حديث الصباح: مهرجان موازين وقيم التسامح

ظواهر العنف التي تصاحب بعض المهرجانات تعبير عن تعثر مسار التنشئة الديمقراطية لا أفهم كيف يكون الفن رسالة تسامح وتعايش، ويخرج عشرات الشباب من فضاء مهرجان موازين يحملون معهم السيوف ويروعون السكان ويستهدفون أمن الناس وممتلكاتهم. بالتأكيد، لا أحد يمكن أن يزعم أن التعبيرات الفنية التي خرجت من منصة النهضة أو السويسي بالرباط هي التي تسببت بشكل مباشر في شيوع هذه الظواهر العنفية، لكن في الوقت ذاته، لا يمكن أن يزعم أحد أيضا أن هذه الألوان الموسيقية المتعددة استطاعت أن تهذب نوازع هؤلاء الشباب وتحبس جنوحهم وتمنعهم من التحول إلى قطاع طرق. هذه مفارقة كبيرة، تحتاج منا أن نعيد النظر في كثير من المسلمات التي تسوق بقصد التبرير الإيديولوجي، كما تدفعنا إلى إعادة التفكير لصياغة مفاهيم أخرى علمية يمكن أن نرتكن إليها ونجعلها قواسم مشتركة في النقاش العمومي. فأي فن يمكن أن يقود إلى التعايش والتسامح؟ وفي ظل أي شروط؟ وهل الفن هو الذي يؤدي إلى هذه الأدوار أم البيئة الديمقراطية التي تفرزه تجعله داعما لهذه الثقافة معززا لها؟ هناك حاجة إلى أن نؤكد أن السياق حاكم، وأننا نتحدث عن المعادلة المغربية، وليس عن سياق آخر، كما أننا نتحدث عن الفن في علاقته بالمجتمع، وليس في علاقته بالفرد. فعلى المستوى الأول، الذي يشترط مراعاة السياق، تبرز ملاحظتان أساسيتان: الأولى مرتبطة بالثقافة السائدة ومنسوب القيم الديمقراطية فيها، والثانية مرتبطة ببيئة الفن نفسه، وأشكاله المؤسسية والتقاليد الديمقراطية التي رسخها، وتفاعل المجتمع معها. ستظل دائما المفارقة موجودة، ما دامت الفجوة قائمة بين الثقافة المجتمعية السائدة وبين الثقافة الديمقراطية، فالمجتمع الذي لا يخضع لعملية تنشئة ديمقراطية منتظمة، يتوسل إلى تحقيقها بجميع المداخل بما في ذلك المدخل الفني وحتى الديني، لا يمكن أن يتذوق الفن ويصير تحت مفعوله مسكونا بثقافة السلم والتعايش، وبموازاة مع ذلك، فالفن، إذا لم تدخل الديمقراطية أشكاله المؤسسية، ولم تخضع مهرجاناته إلى بنية ديمقراطية واضحة، يصعب معه أن تتكرس تقاليد في المهرجانات الفنية تحدث مع الزمن مفاعيلها القيمية والتربوية والثقافية. معنى ذلك، أن الفن في أحسن أحواله لا يفعل أكثر من تعزيز قيم التسامح والانفتاح التي ترسخت عبر مسار طويل من التنشئة الديمقراطية، وأنه لا يمكن أن يتحول إلى فاعل مساعد في إنتاج هذه القيم، إلا إذا توفرت له البنية المؤسسية الديمقراطية، وكرس تقاليد ديمقراطية في التنظيم، وصار تعبيرا عن المجتمع، وليس رجع صدى لإستراتيجية دولة أو نخبة أو جماعة. بالصريح، حين ترفع الدولة يدها عن الفن، ويتحرر من لعبة الإستراتيجيات التي توظفه لخدمة أهداف معينة، وحين يتحول الفن، كما هو في السياقات الديمقراطية، إلى رحم الشعب الذي تمخض عنه، وتنقرض ثقافة الامتياز والريع الفني والإعلامي، ويصير بإمكان القطاع الخاص أن يكون حرا في دعمه للفن المجتمعي، وليس فن الدولة، حينذاك يمكن أن تتأسس في المغرب تجربة فنية وتقاليد في المهرجانات الفنية يكون لها بالتأكيد مفعولها في ترسيخ ثقافة التسامح والانفتاح. أما حين يرتبط الفن بأجندات وإستراتيجيات، ويصير المجتمع موضوعا للفن وليس أداة لإنتاجه، يصير كل شيء ممكنا بما في ذلك شيوع الظواهر العنفية، لأن ثمن تغييب المجتمع لا يمكن أن يكون إلا مكلفا. لقد تابع الجميع فعاليات الثورة المصرية، ووقفوا على دور الفن المنبثق من عفوية الجماهير الثائرة، وكيف أدى وظيفته ورسالته في نشر قيم الأخوة والتضامن والأخوة والوحدة الوطنية في مواجهة المخططات الطائفية، لكن ذلك الفن لم يكن مرعيا من قبل الدولة، ولا مدعوما من قبل قطاع خاص مأمور، ولا فرض على قنوات القطب العمومي أن تبثه، وإنما كان صادرا عن المجتمع بكل أطيافه ومكوناته، ولم ير العالم المتابع لهذه الفعاليات الفنية الخارجة من ميدان التحرير أي ظاهرة عنفية خرجت من إيقاعات هذه الفنون. الصورة واضحة، لا تحتاج إلى كثير بيان، فالفن ليس مسؤولا عن العنف، ولكنه بالتأكيد لا يؤدي وظيفته في تعزيز قيم التسامح إلا في بيئة ديمقراطية وثقافة ديمقراطية ومؤسسات ديمقراطية. هذا على المستوى الأول، أما على المستوى الثاني، فالحديث هنا عن الفن في علاقته بالمجتمع، وليس في علاقته بالفرد، فقد يحدث ضمن التجربة الفردية أن يقع نوع من الانتظام في الفن، فلسفيا وذوقيا، ويمكن للفرد من خلال خوض هذه التجربة، الصوفية إن صح التعبير، أن يتمثل قيم التسامح والانفتاح والعمق في النظر وغيرها من القيم التي يمكن أن يكتسبها الإنسان عبر هذه التجربة، فهذا يمكن أن يحصل، بل بالتأكيد حصل لعديد من الفنانين الذين كان للفن دور في الرقي بقيمهم وسلوكهم. لكننا في هذا السياق لا نتحدث عن الفن في علاقته بالفرد، وإنما نتحدث عن الفن في علاقته بالمجتمع الذي لا تتوفر له فرصة التماهي في التجربة الفنية، إلا في لحظات مخصوصة ومنها المهرجانات الفنية. فالقوانين التي تحكم علاقة الفرد المنساب في التجربة الفنية بالتأكيد ليست هي القوانين التي تحكم المجتمع في علاقته بالفن، ومن ثمة، فالرهان في التأسيس لثقافة التسامح والانفتاح في ضمير الشعب ليست بالتأكيد على الفن، وإنما على التنشئة الديمقراطية التي قد تتوسل الفن، كأحد المداخل الممكنة لذلك، شرط أن يكون صادرا من الجهة التي تقوم بدور التنشئة الديمقراطية، وليس من أي جهة يمكن أن تستعمل الفن لأجندات أخرى غير التنشئة الديمقراطية. الخلاصة العملية التي يمكن تسجيلها بهذا الخصوص، هي أن الظواهر العنفية التي تصاحب بعض المهرجانات، ومنها مهرجان موازين، هي تعبير عن تعثر مسار التنشئة الديمقراطية، كما هي تعبير عن هجانة في التقاليد الفنية التي لم تستطع أن تقوم بدورها في ترسيخ هذه القيم، إما لأنها تصدر من خارج رحم المجتمع، أو لأنها ترتبط بأجندات غير أجندة التنشئة الديمقراطية. بكلمة، يمكن للفن أن يقوم بدوره في تعزيز قيم التسامح والانفتاح، لكن ذلك لا يمكن أن يكون بمعزل عن مسار التنشئة الديمقراطية التي يخضع لها المجتمع، تلك التنشئة التي تشترط أن يصدر الفعل من المجتمع، وأن يخضع في آلياته وبنياته ومؤسساته إلى المعايير الديمقراطية.بقلم: بلال التليدي, باحث

حديث الصباح: مهرجان موازين وقيم التسامح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

مصممة الأزياء الشرايبي أمام الوكيل العام بالبيضاء

الاتحاد الاشتراكي يتهم بوانو بالابتزاز السياسي

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات