في الطريق إلى ربيع الديمقراطية

المطلوب إنضاج أفكار كتلة سياسية للاتفاق على إصلاحات تعزز دولة الحق والقانون لماذا طرد الشباب بالأمس من الساحة؟ لماذا كان يتم نعتهم بكل النعوت الوقحة والمخجلة؟ لماذا كان يتم الزج بهم في السجون بمباركة ومساندة العديد من السياسيين؟ لماذا كان الشباب مرفوضين وممنوعين من التظاهر ومن رفع الشعار وحمل الكوفية واليافطة؟ لماذا لم تكن تعطى الكلمة لهم، لا داخل المدرجات الجامعية ولا داخل المقرات الحزبية ولا النقابية ولا داخل الأقبية؟ نريد أن نعرف ماذا حصل اليوم؟ وكيف تم هذا التحول لدى الطبقة السياسية ونخبتها، وكيف أصبحت بين عشية و ضحاها مساندة لحركات الشباب؟ إن "المسارات الجيلية" وما عاشته من غبن و قمع وتهميش، لابد من الحديث عنها في سياق الحركات السياسية والاجتماعية التي نعيشها اليوم، لكي لا ننسى ما حصل بالأمس لنا ولغيرنا، ولكي لا يحصل مرة أخرى مع الأجيال القادمة. اليوم، يجب الاعتراف بالآثار الجيلية على الحركات النضالية الشبيبية. ولهذا يجب تفسير الاستمرارية، والتغيير الحاصل اليوم في الحركات السياسية والاجتماعية بالتراكم الذي حصل، وليس بالهروب إلى الإمام وكأنه لم يقع شيء من قبل.إنني مدين بالشكر والامتنان لأستاذي المرحوم جان ماري فانسون، الذي كان يرأس شعبة العلوم السياسية بجامعة باريس 8، والذي أتاح لي فرصة التعرف على أبحاثه وعلى الدور المنهجي لفهم ما يقع حولنا، خاصة رؤيته في دور الحركات الاجتماعية في التغيير. كان ذلك سنة 2003، حين شهدت فرنسا حركة اجتماعية واسعة النطاق، ما دفعه للتفكير في هذه الحركة صحبة بيير زاركا (عضو قيادي بالحزب الشيوعي الفرنسي) وميشيل فاكالوليس (أستاذ باحث في علم الاجتماع)، إذ اعتبروا حركة 2003، نتاج حركات اجتماعية متنوعة، تفتح بدائل جديدة من أجل سياسة التحرر، رغم انقسامها ومحدوديتها. أما الباحث السوسيولوجي أحمد تهامي عبد الحي، هو الآخر أولى أهمية بالغة لدراسة دور الأجيال السياسية في العلوم الاجتماعية. ورغم أن دراسته تحتاج للتفكير المتأني، فإن راهنيتها تطلب منا الإشارة إليها و لو بشكل عابر. ففي مقالته (المنشورة ب"عالم الفكر،أبريل/يونيو 2008")، يستحضر الباحث المقولات الأساسية لاقتراب الجيل السياسي، خاصة عندما تدخل مجموعة عمرية الحياة الاجتماعية وتوظف خبراتها التكوينية، فإنها تمثل جيلا سياسيا يشكل وحدة إيديولوجية وحركة ثقافية. كما يشير إلى هوية جماعية للجيل، وهي تشير إلى الرؤى والمنظور والمرجعية المشتركة. فعندما ينغمس الأفراد في حركة اجتماعية، فإنهم، يضيف أحمد التهامي، يستنبطون داخلهم تعريفات ذاتية جديدة، كجزء من عملية جماعية لتفسير العالم سياسيا. وإلى هذا، يضيف الباحث أراء أخرى، وهي أن الجيل السياسي يتكون من الأفراد من أعمار مختلفة، يلتحقون بالحركات الاجتماعية في أثناء موجة معينة من المعارضة والاحتجاج.لقد شهدت ثمانينات وتسعينات القرن الماضي عدة مبادرات جمعوية وسياسية وإعلامية وثقافية وأمازيغية وطلابية وأحيانا تلاميذية، تم رفضها من طرف النظام السياسي ومن طرف الطبقة السياسية التي أصبحت اليوم مرغمة على تبني الحراك الاجتماعي والسياسي الحالي. وربما ساهم ذلك في السكتة القلبية للعديد من التجارب النضالية الرائدة، وربما منع الجيل الشبيبي السابق من حقه في الممارسة السياسية، ودفع بالعديد من المناضلين للرجوع إلى بيوتهم أو لمغادرة أحزابهم واعتناق تجارب أخرى، أو دعم فكرة الانشقاق وخلق بنيات تنظيمية أخرى، وهكذا. فلا بد من السعي إلى طرد كل محاولة لنسيان ما مضى بشكل تعسفي. يجب موازاة مع ما يحصل، المساهمة في تحليل نقدي لتراثنا النضالي حتى تطلع الأجيال الصاعدة على النماذج الأكثر خصوبة و على أسباب الفشل كما أسباب النجاح. باختصارالاطلاع على ما حصل قبل الآن. لا يمكن لأي كان أن ينسب إليه حركات الشباب الصاعدة أو أن يركب عليها. المطلوب هو تفسير الوقائع الاجتماعية التي أنتجتها، بصفتها علاقات متشابكة بين فاعلين أو عناصر متعددين، ذلك هو الشرط لأن يكون لهذه الوقائع (حسب رايمون بودون) معنى، ولكي يكون ممكنا فهمها.يجب الاعتراف أن ساحة الحراك غير متجانسة، بدرجات مختلفة، وأن هناك تطلعات ووجهات نظر مختلفة حول الطريقة الأحسن لتدبير مهام المرحلة، تترك أصحاب كل رأي أحرارا في أن يتكتلوا أو يتنظموا من أ جل الدفاع عن و جهة نظرهم. وهنا لابد من الإشارة إلى أن الإصلاحات السياسية والدستورية التي يتطلع إليها الرأي العام الوطني المغربي والدولي، لابد أن تكون موضوع اجتهاد قوى سياسية وازنة بتاريخها وفاعلة بحضورها وقوتها. إنها مهمة السياسيين المؤثرين والفاعلين في الساحة السياسية، وليست موضوع إرضاء الخواطر والبحث المضني عن طرق إعمال التوافق. لا بد من إنضاج أفكار كتلة سياسية (بيمينها و يسارها) للاتفاق على كل ما يمكن أن يعزز دولة الحق و القانون، وعلى كل ما يمكن أن يضمن كرامة المواطن على كل المستويات. كما أنه لا يمكن الخلط بين قضية الإصلاحات السياسية والدستورية، وموضوع المطالب الاجتماعية المستعجلة، و التي تتطلب ردا مستعجلا واستجابة فورية لمطالب أوسع فئات الشعب المغربي. الحق في الشغل والصحة والسكن والتعليم، والحق في العيش الكريم، والحق في السلم والعدل، والحق في المواطنة الكاملة، والحق في المساواة بين الرجل والمرأة، و الحق في التعبير والتجمع والتظاهر السلمي، والحق في الحياة، والحق في الدفاع عن الوطن ووحدته و صيانة ثقافته المتنوعة، ...الخ. حقوق لا يمكن تأجيلها ولا يمكن التفاوض حولها. إنها موت أو حياة الغالبية العظمى من فئات الشعب المغربي.لقد شكلت تجربة هيأة الإنصاف والمصالحة، وكل الآراء والتقييمات التي واكبتها، إحدى العجلات الأساسية لورش البناء الديمقراطي. ولم تغير في شيء الانتقادات اللاذعة التي وجهت لمهندسي هذا الورش و نعتهم بكل أنواع النعوت المشينة بأخلاق وأعراف وتقاليد الديمقراطيين، رغم أن الموضوع كان يتطلب الحكمة والرصانة وشيء من العلم والمعرفة بالموضوع، والتعامل مع عرض الدولة وموافقتها على فتح ملفات الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، تعاملا مسؤولا.في كتابها "سياسات التسامح"، كتبت الباحثة الفرنسية ساندرين لوفغون عن عنف الدولة وعن الأنظمة اللاديمقراطية والدكتاتورية التي اتخذت القمع الجماعي كوسيلة منظمة لردع المناهضين والمعارضين، حيث أوردت في دراستها العلمية، نماذج ساطعة عن هذه الأنظمة وما خلفته من ضحايا، أفرادا كانوا أو جماعات. كما ركزت على تجارب المصالحة والتسامح التي انتهجتها العديد من البلدان (في أمريكا اللاتينية وجنوب إفريقيا) لتجاوز الجراح وبناء عدالة انتقالية وتعبيد الطريق نحو الديمقراطية، من أجل الإحساس بالأمن والطمأنينة لشعوبها. حتى أصبح عنف الدولة يظهر الآن متجاوزا وغير مسموح به، وهو الدرس الذي يجب أن تستوعبه الطبقة السياسية، والمسؤولون على احترام وتطبيق العدالة، و حماية الأفراد والجماعات من القمع العام و من الاغتيالات السياسية.أغلب تجارب المصالحة والتسامح، اختارت نهج العدالة الانتقالية بأركانها الخمسة: المحاسبة، والكشف عن الحقيقة، والمصالحة، إصلاح المؤسسات، وأخيرا جبر الضرر.لم تطبق العدالة العقابية ضد مقترفي الجرائم السياسية. كانت هناك بعض المحاكمات لكن كانت هناك هيآت للحقيقة والإنصاف، وكان هناك تعويض الضحايا خاصة في الشيلي وإفريقيا الجنوببية. في إفريقيا الجنوبية، انتظر الضحايا وعائلاتهم 4 سنوات.المصالحة، إذا، قضية مجتمع وليست قضية فئوية. كيف يمكن محاكمة كل المتورطين وسجنهم وتقديمهم للعدالة أمام أنظار الجميع؟ كيف يمكن التشهير والتعريف بهم وبما اقترفوه، لكن كيف يمكن ان نعيش جميعا غدا؟ كيف يمكن لمؤسسات الدولة أن تحاكم نفسها؟ كيف يمكن الفصل بين الجناة و بين الآمرين والمتورطين والمنفذين والمساعدين..الخ؟ كيف يمكن حصول الإجماع على هذا النهج؟ هذه الأسئلة وغيرها كانت وما تزال من التمارين العسيرة لبناء صرح الديمقراطية. إقامة النظام الديمقراطي لا تفترض فقط بناء مكانيزمات للحماية من الخطر ومن عدم الرجوع إلى الوراء، ومحاكمة النظام السابق، بل اقامة ميكانيزمات دولة الحق والقانون وتوفير شروط الشرعية الديمقراطية.لابد من الاعتراف إن هذا يتطلب تسوية سياسية بين القديم والجديد، بين المسؤولين والمعارضة الديمقراطية، من أجل الانتقال إلى الديمقراطية. نعم قد تبدو فكرة المصالحة والتسامح غريبة على السياسي، لكنها الابن الشرعي لمن يؤمن بالعدالة الانتقالية، وإلا فيجب محاسبة ومحاكمة كل من ساهم أو ثبت في حقه ما عرفه المغاربة من مآس منذ ما قبل الاستقلال وبعده.ولماذا الحديث عن الجرائم السياسية فقط؟ لماذا الوقوف عند فترات زمنية معينة؟ لماذا المطالبة بالحقيقة في ملفات معينة؟ لماذا لا تتم المطالبة بمحاسبة من كان المسؤول على عدم تعليم المغاربة وتركهم في الأمية والجهل حتى أصبحنا اليوم نتكلم باسمهم؟ إن جريمة الجهل كانت أكبر الجرائم التي اقترفت في حق الشعب المغربي، و ضريبة الجهل هي أكبر ضريبة أداها وما زال الشعب المغربي.إن العديد من الشعوب مرت من الامتحان نفسه، وكانت العدالة الانتقالية مخرجا مشرفا لها.إن المهم اليوم هو التواصل مع جيل الشباب والطلاب والمتعلمين ليصبحوا سفراء لدى عامة الشعب، في المدرسة والجامعة والإدارة والمؤسسات. الشباب اليوم لهم إحساس بعبثية العالم، ولهم العشرات من الأسباب للمطالبة بالحرية والكرامة ونظام اجتماعي يكون فيه الاحترام المتبادل أساس العلاقة المتبادلة بين جميع المغاربة. وهذه المطالب ليست مثالية، بل تحقيقها يعد مدخلا حقيقيا لبناء المجتمع البديل.فلا يمكن تغيير واقعنا القائم على القهر والعنف باللجوء إلى العنف والقوة. إن الديمقراطية بمضمونها الاجتماعي أقل نظم الحكم شرا، كما يقال، أو «أقل نظم الحكم عدوانية» بلغة «كامي» في رده على «سارتر». المصطفى المريزق: أستاذ بكلية الآداب بمكناس

في الطريق إلى ربيع الديمقراطية

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

إضراب مفتوح لطلبة المعهد العالي للصيد البحري بأكادير

النهضة والفضيلة يرفض دعوة "الأولى"

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات