عبد الله الزويد: حياتي توقفت عند ظهيرة 20 يونيو 1981

قال إنه شاهد عدة أشكال لاحتضار 36 ضحية قضوا اختناقا الحياة بالنسبة إلى عبد الله الزويد توقفت عند الواحدة والنصف من يوم 20 يونيو 1981، تاريخ اعتقاله من حول مائدة الغداء مع والدته وزوجته الحامل آنذاك بطفله البكر. بعد 30 سنة، هل تعافت جراح عبد الله ؟ "لا"...يأتي الجواب سريعا على لسانه، قبل أن يضيف، "لست أسامح نفسي لأنني تضرعت إلى الله يومها بأن يبقيني حيا، وألا أموت كما مات كل الذين كانوا معي في الزنزانة، ندمت لأني طلبت الحياة يومها وصرعت الموت في ساحته، ندمت لأني لو كنت أعرف أني سأعيش هكذا حياة، لاستقبلته بالأحضان ولاخترته، على أن أعيش 30 سنة ميتا بطريقة أخرى، أرى الآن نفسي مجرد جثة تسير في الشارع، لا طعم للحياة كما عرفتها قبل 20 يونيو". هذا ملخص لحكاية رجل دبجت أحداث 1981 تفاصيل حياته التعيسة.الانخراط في الحياة من جديد بعد تجربة مريرة من الاعتقال، لم يكن مستحيلا لأن عبد الله يرفض ذلك، بل لأن الحياة رفضته على حد تعبيره، "بعد خروجي من السجن، حاولت أن أسلخ نفسي عن هذه التجربة وأعلنت المصالحة حتى وإن كانت كل الأحداث التي عشتها في هذه التجربة تتكرر أمامي كشريط مسجل، أقبلت على الحياة بنفس آخر، وقررت أن أنسى ما عشته، بل أن أتوهم أنه مجرد كابوس وقد استيقظت منه وأول عبارة نطقتها وأنا أدخل بيتي من جديد، أنا مستعد الآن لأعيش، لكن ذلك استحال علي، إذ كلما وضعت بيني وبين هذه التجربة خطا أحمر وتقدمت إلى الأمام مخلفا إياها ورائي، إلا وأفاجأ بها تسبقني وتعترض سبيلي". عاد عبد الله وعمره آنذاك 24 سنة إلى المعمل الذي كان يشتغل فيه قبل الأحداث باحثا عن فرصة أخرى للعمل، لكن الأبواب سدت في وجهه، فقرر البحث في أرض الله الواسعة عن فرصة وعمل آخر، لكن في كل مرة توصد في وجهه الأبواب، "حتى عندما يقبل أحدهم بتشغيلي، فإنه سرعان ما يتراجع عن ذلك، ما أن يستعلم عن سبب اعتقالي، ولا يقبل حتى الإنصات إلى روايتي لهذا الاعتقال، خاصة أنني مظلوم، ولا حاجة لي الآن لأزور الحقائق، مرت عليه سنوات طويلة، ولا نفع في درء الحقيقة مهما كانت".والحقيقة كما يرويها عبد الله الزويد، بدأت أولى خيوطها تنسج يوم السبت 20 يونيو 1981، "كنت في البيت أتناول وجبة الغداء مع والدتي وزوجتي فيما كان أبي خارج البيت، فجأة سمعنا طرقا قويا على الباب قبل أن يخلع بسرعة غريبة، ويتقدم منا عناصر قوات مساعدة يسبون ويلعنون، جروني ولم يشرحوا ما يجري، غير عابئين بتوسلات والدتي وزوجتي الحامل، وما أن أخرجوني من البيت حتى أدركت أن الأمر عام، فقد كان هناك هجوم على الحي برمته، اعتقالات واسعة من داخل البيوت، وحركة غريبة وفوضى، القوات المساعدة منتشرة، بعضهم في السطوح وبعضهم الآخر يجر المعتقلين وضمنهم أطفال، صراخ هنا وهناك، لم أفهم ما يجري حقيقة".اقتيد عبد الله الزويد إلى المقاطعة 46 بسيدي البرنوصي، "لم أكن وحدي، بل كانت هناك حركة اعتقالات واسعة، ولم يكن المكان متسعا لهذا العدد الكبير، زجوا بنا في غرفة لا تتجاوز مساحتها عشرة أمتار وعددنا يتجاوز الثمانين، لم يكن أحدنا يحرك قدميه إلا بمشقة الأنفس، كنا متلاصقين، في البداية شعرنا بارتفاع في الحرارة، وبدأ العرق يتصبب منا كما لو كنا في حمام، طرقنا الباب بقوة لأنه لم يعد بإمكاننا التحمل، وما هي إلا لحظات حتى تحولت الحرارة المرتفعة إلى اختناق، دون أن يكون بيننا اتفاق، بدأنا، كرد فعل طبيعي على مواجهة الموت اختناقا، ندفع الباب الحديدي، لكن طريقة تركيبه وانفتاحه إلى الداخل عوض الخارج جعل مهمة دفعه وخلعه مستحيلة، فبدأنا نصرخ ونستنجد لإنقاذنا، إلا أنهم لم يأبهوا بنا، حتى بدأت الأجساد تتساقط تباعا". البعض أصيب بحالة يأس والبعض الآخر واصل الضرب على الباب إلى أن سقط جثة هامدة، وآخرون شرعوا في عمليات إنقاذ مستحيلة، كما هي حال عبد الله الذي كان يحاول إنقاذ شخصين سقطا عند قدميه بصب العرق في فميهما، "تبللت الأقمصة عرقا، وبولا، ورغم ذلك فكرت أنه يجب أن أضع قطرات من هذا الخليط في أفواه الضحايا عسى ينقذهم ذلك، رغم علمي أن ما يحتاجونه هو الهواء وليس الماء".تحمل عبد الله مشاهد الاحتضارات المتوالية في حالة صدمة، لم يكن هناك وقت للتفكير، كنت أعرف أني سأموت أيضا، وهذا حال الجميع، بعضهم انخرط في بكاء حار وبعضهم بدأ يغني وآخرون يقرؤون القرآن، "والغريب فعلا أن كل واحد استشهد على طريقته الخاصة، أحدهم بدأ يدوس الجميع ويخترق بسرعة جنونية الحشد المزدحم، مواجها الموت، وحين اصطدم بي أمسك بخناقي وجحظت عيناه قبل أن يسقط ميتا، معتقل آخر بدأ يقرأ القرآن إلى أن زهقت روح، وآخر وهذه طريقة غريبة في الموت كان يغني إلى أن لفظ أنفاسه الأخيرة على هذا الإيقاع، فيما كان آخر يحدق في الجميع كأنه يودعهم إلى أن توقفت أنفاسه، المهم أن لكل طريقته في مواجهة الموت، فقد كنا نعلم جميعا أننا لسنا معتقلين بل محاكمين بالموت اختناقا، وأنهم ما وضعونا في هذه الغرفة إلا لهذا الغرض، هذه هي القناعة التي وصلنا إليها بعد مرور ساعات دون أن ينقذونا".مرت الساعات طوالا، وكانت الأجساد تتساقط تباعا، الواحد تلو الآخر، لتترك لأخرى فرصة النجاة، "لم يفتحوا الباب إلا حوالي الساعة العاشرة ليلا، أي بعد أن مرت حوالي تسع ساعات، كانت خلالها ست وثلاثون ضحية قد فارقت الحياة، والأدهى أنه لم تبد عليهم علامات الاندهاش ساعة فتحهم الباب، بل طلبوا من الناجين مساعدتهم على ترتيب الجثث". عوض أن يتلقى الناجون المساعدة الطبية، تلقوا التهديدات، "طلب منا بعد نقل الجثث، الاستلقاء في ممر ببناية مجاورة لم تكتمل بها الأشغال، وكانوا يحرسوننا بالسلاح، إلى أن وصلت شاحنة عسكرية نقلنا على متنها إلى ثكنة عين حرودة، التي لم تكن الأشغال قد انتهت بها هي الأخرى، ولم تكن بها مرافق كثيرة، لذلك طلبوا منا الجلوس وإحناء الرأس في ساحة كبيرة على الرمال، وكلما رفع أحدنا رأسه تعبا، يصوب العسكري فوهة السلاح إليه ويهدده بتصفيته، إذ كانوا كثرا ولا يفصل بينهم إلا بضعة سنتمترات إضافة إلى أنهم كانوا يهددون بكلابهم، وما حز في نفسي حينها هي وضعية الأطفال الذين اعتقلوا بدورهم".قضى المعتقلون في هذه الوضعية ثمانية أيام، "لا أعرف إن كان مات بعضنا جوعا أم لا، فقد كنت في حالة لا تسمح لي باستطلاع أحوال الآخرين، استلقيت، وطيلة هذه الأيام الثمانية لم أذق طعم النوم، رغم أنهم لم يمنعونا من ذلك، لكن كنت أنتظر ما سيأتي، فوجودنا في الخلاء وبهذه الطريقة غريب، أحيانا كنت أجزم أنها ساحة إعدام وأنه لن يمر وقت طويل حتى يمنحوا الجنود الإشارة لتصويب الرصاص نحو رؤوسنا".بعد ثمانية أيام نقل المعتقلون إلى الدائرة الأمنية المعاريف بالدار البيضاء، حيث كانت المحاضر معدة ولا ينقصها إلا بصمات الضحايا، "يسألوننا عن الاسم واسم الوالدين والعمل، ثم يطلبون من كل واحد البصم دون أن يعرف محتوى المحاضر ولا التهم الموجهة إليه، والأدهى من ذلك أني لم أعرف التهم الموجهة إلي إلا بعد أن تأسيس هيأة الإنصاف والمصالحة". سنة حبسا نافذا هي العقوبة التي قضاها عبد الله الزويد في السجن، وفي الأعمال الشاقة، "قد تبدو سنة مدة قصيرة بالنسبة إلى البعض، لكن الأعمال الشاقة التي كنا نقوم بها حولتها إلى عشر سنوات، وحقيقة تمنيت لو أنهم حكموا علي بالمؤبد، على أن يخرجوني من السجن الصغير ويسجنوني في سجن الحياة الكبير، حيث قيدت بالبطالة وكانت وثيقة سجلي العدلي بمثابة حكم آخر بالموت البطيء". استحال على عبد الله الحصول على عمل لإعالة طفليه، كما استحال عليه العيش دون أن تعترض طريقه مشاكل غير متوقعة، "حالتي ربما تختلف عن الآخرين، وذلك لأنه كان والدي يسانداني في كل محنة، إذ ظل والدي يعيلني منذ خروجي من السجن، كما أعال طفلي منذ ولادتهما إلى أن حازا الإجازة في القانون، وها هما عاطلين كوالدهما، فيما توفي الجد الذي كانت أجرة معاشه الهزيلة تطعم جميع أفراد العائلة باش ماعطا الله".عبد الله الزويد واحد من ضحايا 1981 الذين لم تمد لهم هيأة الإنصاف والمصالحة يد التصالح، "قيل لي إنك وضعت الملف في غير أجله، وها أنا أقول لهم: أنا مظلوم وخسرت حياتي بسبب تهمة باطلة، فهل يجب أن تشترطوا مصالحتكم معي بالأجل؟ التصالح من حيث معناه لا أجل له، وإذا أرادت الدولة أن تحصل على مغفرة المظلومين عليها أن تستمر في الضغط عليهم ليقبلوا التصالح معها، لا أن تشترط ذلك بأجل؟". ضحى زين الدين

عبد الله الزويد: حياتي توقفت عند ظهيرة 20 يونيو 1981

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الضحايا يرسمون خارطة "انتهاكات" المجلس الاستشاري

سعيد مصرور: حكمت بـ20 سنة بتهم واهية

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات