قراءة في تقرير النموذج التنموي الجديد

تشخيص دقيق وموضوعي يعكس روحا علمية ومنظورا عقلانيا وواقعية في الطرح عبد الكريم بلحاج* بالنظر إلى ما يفيد به تقرير اللجنة الخاصة بالنموذج التنموي حول حالة الوضع الحالي والخلاصات والاستنتاجات التي انتهى إليها، وكما أجمعت على ذلك مختلف القراءات التي استقبلته، يمكن القول إن مهمة اللجنة توفقت بامتياز في "رسم ملامح نموذج تنموي متجدد وفق مقاربة تشاركية وشاملة"، من خلال قيامها ب" تشخيص دقيق وموضوعي" يعكس روحا علمية ومنظورا عقلانيا تطبعهما الواقعية في الطرح وأفق الإنجاز. إنه تقرير منسجم في ما يعرضه كأسس ومبادئ ومقومات لاعتماد نموذج تنموي مجدد. وهو التشخيص الذي وقف على إشكالية الثقة كعامل نفسي مؤثر تتقاطع مظاهره في مختلف أشكال الانخراط المجتمعي (مواطنون، فاعلون، مؤسسات..) في صيرورة التنمية. لقد جاء تسجيل وقع هذه الإشكالية من حيث أنها تلخص الحالة النفسية والذهنية التي اكتسحت مجالات حياة الناس، والتي تتمثل «بالإضافة إلى أزمة الثقة» في «الشعور بعدم الرضا وخيبة الأمل والقلق الذي يغذي نوعا من الاستياء" (ص21). طبعا، إن تقدير هذه الحالة من قبل اللجنة لم يصل إلى حد وصفها بالسوداوية أو بنوع من العصاب الاجتماعي، جازمة على أنها "لا تفضي إلى اليأس"، وقد تم وضع الأصبع على "إشكالية التمثلات» التي تفيد بالمعاني النفسية والذهنية للحالة السائدة في المجتمع، ومن ثم فالاعتراف بوجود خلل يستدعي التغيير بالإحالة على ذهنية المجتمع، مما يشكل إشارة مهمة في مشروع اللجنة. تشخيص لمواطن الخلل إذن، فصياغة النموذج التنموي الجديد لم تنحصر في جرد الأفكار والتحاليل والتوصيات أو الغوص في التعليل والتنظير والمعالجة، بل في تشخيص موضوعي لمواطن الخلل والدعوة إلى التعاطي معها بكيفية موضوعية وممنهجة. وقد تم التركيز على أهمية الانكباب على عامل الذهنية القائمة في المجتمع، باعتباره محور ورش التنمية. كما أن التنمية وأفق التغيير لإحقاقها يبتدئ من إحداث تغيير في تمثلات المجتمع، والذي يتطلب مصاحبة علمية للتعبئة العامة من أجل الإنجاز والتنفيذ. ففي مقاربة «مغرب اليوم وعالم الغد وتشخيص للوضعية الراهنة»، يسجل التقرير مجموع «المعيقات والكوابح التي تقف في وجه التنمية» (ص28- 32)، وذلك بأنها "تغذيها، في مجملها، تمثلات سائدة وكابحة تصعب معها قيادة التغيير وتسهم بذلك في الإبقاء على الوضع القائم"، وهي التمثلات التي يحددها بأنها "جماعية" في الصيغة العربية للتقرير (ص33) و»ثقافية» في الصيغة الفرنسية (ص39). وإذن، وفق ما يبدو أن المفهوم واحد، لكن تحديده انبنى على تعبيرين، مما يفيد بتفاوت في المعنى والدلالة وليست مجرد مسألة ترجمة أو بمثابة تفصيل لغوي شكلي، بقدر ما أنها تحيل على مضمون لمفهوم مسه غموض والتباس. طبعا فالموضوع لا يتوقف فقط عند تفاوت في التعبير، بل بالأساس على المرجعية النظرية التي يحيل عليها المفهوم، أو على الأقل في ما ذهب إليه التقرير من معنى باستخدامه للإحاطة بالحالة الذهنية في المجتمع. سوسيولوجيا دوركايم بالنسبة إلى التمثلات الجماعية، كما وردت في التقرير، فمرجعيتها المعرفية هي سوسيولوجيا دوركايم (1898) في حدود استخدامه مصطلحا وليس مفهوما، والتي يقرن بينها وبين التمثلات الفردية على أساس ما يجمع بينها من أفكار وصور ورموز لدى الأفراد والجماعات، وبالتالي فالتمثلات الجماعية هي بمثابة حبكة الحياة الاجتماعية. وأما التمثلات الثقافية، بدورها، مصطلحا وليس مفهوما، فمرجعيتها المعرفية هي أنثروبولوجيا كل من لوسيان ليفي بريل (1922) وليفي ستراوس (1962)، والتي تفيد بفكر طبيعي يميز بين خصائصه لدى المجتمعات المتحضرة والبدائية. وإذن، فالمصطلحان غير مترادفين، إذ أن مرجعيتهما ومجالات استخدامهما متباينة، مما يثير التساؤل في ما إذا كانت سهوة في الترجمة أو التعبير؟ أو أن هذا مظهر غير ذي جدوى مادام الهدف الأساسي يتجلى في تسطير أهمية ودور التمثلات في النموذج التنموي وفق ما أفاد به التشخيص. التمثلات الاجتماعية وتغيير الذهنيات إن الغاية من هذه الإطلالة ليست أكاديمية ولا بيداغوجية أو تدريسية حتى تسعى إلى مناقشة أو تأطير نظري لمفهوم التمثلات، بقدر ما تتوخى استقراء الخلفية الفكرية التي استند إليها استخدام المفهوم وإبداء بعض الملاحظات التي تتعلق بالموضع المعرفي الذي يحتضنه علما ومنظورا ومقاربة. طبعا إن هذا الاستخدام، كما يتبين من نص التقرير، سيما على مستوى الجزء الذي ورد فيه، لم يكن عشوائيا ولا مجرد تعبير لغوي، بما له وما عليه، يستجيب لضرورة الصياغة والتحرير والكتابة، ولا حتى في حدود اعتباره مفردة أو مصطلحا، بل مفهوم مقصود ومستهدف بالتغيير في إطار النموذج التنموي المنشود من خلال «تغيير للذهنيات» (ص33). وهنا مربط الفرس في ما تعلق بالمفهوم، للتذكير بأنه كان من الأجدى استخدام عبارة "التمثلات الاجتماعية» مفهوما متعارفا عليه في العلوم الإنسانية إلى الحد الذي تفيد به "عقلية" أو "ذهنية" المجتمع وليس فقط الجماعة. نعم إنه مفهوم التمثلات الاجتماعية كما جاء تأطيره العلمي والنظري في إطار علم النفس الاجتماعي على الخصوص، وهو العلم الذي ينتمي إلى حقل علم النفس لا إلى علم الاجتماع كما يزعم البعض قولا وخطبا لا علما وأجرأة. إدراك اجتماعي للواقع وقد أخذ المفهوم بهذه الصيغة والاستخدام المعرفي صبغة إجرائية منتقلا إلى منحى عملي واسع في سياق التحولات واحتواء الظواهر التي تحل بالمجتمع المعاصر (وتجارب المجتمعات الغربية تبقى ناطقة بهذا التوجه). فهو مفهوم يشكل أحد أهم السيرورات التي تشغل البحث في مجال علم النفس الاجتماعي، بل إن التمثلات الاجتماعية منذ الأعمال الرائدة والتأسيسية لسيرج موسكوفيسي (منذ سنة1961) صارت تشكل ميدانا معرفيا ونظريا اكتسح هذا المجال العلمي إن لم تكن تشغل الحيز الكبير فيه بحثا ومكاشفة (غزارة الأعمال والإنتاجات العلمية)، على اعتبار أنها، كسيرورة نفسية اجتماعية معرفية، تعكس الذهنية أو المشترك الذهني السائد في المجتمع. وفي هذا الإطار العلمي الذي يشكل موطنا معرفيا متميزا للمفهوم، تعتبر التمثلات الاجتماعية بمثابة شكل للمعرفة العامية العادية، أي تلك المعارف وأنماط الإدراك والتفكير القائمة والمشتركة حول الواقع أو حول موضوع يتقاسمه أفراد المجتمع، أي أنها تكون مخصصة لتنظيم التصرفات وتوجيه التواصل داخل السياق الاجتماعي. بهذا المعنى، ومن حيث بناء الواقع وإعادة الإنتاج، فالتمثل الاجتماعي يبدو بمثابة إدراك اجتماعي للواقع .وبالتالي، فمن مظاهر التمثلات الاجتماعية أنها عوالم من «الآراء والمعتقدات" خاصة بحضارة معينة، وبطبقة أو بجماعة، وتتعلق بموضوعات البيئة المجتمعية، وهذه المعاني نستشفها مما عبر عنه التقرير بخصوص "الذهنيات» حتى تُستهدف بالتغيير. الدعوة إلى إصلاح شامل اليوم، لا محالة من تسجيل هذا التأكيد الذي سطره التقرير بأن قيادة التغيير والنمو رهينة بإحداث التغيير على مستوى التمثلات الاجتماعية. وهي خطوة فكرية عميقة الدلالة والأفق، حيث لم يتم إهمال ممارسات الأفراد في ظل صيرورة النمو، والتي تنتج عن "معيقات وكوابح»، والحال أنه لم يتم إلباس مثل هذا الواقع بتعابير مألوفة في التقارير والمشاريع والمخططات من قبيل "السلوكات» و"النفسية" و"الأخلاق" و"التربية"، والتي تبقى فضفاضة ولا ترقى إلى مستوى يجعلها مفاهيم إجرائية لإحداث تغيير يذكر أو خدمة للتنمية. فقد ذهب التشخيص مباشرة إلى آلية ذهنية أساسية تتضمن معاني هذه التعابير، حيث أكد على مواجهة المظاهر الذهنية المعيقة والكابحة" من خلال الدعوة إلى "إصلاح شامل لبرامج التعليم والعمل الثقافي والنقاش والتحسيس»، بل ذهب إلى التنصيص على "ضرورة إدراج إشكالية التمثلات، بشكل ممنهج، أثناء إعداد وتنفيذ السياسات العمومية". وحتى يتحقق "الشكل الممنهج» وفق هذا الطموح، نشير إلى أهمية الارتكاز على موطن المفهوم، لأنه بقدر ما يتم اعتماد الوضوح في استخدام المفهوم من خلال أطره المرجعية وأهلية أهاليه العلمية، بقدر ما تيسر تفكيك الإشكالية منهجيا وإجرائيا. منطق الأهلية في البحث ونعيد التأكيد أن موطن مفهوم التمثلات الاجتماعية هو علم النفس الاجتماعي، كما يشهد على ذلك واقع تداوله في السياقات العلمية والجامعية وواقع الاشتغال به بحثا وتكوينا وتأليفا. ولا يتوقف الأمر على التذكير بالمجال العلمي أو الإحالة على مرجعياته، ولكن أساسا بالرجوع إلى أهله وفق منطق الأهلية في البحث والتدخل للإسهام الفعلي، مادام أن الكل يقر اليوم بزمن الكفايات، وشروط الانتقال النمائي تفترضها منظورا وإسهاما عمليا. وللإشارة، فإن التمثلات لا تغطي مجموع القضايا والإشكالات التي تعيق التنمية من حيث أنها تعكس حالات الإحباط والقلق وأزمة الثقة بكيفية شمولية، والتي تقتضي التعاطي معها لإحقاق التغيير في أفق تنموي، ولكن يتطلب الحال فرزها باعتبارها آلية ذهنية في تشخيص وفحص الموضوعات التي تشكل محورا لمختلف القطاعات التي يكون للمجتمع (أفراد وجماعات) تفاعل مباشر معها. وطبعا فاستهداف التمثلات الاجتماعية بالتغيير يشكل مدخلا مهما لاحتواء عوامل القلق والإحباط واستعادة الثقة واستتباب شروطها المطمئنة. وما الحملة الإعلامية والمواكبة التواصلية التي رافقت نشر التقرير إلا خطوة مهمة لخدمة هذه الغاية. "العامل البشري" معادلة حتمية كانت هذه إطلالة على مضامين التقرير من خلال ما أوحت به بعض الإشارات التي التقطناها حول البعد الذهني في التنمية، وذلك كما تم التشخيص لحالها وواقعها من قبل اللجنة، مع ملاحظة أن هذا البعد لم يتم التذكير به في الملخص وباللغتين، اللهم في إشارة عابرة تذكر بما "يستدعي تغييرا عميقا للذهنيات» ضمن "الخيارات الإستراتيجية والرهانات المستقبلية" (ص9). وتبقى ملاحظة أخيرة، بالنظر إلى الوثائق المرفقة بتقرير اللجنة، تتمثل في أن قضايا الذهنية أو العقلية على ما يبدو، لم تكن مبرمجة أو مخططا للتعاطي معها محورا ضمن "مجموع المذكرات الموضوعاتية والرهانات والمشاريع المقترحة"، أو في نطاق الجلسات والمساهمات التي اعتمدتها منهجية في اشتغالها، ولكن المفيد هو في استنتاج اللجنة، سيما من خلال التواصل والإنصات والاستماع للخبراء والفاعلين والمواطنين، للدور الذي يكتسبه البعد النفسي في العملية التنموية. كما أن احتمال أن لسياق الجائحة بعض الإيحاء من حيث الالتفات إلى الأحوال الذهنية والنفسية في اعتبارها معطيات أساسية بالنسبة إلى التشخيص والمعالجة والبحث عن الحلول للأزمات المجتمعية. ومن الواضح، أن تحقيق تقدم يخدم الإنسان أولا وأخيرا عبر أوراش التنمية، لم يعد يتوقف على تحديد أولويات ووضع برامج وقوانين ومساطر وإجراءات، بل بإشراك هذا الإنسان مفكرا ومخططا وفاعلا ومنتجا ومستهلكا، بحكم أن «العامل البشري» يشكل معادلة حتمية بالفعل والقوة. * أستاذ باحث في علم النفس الاجتماعي (جامعة محمد الخامس، الرباط)

قراءة في تقرير النموذج التنموي الجديد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

اعتقال مروجي مخدرات بالعيون

بوسيل تتذكر والدها بـ"كوفر"

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات