة التحريض على الاضراب والشغب، قبل منع جريدتي "المحرر" و"ليبراسيون" من الصدور بصفة نهائية، إذ حضر البوليس إلى باب الجريدة، وفرضوا حراسة مشددة حولها ونظموا المداومة ليل نهار بعد أن أمرت جميع العاملين من صحافيين وإداريين وتقنيين وحراس وغيرهم بمغادرة المقر.بلغ قمع الأمن للمتظاهرين أوجه مع مرور ساعات ذلك اليوم، بل سقط أبرياء في المقاطعة 46 بالبرنوصي من جراء الإكتظاظ، علما أن عدد القتلى وصل إلى أزيد من 637 قتيلا، حسب أحزاب المعارضة، في حين قدرت إحدى الجمعيات عددهم بما يفوق ألف قتيل، أما وزير الداخلية الراحل إدريس البصري، فحددها في 66 قتيلا فقط، نافيا أن تكون هناك وفاة بالرصاص الحي، ووصف الضحايا الذين سقطوا ب "شهداء كوميرا".وحاولت الحكومة تقليل حجم الانتفاضة، فصدر بلاغ للوزير الأول الراحل المعطي بوعبيد زعيم الاتحاد الدستوري، أعلن فيه المسؤولية الكاملة لأحزاب المعارضة ولقوى خارجة متآمرة، فأجابه الزعيم الراحل لحزب الاتحاد الاشتراكي، عبد الرحيم بوعبيد، أن الحكومة هي المسؤولة عن حوادث الدارالبيضاء.رد فعل السلطة على احتجاجات الشارع كان عنيفا، واستخدمت فرق كاملة من رجال التدخل السريع والدرك والقوات المساعدة، كما تم استقدام أفراد من القوات المسلحة عبر طائرات عسكرية وأخرى مدنية من المناطق الجنوبية، بموازاة ذلك استعملت الدبابات للترهيب النفسي وحلقت طائرات مروحية على علو منخفض، وعاشت المدينة أجواء حرب حقيقية تم خلالها إطلاق الذخيرة الحية على المتظاهرين، وسقط عدد من القتلى والجرحى واعتقل المئات، فيما ظلت عشرات الملفات لمجهولي المصير طي النسيان.تفاصيل كثيرة حول "حريق" البيضاء، لكنه حريق بطعم الدم والسخط والغضب في لحظة تاريخية أطلق عليها شعبيا اسم "سنوات الرصاص"، ورسميا "انتفاضة الخبز"... لكنها وشمت الذاكرة في فترة يكابد الذين عاشوها، الآن، بطي صفحتها نهائيا. خالد العطاوي

أحداث “كوميرا”… حريق الدارالبيضاء المهول

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

سعيد مصرور: حكمت بـ20 سنة بتهم واهية

البصري يطلق على ضحايا 1981 لقب "شهداء كوميرا"

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات