الرحالة الفرنسي دوتي يفكك الإسلام المغاربي القديم يشكل كتاب "الصلحاء.. مدونات عن الإسلام المغاربي خلال القرن التاسع عشر" للإثنوغرافي وعالم الاجتماع الفرنسي إدموند دوتي" (سنة 1905) واحدا من المصادر الفرنسية المهمة للتعرف على جوانب من طرق التدين المغربي، كما رآها ووصفها الرحالة والباحثون الأجانب، بصرف النظر عن مقاصدهم من تلك الزيارات والكتابات والتدوينات. في هذا الخاص تأخذكم "الصباح" إلى أجواء هذا الكتاب بالاعتماد على ترجمة الباحث المغربي محمد ناجي بن عمر الصادرة عن منشورات "إفريقيا الشرق". إعداد: عزيز المجدوب تشكل نقطة الانطلاق الأساسية بالنسبة إلى إدموند دوتي في مقاربته لموضوع "الصلحاء" وظاهرة زيارة الأولياء، فكرة مفادها أن غياب الوسيط بين الله والمؤمن، كان أهم باعث على ظهور التبرك بالأولياء والصالحين، إذ أن الناس الذين اعتنقوا الإسلام عن إيمان لم يستطيعوا التخلص من فكرة أهمية الوسيط في التقرب إلى الله زلفى، ولعلها السبب في تعزيز وتكريس مفهوم الشفاعة والتعلق به ما دام يشكل وساطة يمثلها النبي بين الناس وبين الله. ويشير الباحث والدكتور حسن الطالب، الذي تولى تقديم ترجمة الكتاب، إلى أنه رغم أن الإسلام حارب التأليه المتصل بالإنسان والأشخاص وأقر مفهوم الوحدانية الشامل، فإن التطور المعقد للإسلام وتماهي شخصية الرسول مع ما كان يمارسه الأولياء من زهد وتقشف وانصراف كلي للعبادة والتعبد، دفع الناس إلى تقديس الأولياء وجعلهم في رتبة أسمى وأعلى من بقية البشر. ويحدد الطالب مجموعة من الأسباب والعوامل تسير في اتجاه تعزيز هذا الطرح، منها الصورة التي ترسخت، جيلا بعد جيل، عند الناس بحكم التقليد وتداول ما نُسب إليهم من مناقب وكرامات خارقة اعتقد الناس بصحتها، وثانيا بسبب التوظيف السياسي والإيديولوجي لعدد من الدول لدور الصلحاء والأولياء في تثبيت شرعية الدولة وتكريسها وكذا الاستعانة بهم عند الأزمات لجلب الاستقرار ومحاربة المتربصين بها، سواء كانوا من الداخل أو تعلق الأمر بالآخر الأجنبي، المستعمر أو الغريب. أنواع الصلحاء يتعرض دوتي في كتابه إلى إشكالية "الصلحاء" محاولا الإحاطة بدورها الديني والسياسي والثقافي، متتبعا جذورها وامتداداتها في العديد من الممارسات الراهنة، والتوقف عند أهم الملامح التي تكوّن فيها ومن خلالها المتخيل الجمعي المغربي، خاصة في مجالي الدين والتصوف. ويرى دوتي أن ظاهرة الصلحاء والتبرك تتجاوز أنها مجرد طقس إلى أنها ظاهرة مجتمعية تستحق أن تدرس بمنهجية جديدة قادرة على استكناه البنيات العميقة الدينية التي صنعت أهم الأحداث السياسية، بل وفسحت المجال لقيام دول على أساس ديني محض (المرابطون على سبيل المثال). كما تحدث دوتي عن موقع الصلحاء في الإسلام المغاربي مبرزا أهم خصائصه، لينتقل إلى توزيعهم الجغرافي، متتبعا في الوقت نفسه، دلالة كلمة "المربوط" وكيف استقرت دلالة كلمة marabout في الممارسة اليومية من خلال طقوس الزيارة والتبرك. وتتبع الإثنوغرافي الفرنسي التأثير المحلي الذي كان للصلحاء في حياة الناس، ثم توقف عند المدلول السياسي للكلمة من خلال بحث أصولها وعلاقتها بدولة المرابطين وحركتهم الإصلاحية، كما بحث في مدلول كلمات "مولاي" و"لفقيه" ولالّا" و"الشريف" وعلاقتها بالصلاح، وتحدث عن علامات الصلاح وخصائصه، وعرض قبائل الصلحاء وسادتها مميزا بين صلحاء المدن وصلحاء القرى وعرج على عبد السلام بن مشيش باعتباره أحد أكبر الصلحاء الذين عرفهم تاريخ المغرب ثم على الصلحاء المزورين أو المدعين للنسب الشريف، وصلحاء وقفوا إلى جانب المستعمر وطالبوه بالتدخل، وآخرين ادعوا صحابة الرسول. وميز دوتي بين أنواع الصلحاء، بين من ازدادوا صلحاء بالفطرة، ومنهم من كان صالحا بالأعمال، وآخرون عرفوا بالزهد والتقشف، وآخرون اشتهروا بأنهم صلحاء حمقى. جغرافيا الصلحاء يقول دوتي "استمرت زيارة الصلحاء طيلة العصر الوسيط، ولدينا على ذلك عدة شهادات عند المؤرخين، خاصة لدى أصحاب التراجم، ومع ذلك يجب الاعتراف أن كتابة تاريخ زيارة الصلحاء في المغرب الكبير، ما قبل القرن السادس عشر، ما زالت أمرا ينتظر الإنجاز، فمادة الباحث الخام، موجودة بيد أن البحث فيها شاق وصعب". ويضيف "لقد نشأت زيارة الأولياء في القرن السادس عشر، بطرق لافتة للنظر، على حين غرة، بدافع ديني لم يستطع أي من المؤرخين معرفة طبيعته وتكونه. حيث انطلق الصلحاء، كما يزعم بعضهم، من الساقية الحمراء، أي من عمق المغرب الأقصى لينتشروا في كل أنحاء شمال إفريقيا، وقد شكلوا مجموعة من الصلحاء وأسسوا أسرا بل وقبائل مزارية مشابهة للقبيلة الكبيرة لأولاد سيدي الشيخ المتحدرة من الشرق، التي تعود أصولها إلى جدهم المزداد أواسط القرن السادس عشر، والممتدين ليس فقط في الجنوب الجزائري والمغربي، بل حتى تخوم التل الوهراني". صلحاء مسلمون يقدسهم اليهود يقول إدموند دوتي "قد يحدث أن يكون بعض الصلحاء من أصل مسلم يحملون أسماء يهودية، يقدسهم اليهود والمسلمون. وهكذا تسمع عند يهود تلمسان (الجزائر) الناس يدعمون فكرة أن سيدي يعقوب صاحب القبر المشهور المدفون عند مدخل المدينة يهودي. ويزور اليهود هذا الصالح ويقدمون له القرابين مثل المسلمين ويلبسون في أغلب الأوقات مثلهم". ويضيف "وفي تونس هناك ولي يزوره اليهود والمسلمون، ويحكي الباحث"شينيي" أنه يوجد ولي قرب فاس بجبل يسمى "أصقرو" يشترك الأمازيغ واليهود في تقديسه وأنه مدفون في هذه الجهة من إفريقيا منذ القديم قبل الإسلام، وأن النساء الأمازيغيات واليهوديات الراغبات في الإنجاب يصعدن على أرجلهن إلى زيارته في أعلى الجبل، وهذا ما يحدث بالضبط عند سيدي يعقوب بتلمسان. وسيظهر من جهة أخرى أن المغاربة في فاس يحيون ذكرى "سول أشوال" وهو أحد يهود طنجة توفي أثناء حملات التعذيب العنيفة من أجل ارتداده". صالحات داعرات يقول إدموند دوتي "إذا كانت زيارة الوليات أمرا ليس خاصا بالمغرب، فلا يمكننا تجاهل أنها عرفت انتشارا هنا أكثر من أي مكان آخر ويمكن تفسير الأمر بسهولة إذا عرفنا أن الأمازيغ حسب ما أورده الباحث بروكوب كانت لهم عرافة يقدرونها كثيرا، ونساء مثل الكاهنة الشهيرة ومثل حبيسة بني يملول (الأوراس) ومثل زينب النفزاوية، زوجة يوسف بن تاشفين ومثل "شمسي" التي كانت زعيمة القبيلة في القرن السادس عشر في قلب لقبايل حيث استمر وجود ظاهرة "الرسولات" منذ العصر القديم والوسيط ولا تفتأ أن تنتشر هذه الظاهرة عبر العصور ما دام الإسلام يشجعها، وهذا ما حصل اليوم (يقصد بداية القرن العشرين) حيث كثر وجود الصالحات على امتداد السواحل". ومن الظواهر الغريبة التي يشير لها دوتي وجود صالحات يتعاطين الدعارة، ويورد حالة "لالة تافولت" التي بعد أن عاشت حياة زاهدة، تبدلت فجأة إلى تهييج مرضاها أو زوارها، وكانت تجلس على جانب كوخها تغزل من غير صوف، مغنية أغنية غريبة، وقد أعجب جمالها المارة إلى درجة الاستفزاز. ويتحدث دوتي عن ضريح صالحة غير بعيد عن آسفي، معروفة بوفائها ونذر نفسها للمارة، ويوجد على الطريق بين مكناس وفاس قبر لالة عائشة تستضيف الضيوف في الظروف نفسها، وكذلك الأمر بالنسبة إلى فتاة "جالبة للفرح" تسمى "البهجة" ألحقها أحد الصلحاء المرضيين بطريق الولاية. وتعرف قبيلة أولاد النايل وهي قبيلة صلحاء متحدرين من ولي شهير قادم من سوس في نهاية القرن السادس عشر بمغادرة فتياتها بمجرد البلوغ منازل أهاليهن والذهاب إلى المدينة لبيع جمالهن من أجل الزواج. ويورد دوتي نموذجا آخر من أولاد عبدي بالأوراس (الجزائر) عن ظاهرة نساء يتعاطين الدعارة بين أزواجهن، ولا يغادرن بيوت آبائهن الذين لا يجدون أي مانع لتصرفاتهن، ولما حاولت السلطة الإدارية تقنين الدعارة عارضها الناس هناك بدعوى أن هذا التصرف يؤثر على غزارة المنتوجات فيبدو أن هناك بركة مرتبطة بالدعارة. دوتي... المعرفة للسيطرة يعتبر إدموند دوتي من أبرز الباحثين الفرنسيين الذين اهتموا بالمغرب، وكانت كتاباته مرجعا اعتمده حكام باريس لاحتلال المغرب. وقبل أن تفرض فرنسا الحماية على المغرب في 1912، كانت المعرفة بوابة للتعرف على المغرب واستكشافه. هكذا، اعتكف عدد من الباحثين الفرنسيين على تمحيص دراسة وبحث القضايا الاجتماعية والثقافية للمغرب، وقد عرفت هذه المدرسة بـ"مدرسة الجزائر". ويبقى السوسيولوجي الفرنسي، إيدموند دوتي، واحدا من أبرز هؤلاء الكتاب الذين عكفوا على التعريف بالمغرب، منذ أن أرسل إليه لأول مرة، ابتداء من 1900، لدراسة المناطق التي لم تتصل بعد بالحداثة الأوربية تمهيدا لفتحها علميا قبل فتحها عسكريا. يتحدر دوتي من مدينة إيفرو الفرنسية. وفي 1867، درس علم المتاحف والعلوم الطبيعية والآداب، قبل أن يتم إلحاقه بالحكومة العامة في يناير من 1892 برتبة إداري مساعد في منطقة الأوراس الجزائرية، ثم انتقل إلى وهران بعد سنتين كمحرر، قبل أن يحصل على دبلوم الآداب الذي سيؤهله ليصبح أستاذا للآداب بمدرسة تلمسان انطلاقا من 1898. وهكذا، سيجري تكليفه، بين 1900 و1901، بأول مهمة في المغرب لاستكشاف تلك المناطق التي ما تزال منعزلة عن حداثة الأوربيين رغبة في الرفع من منسوب التأثير الفرنسي داخل المغرب تمهيدا للدخول إليه لاحقا. وعمل دوتي على إعداد تقرير عن هذه الزيارات الاستطلاعية، وتوالت بعدها زياراته المتكررة إلى المغرب الذي سيصبح مجال اشتغاله طيلة سنوات عديدة. بدأ دوتي النشر عن المغرب في مجلة "تعليمات كولونيالية"، ثم قام بنشر كتابه الشهير "مراكش"، سنة 1905، وهو كتاب يحكي فيه مسار رحلة قطعها متنقلا من الدار البيضاء إلى أبواب مراكش، مرورا بقبائل الشاوية ودكالة والرحامنة، وهي رحلة متقطعة في الزمان والمكان، وقد جمع المؤلف في هذا الكتاب خلاصة رحلاته الثلاث إلى هذه القبائل.