محكيات أحمد الطالبي : زنـــزانــة الـبــركــاويـــة

من جحيم أوفقير إلى زنازين البرواكية بالجزائر كشقيقتها عاهرة الحي العسكري. في نصاعة ضوئها وشدة إشعاعه تنعدم الرؤيا. ضيق الأولى يساعد على التركيز وتجميع الأفكار تحضيرا للمواجهة، ما يفسح المجال للخروج من راهنية الوقت إلى راهنية الذات، ويختصر التاريخ في محطات. في قبوها تدب الحياة وتنفتح على الماضي والحاضر والمستقبل، تنغمس الذات في تأمل كينونة الوجود وتفاصيل الحياة. بزنزانة البركاوية، يتوقف الزمن، لا ماضي ولا مستقبل، انه العدم، في الزنزانة الوأد، المستقبل مبني للمجهول.أي مصير ...اليأس يتربص بكل الأحلام الجميلة.سراب في صحراء هبوط إلى آخر الجحيم مسافر فيما يشبه مقبرة طقس للقتل فما جدوى الحياة؟وهل سيضعون شاهدا على قبري المهجور يكون خاليا من الشتائم؟في الظلام المهجور، كيف لجسدك المنهك الساكن أن لا يسلم الروح، من أين يأتيك الصمود؟وفي غربة الاغتراب، من سيحمل الخبر إلى بيت طويته في شغاف القلب، ومع ذلك لن تسمع أجراسه الأخيرة.يبقى واردا شيئ واحد، باعتبار السوابق ...أن تطقطق عظامي في مقبرة ما بالمغرب، قد أحمل في كيس حيا أو ميتا لأسلم للمغرب ..إمكانية كانت واردة في أي لحظة.فليعش الرعب .. وفي أكبر سجن من سجون الثورة.استكمالا في وصف الزنزانة البركاوية الذي انقطع تحت إكراه المقارنة نقول ناصعة البياض تم تجييرها بعناية فائقة، وسقف عال متعال بنخوة بارزة. المرحاض يحتفظ بوقاره. في زاويته المحددة .. نافذتان كبيرتان كسر خشبهما قبل حلولنا ..الثلج يرخي كلا كله على النافذتين ليزيد من قساوة البرد."المضطربة» الخيطية امتلأت بحلفة من النوع الخشن تثير الألم في جراح لم تندمل بعد ... وفي كل مناحي الجسم، لا تكاد تتكئ على موضع من أطرافك إلا غيرته، شفقة بجسد يترنح من الألم من أجل النوم، أو لحظة استرخاء كحد أدنى ..أو أقل من الحد الأدنى في أن تتحسس موتك البشع في انغلاق تام عن العالم الخارجي ..مهزوم جائع، مرعب، خائف.فماذا يخافون هم ليبقوه معزولا قرابة شهر بالمكان نفسه، هل يخافون مأزوما مهجورا، يسكنه معناه الذاتي بفضول وتوجس، يتأمل ويتألم انكساراته، هل يخافون مأزوما جائعا محتفظا بتبوله، انغلق عليه أفق المصير، من أجل استمرار دورة الزمن يدخل في منولوجه الداخلي.العزلة تعذيب معنوي بامتياز، أكثر ما كانت تمليه مجريات التحقيق ، في هده الحالة ما كان علينا الا مواجهة كل الليالي، ومرور الأيام بأعصاب هادئة، نتحسس سكناتنا وندفئها بحركات شبه رياضية ، تعيد لك بعض التماسك، و لتكسير جدار العزلة و الاختناق، تنسال الذاكرة عبر موجات تستقرئ الماضي بجميع تفاصيل. وتغمرني المتعة حين أعثر في ثنايا الذاكرة على تفاصيل حيوات مختلفة بما فيها طفولتي بدقائقها وسياقاتها، كم كانت فرصة نادرة لم تتوفر إلا في هذه الزنزانة.ما كان يربطني بالعالم الخارجي للزنزانة ثقب يتسع لدخول أصبعين أو ثلاثة. ولإطلالة عين واحدة .. ولن تكون الا عين الحارس. ستفتح الثقب إمكانية هامة بناء على تطورات حدثت بالتدريج وعبر مراحل.بعدها سمح لعشرات المعتقلين الإسلاميين بالخروج لاستراحة اليومية، حرص الشيخ كمال على إطلالة من خلال كل ثقب على سجين ... وامداده ببعض النصائح الدينية .. وإلقاء بعض الأسئلة الهامة عليه.بدوري، سألني مرات، ونصحني بالإكثار من الصلاة وقراءة ما تيسر من الآيات. ثم طور علاقته معي بمد أصبعه ليلتقي بأصبعي رمزا للتحية.وبمقدار ما يرتاح لعمله .. بمقدار ما أنزعج لتلطفه .. بعد أيام سيتحول الثقب الصغير إلى منفذ حقيقي لتموجات الخطاب الديني ..العلاقة مع الثقب لم تعد تحتمل.سأحاول مع إدارة ظهري لها..فالنافدة...ومناظر الثلج في المرتفعات الجبلية أكثر إثارة وشاعرية، أصبحت تثير ولعي، تتطور الأمور وينحسر تدريجيا دور الثقب .. ويتحدد وقت العلاقة مع النافذة، وتمارس العلاقة الخارجية في أروع شكل لها..ذات صباح، سيفتح الباب فجأة حوالي الساعة العاشرة، إذ لا يفتح عادة في هذا الوقت، رمي لي بقطعة ضخمة نسبيا، ضرب بها في اتجاه الحائط بعنف، و غلق الباب فجأة ...انزعجت انزعاجا حقيقيا، ما الذي حدث..؟ اتجهت للحائط .. وجدت أمامي قطعة كبرى «لصابون بلدي» لم أتمالك نفسي، من أعماق الروح عانقتها ضممتها إلى صدري، قبلتها.لم أهتم بوضع السؤال في الحين، لماذا يرمى بها هكذا؟بل اتجهت إلى المرحاض على التو، فتحت الصنبور، لم أعبأ بالجو القاسي و لماء في أشد برودة تركته يغمر جسدي، اغتسلت مرات ومرات ..تساقطت مواد غريبة ..دسمة من جسمي، بعضها تحت بعض، ورغم قساوة البرد أحسست براحة غريبة نادرة .. تذكرت أن أجسادنا لم تر الماء مند زنزانة المعتقل السري لبومعراف.. حين كان الاغتسال يعد افتتاحية لشهية التعذيب ..حوالي الساعة الثانية عشرة ستحدث مفاجأة كالتالي:على إيقاع هدير أفواج من الناس يفتح باب زنزانتي، واتجه بي صوب إحدى الصفوف النظامية المتراصة، فوجا بعد فوج.ما أروع النظام في هذه اللحظات، سنحس بآدميتنا، سنغتسل من نتانتنا، من إذلالنا، نغتسل من تجربة.كانت أسعد لحظة في أتعس مكان.خضت تجربة التعري بالمفرد. شكلت عودة الذات للذات، بعد تجربة عنيدة، التعري أمام لحظة التفقد الحقيقي لتفاصيل الجسم ..مراجعته، غربلته، معاينته، ما اعتراه من وشم السياط..كان كثيرا وفي مواقع مختلفة، ظاهرة ومستترة، قبيحة تلعن موت ضمير، لاطفت أطرافي، لاطفتها كي تستقيم ..كانت فرصة لعودة الوعي، والالتقاء الإنسان بأخيه الإنسان. في بهو الحمام، يعانقني صديق أمضينا معه أياما وليالي في إقامة الفقيه البصري بالأبيار (العاصمة)، اسمه علي يحيى عبد النور، وزير البريد في حكومة الرئيس أحمد بن بلا، ورئيس الاتحاد العام للشغالين الجزائريين سابقا، وعضو مجلس الثورة لفترة بعد انقلاب الرئيس هواري بومدين.زعيم قبائلي بارز يترأس جمعية حقوق الإنسان بالجزائر، فقد كانت هناك في تلك الفترة جمعيتان واحدة مساندة من المعارضة وذات مصداقية، والثانية أسسن بمبادرة الرئيس الشاذلي بن جديد.سيعانقني بعدها تباعا العديد من المعتقلين، ويتقدم لي أحدهم على أساس أنه يعرفني بواسطة الفقيه البصري والرئيس الأسبق أحمد بن بلا والحاج الحسين كرمونت.ستتغير الأحوال وظروف الضيافة. سنخرج في فترات. كنا نخلط بأفواج الإسلامين الموجودين هناك.. بعض منهم في عزلة عنا، سيتقرب مني الكثيرون، سيتعاطفون معي، غير هذا التعاطف سيصل حد الانزعاج.الكومندار بوراس يرغب في اقتسام زنزانتي ....الإسلاميون يرغبون في محاورتي واستقطابي ....تقام الصلوات الخمس في أوقاتها ويطلب مني الالتحاق بصلاة الجماعة. أعتذر، وأمام الإلحاح المحرج المزعج ..أوضحت لهم أنني أصلي في زنزانتي، والصلاة حسب التعريف الفقهي هي مناجاة العبد لربه. إعداد: يوسف الساكت

محكيات أحمد الطالبي : زنـــزانــة الـبــركــاويـــة

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جرائم الأصول : قتل والده واعتدى على أمه

نفائس فاس العتيقة : فشل العلماء في حل أزمة فاس

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات