الشأن الأمني … الخطاطة والكلفة

ردود الأفعال الشعبية حول انعدام الأمن تكشف حاجة اجتماعية وتثير مسؤولية البرلمان في مراقبة السياسات الأمنية قد يكون سؤال الأمن أكثر القضايا إثارة للجدل، بحكم التصاقه بالحياة اليومية للمواطنين والأثر النفسي والاجتماعي لغياب الأمن أو الإحساس بانعدام الأمن. نظريا يخضع قطاع الأمن لرقابة برلمانية تشمل التنظيم والتمويل، كما أن الاطلاع على الخطط الأمنية أو مضمون السياسات الأمنية في علاقة بتدبير الشأن العام، يكون مثار نقاش داخل لجنة الداخلية بمجلس النواب والمستشارين، غير أن تفعيل آليات الرقابة يصطدم أحيانا باعتبارات ذاتية لها علاقة بعدم استيعاب النخبة السياسية لطبيعة وميكانيزمات إنتاج القرار الأمني، أو انكفاء هذه النخبة عن القيام بدورها الرقابي عبر المؤسسة التشريعية، وأخرى موضوعية ترتبط بسياقات تاريخية وسياسية جعلت من الرقابة على كلفة الشأن الأمني بالمغرب، بعيدا عن الأدوار المفترضة للبرلمان. تبين الوثائق التي تعرضها وزارة الداخلية، خلال مناقشات الميزانية الفرعية للوزارة بلجنة الداخلية والجماعات الترابية والسكنى وسياسة المدنية، بمجلس النواب، أن ملامح الخطاطة الأمنية للقطاع تتمحور حول ثلاثة مجالات، تهم مكافحة الإرهاب ومحاربة الجريمة المنظمة، مع التركيز على الهجرة الشرعية والاتجار الدولي في المخدرات، وتعزيز البنية التحتية للأمن الداخلي، عبر تقوية الموارد البشرية وتجويد الإمكانيات ووسائل التدخل. المخطط الخماسي للأمن تركز هذه السياسات على مكافحة المخططات الإرهابية التي تستهدف أمن البلاد، والتحكم في استقرار معدلات الجريمة، ذلك أن جهود الوزارة لم تقتصر على محاربة جرائم الحق العام، بل تعدتها إلى محاربة الإرهاب سواء ما تعلق بتفكيك الخلايا النائمة أو مكافحة العناصر والجماعات التي تسعى إلى تصدير مقاتلين مغاربة إلى مناطق النزاع، أو تجندهم للقيام بأعمال تخريبية بالداخل. وتوجد هذه الأولويات في صلب المخطط الخماسي 2008-2012 لوزارة الداخلية، الذي "يهدف إلى بناء منظومة أمنية متكاملة وفعالة، تنصهر في إطارها بشكل منسجم مجهودات كافة الفاعلين في الميدان الأمني"، وفق تقرير الميزانية الفرعية لوزارة الداخلية برسم السنة المالية 2011. وبالعودة إلى التقارير التي تناولت قطاع الأمن، تنكشف بعض الملامح العامة للسياسات الأمنية لوزارة الداخلية، بصفتها الجهاز الوطني على جهاز الأمن الوطني. في مجال مكافحة الجريمة المنظمة، وتحديدا الهجرة السرية، يفيد التقرير البرلماني أن الوزارة عملت على "دعم القدرات الأمنية من أجل التصدي لهذه الشبكات، بما يزيد عن 90 في المائة وتفكيك 2770 شبكة تنشط في الاتجار في البشر منذ 2002، كما تم إحباط ما يناهز 25 ألف محاولة للهجرة غير الشرعية، معظمها تخص مواطنين أجانب" (تقرير السنة المالية 2013). وتشمل الإستراتيجية الأمنية في التعاطي مع الهجرة السرية، تنظيم عمليات الرجوع الطوعي للمهاجرين غير الشرعيين. وفي سياق التعاطي مع الجريمة المنظمة، باشرت السلطات الأمنية إجراءات لتتبع ومحاربة الاتجار الدولي في المخدرات، بناء على الالتزامات الدولية للمغرب في هذا المجال، ولما أصبحت تشكله هذه الظاهرة الإجرامية من تحديات أمنية مرتبطة بها إقليميا ودوليا. وقد شملت السياسات الأمنية في التعاطي مع هذه الظاهرة "إحداث مراكز أمنية مشتركة مغربية إسبانية، وتعيين ضباط الاتصال لتقوية الاتصال الأمني". وفي مجال تقوية البنية التحتية لقطاع الأمن الوطني، أطلقت وزارة الداخلية مخططا خماسيا سنة 2008، سعى إلى "توسيع التغطية الأمنية، بإعطاء الأولوية لإنجاز المشاريع ذات الوقع الهيكلي على تفعيل العمل الأمني، والارتقاء به إلى ما يقتضيه عمل الأجهزة الأمنية". وشمل المخطط الخماسي 2008-2012 إحداث مفوضيات أمن جديدة وتوسيع المناطق الأمنية داخل المدن، وتعزيز الموارد البشرية وتنويع الفرق الأمنية ووحدات الحراسة. وقد نتج عن هذا التوسع تغييرا في الخريطة الأمنية التي أصبحت تستوعب مناطق جديدة، كانت تخضع لنفوذ قطاع الدرك الملكي. ضعف الرقابة على القطاع الأمني تَبرز الهيمنة التنفيذية في التشريع المالي، على مستوى توزيع موارد تنفيذ السياسات العمومية، من طرف الحكومة ضمن أجندتها لولايتها التنفيذية. ذلك أن احتكار الحكومة، وتحديدا وزارة المالية، لإعداد قوانين المالية قبل إحالتها على البرلمان، لأجل المناقشة والتصويت، يجعل البرلمان خارج دائرة المساهمة فيه، إذ تكون مشاركته محصورة في التصويت على البرامج المعتمدة. بالرجوع إلى تقارير لجنة الداخلية، بمجلس النواب، يتضح أن المناقشات العامة لميزانية قطاع الأمن من قبل النواب والمستشارين البرلمانيين، لا تقف عند تفاصيل السياسات الأمنية، بقدر ما تروم البحث في نتائج هذه السياسات، سواء تعلق الأمر بمكافحة الإرهاب، أو بالحد من جرائم الحق العام، أو الجريمة المنظمة، كما أن مناقشات الاعتمادات المالية المخصصة لتطوير قطاع الأمن، غالبا ما تدفع في اتجاه تعزيزها، دون أن تراقب مصادر صرفها أو طرق تمويلها، فالحاجة إلى الأمن تتحكم في اختيارات التصويت على المخصصات المالية لقطاع الأمن. ضمن هذا السياق، يصبح للتصويت ضد الميزانية الفرعية معنى آخر لأن التصويت السلبي، كما في حال مناقشات الميزانية الفرعية برسم السنة المالية 2015، يشكل رسالة موجهة إلى الحكومة للزيادة في الاعتمادات المالية لقطاع الأمن، وليس تصويتا ضد سياسة قطاعية. بالاطلاع على تقارير اللجان الدائمة، بمجلس النواب، المختصة بمناقشة الميزانيات الفرعية لقطاع الداخلية، يتضح أن ممارسة الرقابة المالية للبرلمان على الميزانية المذكورة، لا يطول السياسات الأمنية وتأثيرات الاعتمادات المالية على مسارات تنفيذها، بل يقف الخطاب البرلماني عند مناقشة الخطاب حول الأمن، من خلال التوقف عند نتائج العمليات الأمنية، والتنويه بالمجهودات التي تقوم بها المصالح الأمنية والاستخباراتية لمحاربة الجرائم العادية والمنظمة، والإشادة بالإجراءات والعمليات الاستباقية في ما يخص تفكيك الشبكات الإرهابية. الرقابة المالية على قطاع الأمن شكلت الرقابة المالية إحدى مرجعيات الرقابة البرلمانية على تنفيذ السياسات العمومية. وإذا كانت لحظة مناقشة قانون المالية تجعل البرلمان، بقوة النص الدستوري، في قلب النقاشات حول السياسات العمومية، فإن مرحلة ما قبل دستور 2011، تميزت بتقييد شديد لسلطة البرلمان المالية. وظل الدستور وفيا لتعزيز البعد التحكمي للسلطة التنفيذية على التشريع المالي سواء تعلق الأمر بقطاع الأمن، أو بغيره من قطاعات السياسات العمومية. لقد كرست الدساتير المغربية طغيان السلطة التنفيذية على سلطة الرقابة البرلمانية، في التشريع المالي للسياسات العمومية. وحصرت سلطات البرلمانيين بقيود في الاختصاص والزمن. وبالعودة إلى النصوص المنظمة للسلطة المالية للبرلمان في الدساتير، بما فيها دستور 2011 نجد المشرع الدستوري، وإن فوض للبرلمان سلطة تشريع القوانين، فإنه حرص على إبقاء المجال المالي في حدود ما يمليه القانون التنظيمي للمالية. وبينما أسند التطور الدستوري مهمة التشريع المالي إلى الحكومة، رسخ القانون التنظيمي للمالية، هذا الاختصاص لفائدة السلطة الحكومية الوصية (وزارة المالية) تحت إشراف رئيس الحكومة. بالمقابل، لا يترتب عن تصويت البرلمان لفائدة مشروع قانون المالية، أي التزام حكومي في ما يتعلق بتنفيذ السياسات العمومية التي ورد اعتمادها ماليا ضمن المشروع، فقد جاءت مقتضيات المادة 45 من القانون التنظيمي لقانون المالية مؤكدة لهذا التوجه، بالتنصيص على أنه "يجوز للحكومة أثناء السنة المالية وقف تنفيذ بعض نفقات الاستثمار إذا استلزمت ذلك الظروف الاقتصادية والمالية ويتم إخبار اللجان المختصة في البرلمان". إجراءات الحد من الهيمنة الحكومية في محاولة لتجويد الرقابة البرلمانية في مجال التشريع المالي، يقترح القانون التنظيمي للمالية الجديد، آلية جديدة تسمح بالتشاور القبلي من خلال تمكين البرلمانيين من متابعة مراحل إعداد مشاريع قوانين المالية، بشكل سابق عن عملية مباشرة المسطرة التشريعية. ويقترح المشروع تزويد البرلمان بالمعلومة المالية، بتمكينه من 14 تقريرا يرافق مشروع قانون المالية للسنة، ويتعلق الأمر بمذكرة تقديمية وبتقارير حول قطاع المؤسسات. وفي توجه يقع في صلب الرقابة المالية على السياسات العمومية، يقترح مشروع القانون التنظيمي للمالية، تمكين البرلمان من الاطلاع على النتائج التفصيلية لتنفيذ المخططات القطاعية والمشاريع المرتبطة بالبرامج المتعددة السنوات، وتقديم عرض أمام لجنة المالية، بمجلس النواب، قبل يونيو، بخصوص عملية التحضير لمشروع قانون المالية للسنة الموالية، بالإضافة إلى تعديل الجدول الزمني لدراسة مشاريع قوانين المالية، بتخويل مجلسي البرلمان مدة 60 يوما من أجل الدراسة والتصويت، ومنح مجلس النواب مدة 10 أيام من أجل المصادقة على تعديلات مجلس المستشارين. إن تعزيز الرقابة البرلمانية على التشريع المالي الخاص بقطاع الأمن، يشمل مرحلة المناقشة دون الإعداد، فالسلطة التنفيذية، من خلال وزارة المالية، انفردت بمسطرة إعداد قوانين المالية، وجعلت الرقابة البرلمانية لاحقة لرسم السياسات العمومية، بتقييد سلطات المؤسسة التشريعية في الرقابة السابقة على مضمونها، واكتفائها بـ"سلطة الاطلاع" على مدى احترام الحكومة لالتزاماتها المالية، من خلال تصويت البرلمان على قانون التصفية الذي يودع بالبرلمان في نهاية السنة الموالية لسنة تنفيذ قانون المالية. إجراءات مسطرية بشأن الرقابة المالية على السياسات الأمنية، فإن البرلمان يمارس هذه السلطة من خلال مناقشة الميزانية الفرعية المخصصة لقطاع الأمن، التي تعرضها وزارة الداخلية بصفتها الجهاز الوصي، أمام أعضاء لجنة الداخلية والجماعات الترابية، كما تناقش هذه الميزانيات على مستوى لجنة الشؤون الخارجية والدفاع الوطني، بصفتها معنية بالبت في الميزانية الفرعية لإدارة الدفاع الوطني وقوات الجيش عموما. وإذا كان مفهوم الرقابة المالية على قطاع الأمن، يرمي إلى تفعيل الرقابة القبلية على السياسات الأمنية والاطلاع على مضمونها، فإن قطاع الجيش، لا يزال بعيدا على مستويات تفعيل رقابة حقيقية، وهو ما يعكسه منطق الإجماع الذي يخيم على جلسات مناقشات الميزانية الفرعية لإدارة الدفاع الوطني، لأن التصويت في هذه الحالة يكون تصويتا بأثر ملكي. تخفيف القيود المالية في دستور 2011 يبرز الفصل 77 منه آلية لحصر دور البرلمان في مجال التشريع المالي، كإطار عام لتنفيذ السياسات العمومية. حيث ينص على أنه "للحكومة أن ترفض بعد بيان الأسباب، المقترحات والتعديلات التي يتقدم بها أعضاء البرلمان"، بمبررات تخفيض موارد عمومية أو إحداث تكليف عمومي، أو الزيادة في تكليف موجود. لقد كشفت الممارسات البرلمانية السابقة، الاستعمال المكثف لسلطة "الدفع بعدم القبول"، في المجال المالي، إلى درجة شل المبادرة البرلمانية. نظريا، يبدو البرلمان وكأنه استعاد سلطة التعديل على قوانين المالية (يراجع قرار المجلس الدستوري رقم 14.950 بشأن القانون التنظيمي رقم 130.13 لقانون المالية ، يقضي بتخفيف القيود المالية في مجال الرقابة البرلمانية، صادر بتاريخ 30 دجنبر 2014)، غير أن حق التعديل البرلماني، حوصر بمجموعة من الإجراءات القانونية تحد من تطبيقاته، منها أن تكون مدرجة في إطار اختصاص القانون، وأن يكون المشروع الإطار المناسب لاستيعابها، وأن تكون مكتوبة وموقعة من طرف برلماني أو مجموعة برلمانيين، أو رؤساء الفرق النيابية، وأن تكون معللة كي يستوعب الجميع دوافعها وآثارها. الأمن حاجة مجتمعية بقدر ما أثارت حملة "زيرو كريساج" هلعا داخل الأجهزة الأمنية باعتبار أنها المرة الأولى التي يرفع فيها المواطنون مطلب الأمن، ويخرجون في مسيرات ببعض المدن طلبا للأمان، كما وقع بالقصر الكبير، بقدر ما عرت عن واقع إحساس بانعدام الأمن بات يؤرق المغاربة بعدد من المدن. إطلاق هذه الحملة عبدت الطريق أمام تحويل سؤال الأمن إلى نقاش عمومي ومجال اهتمام عام يخص مختلف شرائح المجتمع. ولعل ما يبرر هذا الطرح السرعة التي تفاعل بها المواطنون مع الحملة، وتوظيف وسائل التواصل الاجتماعي في الإخبار عن الجريمة أو نقل واقعة "كريساج" تدين غياب الأمن، وتثير مسؤوليته عما يحدث من انفلات وجريمة ببعض المدن. ردة الفعل الشعبية حيال انعدام الأمن تكشف أن انعدام الأم لم يعد مسألة إحساس فقط، بل هو حالة مادية لها أثر اجتماعي بفعل انتشار الجريمة وغياب التغطية الأمنية الشاملة لكل الأحياء والشوارع، ما يفسره انتشار السرقة بالخطف واعتراض سبيل المارة، وصولا إلى التباهي بالجريمة نفسها عبر نشر صور "الغنائم" التي مصدرها الجريمة، في إطار ما اصطلح عليه إعلاميا بظاهرة "التشرميل". صور أفراد يحترفون الجريمة وهم ينشرون المسروقات على العلن وفي صفحات مواقع التواصل الاجتماعي، شكلت استفزازا للضحايا والمواطنين قبل أن تكون استهتارا بفعالية قوات الأمن. إحسان الحافظي

الشأن الأمني … الخطاطة والكلفة

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

ليركي بالجيش مقابل 300 مليون

الشباب السالمي يجدد الثقة في الحيمر

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات