عائدون من جحيم ليبيا… معاناة و”حكرة”

حكوا عن تفاصيل الحرب والتقتيل و"حكرة" الهروب وقلقهم من أسئلة المستقبل حسرة وآهات ودموع مكبوتة. سلاح استعمله مغاربة عائدون من ليبيا «الحرب والنار»، لإخفاء آلامهم المتواصلة ولهيب «الحكرة» المتأججة في بواطنهم المثقلة بالهموم وانتظارات المستقبل الغامض. برزانة حكوا قصص تيههم ومعاناتهم في ظل مسلسل التقتيل بذاك القطر الذي «لم يجلبوا منه إلا بقايا ذكريات فيها الجميل والمؤلم»، وواقع تشردهم ما بعد عودتهم إلى أحضان وطنهم الأم. بعضهم ممن جالستهم «الصباح»، لم يكبت فرحة النجاة، وآلام انتظار التفاتة رسمية، تنتشلهم مما أضحوا عليه من فقر وبطالة وتشرد، دون سابق إنذار. بحماس متجدد، أطلقوا دعواتهم بذلك، دون فقدان الأمل الذي لا طعم للحياة، بدونه. الصبر وحده، حيلتهم وزادهم، في طريق يدرون صعوبته، أمام إغلاق كل الأبواب التي طرقوها إلى الآن، ويبدو أنها «موصدة بأقفال ومفاتيح الانتظار» .«كلنا أمل أن تنظروا إلى حالتنا المزرية، بسبب هذه العودة الأليمة إلى أرض الوطن في ظروف جد صعبة». ذاك ما خطته مجموعة من المغاربة العائدين من ليبيا المتحدرين من مدينة فاس، في رسائلهم إلى وزيري الخارجية والداخلية ووالي الجهة، ملتمسين فيها، التفاتة لحالهم، بعد أن فقدوا كل ما يملكون بليبيا، من ممتلكات ونقود وأمتعة، مستنجدين بالتفاتة ملكية في المجال.«نطلب منكم العمل على إيجاد حل لهذه المجموعة، لأننا أبناء هذا الوطن، حتى لا نبقى عالة على مجتمعنا، ونحن قادرون على خدمة بلدنا»، بعد أن «تعرضنا إلى الإهانة والضرب والسرقة والأعمال الوحشية من قبل المرتزقة». تلك لغتهم وهم يستنجدون بالمسؤولين، بعد أن ضاقت بهم السبل في مسلسل تيه وبحث مضن عن سفينة نجاة مما هم فيه. «سفينة النجاة» المتوخاة، يأملون أن لا تكون كتلك الإماراتية، التي كان بعضهم ضحيتها، ومن بين دوافع هجرتهم، قبل عودتهم «خائبين» غير غانمين، في ظروف أصعب في مجتمع «لا يرحم من لا زاد ولا معيل له»، بعد أن «أمسوا ضيوفا ثقلاء» على عائلاتهم في أحسن الأحوال، في انتظار الذي «قد يأتي أو لن يأتي أبدا». وهو ما لا يتمنونه لأي كان، فبالأحرى لأنفسهم. وهم الآن بعد أن فقدوا كل شيء إلا كرامتهم وعزة النفس فيهم أما «ما خفي، كان أعظم»، لا يريدون من السلطات التي طرقوا أبواب إداراتها، سوى أذنا منصتة لنبضات آلامهم وعيشا كريما في وطن يحبونه، يجنبهم واقع الجوع والضياع، ما لن يتأتى دون توفر إرادة رسمية بذلك، بعيدا عن أي «لعب على حبل الوقت» أو لغة «سير حتى يسهل الله» أو «سير حتى تجي» يقول أحدهم. بعضهم تحدثوا عن أنهم لم يجدوا نفعا ولا جدوى بعد طرقهم باب الوزارة المكلفة بالجالية المغربية بالخارج، اللهم من قول بقرب إيجاد حل لمشكلهم ودعوات ب»الصبر إلى أجل غير محدد»، فيما أحيل آخرون على قسم الشؤون الاجتماعية بولاية فاس، التي قال أحدهم في رسالته، إن المسؤولة عنه، واجهتهم بكون «مشكلتكم، وطنية وعليكم التوجه إلى وزارة الخارجية بالرباط». تيه في دروب الضياع«وجدت نفسي عداء رغم عن أنفي. أركض من إدارة إلى أخرى، دون فائدة» يقول يونس جغلاف (30 سنة) الذي عاش طفولته وشبابه بالقطر الليبي حيث عمل في تجارة وتسويق المواد الغذائية ومواد التنظيف. ويتساءل «هل سينظرون في حالتي، بعد موت طفلي من الجوع»، علما أنه «ذكرت لهم أن طفلي أسامة (سنة واحدة)، لا يجد حليبا طالما أني دون مصدر رزق ولا سكن». يقول أبو أسامة ومحمد (4 سنوات)، إنه «لا يشحت ولا يتسول»، بل «أبحث عن عيش كريم»، مضيفا «تركت كل أموالي وأثاث منزلي وبضاعتي وسياراتي، بليبيا. والآن أجد نفسي، مكسور الأجنحة وضيفا ثقيل الظل على عائلة زوجتي». وهو لا يتوخى إلا سكنا وعملا، كحقين من «حقوق الإنسانية»، في مطلب «لا يحتمل الانتظار، فكل ساعة تمر، نكون فيها في خطر وضرر متزايد». تعيش هذه الأسرة و11 فردا من أسرة قريب زوجته الحاضن لآلامه، في منزل مكترى من غرفتين بحي شعبي بفاس. وتحولت إلى «عائلة مشردة بمعنى الكلمة» كما وصفها معيلها الذي يقول إنه بلا مورد لإعالتها وشراء الحليب و»الحفاظات» لرضيعه، حيث «يعيش واقع الإحباط والأرق والتعب، بعد أن هربنا لوطننا، الذي «ما أظن أنه سيترك أبناءه جوعى ومشردين». وبنبرة الحزين والمثقل بالهموم، يتساءل «أين أنت يا أمنا (المغرب). أريد من كل قارئ لآلامي، أن يضع نفسه في مكاني وحالتي»، وهو نفس رجاء زميله عبد المطلب واعلي (33 سنة) أحد ضحايا شركة النجاة، العائد بعد 4 سنوات قضاها بليبيا، المتحدث عن هزات نفسية، كان ضحيتها بذاك القطر وبعد العودة حيث وجد نفسه «تالف» بتعبيره، لا يدري للنجاة، سبيلا. هذا الشاب العازب، كان معيل عائلته، بما ادخره من عمله في صباغة المنازل بطرابلس التي استقر فيها، بعد هجرة أعقبت سقوطه ضحية «النجاة» ومحاولة فاشلة للهجرة إلى إسبانيا. وأبوه وأمه وأخته غير المتزوجة القاطنون بمنزل بحي كيريو زواغة العليا، الآن، دون معيل ل»مواصلة الحياة»، وهو لا يطالب إلا بشغل ومأوى، حتى لا يبقى «عالة على عائلته». عائدون تؤلمهم تفاصيل رحلتهمهذا الواقع المؤلم الذي يعيشانه وزملاء لهما، قد تنسيهم فيه، تفاصيل رحلة عودته ونجاتهم، وما عانوه في كل مطار وميناء قصدوه للعودة، حيث وجه بعضهم سهام الاتهام، لمسؤولين في الديبلوماسية المغربية بليبيا، قالوا إنهم «لم يولوهم أي اهتمام وتركوهم لمصيرهم، عكس الجاليات الأخرى، عكس ما تداولته وسائل الإعلام الرسمية، حين حديثها عن خطوط خضراء وطائرات خاصة».يؤكد عائدون عبر مطار طرابلس الدولي، في شهاداتهم التي استقتها الصباح، عدم تحمل مسؤولي القنصلية وموظفيها، مسؤوليتهم في تنظيم وتسهيل تهجير الراغبين في العودة، مشيرين إلى أنهم أحسوا بالغبن، وهم يعاينون التنظيم المحكم لعبور جاليات سودانية ومصرية وباكستانية ومن جنسيات أخرى، إذ كان مسؤولو ديبلوماسية تلك الدول، الأوائل المبادرين لتنظيمهم. أوضاع مزرية عاشها المعنيون الذين باتوا ليالي في العراء وفوجئوا بعدم مجانية تذاكر طائرات الخطوط الملكية كما وعدوا بذلك إعلاميا، في المطار في ظل غياب المراحيض والازدحام الكبير والارتفاع المهول في أسعار المواد الأساسية، وتركهم لمصيرهم المجهول، إلى درجة صعوبة الوصول إلى بابه الرئيسي، دون قضاء ساعات من الانتظار لطول الصفوف. يوم كامل قضاه محمد العثماني (33 سنة) القاطن بالجرف القاري بالزاوية الواقعة في اتجاه إيطاليا على بعد 160 عن طرابلس، والعائد بعد تسع سنوات قضاها بليبيا، حيث كان يعمل في شركة للتموين في عرض البحر تابعة للحقول النفطية، للدخول إلى المطار. أما انتظاره الحصول على تذكرة، فدام ثلاثة أيام قضاها في ظروف جد صعبة، دون نوم وأكل أو أي التفاتة تشعره بإنسانيته. طيلة المدة، كان نحو 200 مغربي، يشخصون حلقات مسلسل الانتظار، بعضهم قضى أسبوعا في ظل انعدام شبه كلي لوسائل الاتصال، حسب إفادته، ما اضطره إلى اللجوء إلى الخطوط التونسية، في اتجاه تونس حيث كان الاستقبال أفضل و»مشرفا»، مذكرا بسوء معاملة مسؤول مغربي بالمطار، قال إنه أرغم مواطنا على العودة إلى القنصلية، لتسجيل وليده، في جواز سفره. معاناة لا تنتهي وترقب الالتفاتة«الخدمات المتحدثة عنها إعلاميا لتسهيل عودة الجالية المغربية بليبيا، لا أساس لها» و»ما عرفوناش واش جينا او ما زال» يقول العثماني الذي جرب حظه في السفر مرتين، والقائل بأنه ومرافقه لم ينزعا أحذيتهما طيلة المدة التي قضياها بالمطار، دون أي التفاتة. وتحدث عن رحلة واحدة يومية وأخرى للخطوط الليبية، بينما «تحدث الإعلان التلفزيوني، عن زبناء وليس جالية». يقول يونس جغلاف، العائد على متن طائرة تابعة للخطوط الملكية يوم 12 مارس، إنه سدد 340 دينارا ثمن التذكرة الحاصل عليها بعد تدبر أمره، بعد عناء ثلاثة أيام وتفتيش دقيق في عدة نقط للمراقبة، و»دون اهتمام مغربي. كنا ننام فوق الرخام»، فيما كان «البوليس الليبي، يرمي ببضع أكياس بلاستيكية بها قارورات عصير صغيرة، بشكل عشوائي. وكل واحد وحظه». هذا الشاب العازب، قال إن العديد من زملائه الذين نفد مالهم، لم يجدوا ما يؤدون به، ثمن المنقولات المحدد في 3.5 دينار للكيلو، فيما تكلف تنقل زميله العثماني عبر سيارة أجرة من حي الظهرة على مسافة 3 كيلومترات للوصول إلى وجهته، فكلفه 1000 دينار، قبل أن يعود أدراجه لاستحالة وصوله إلى الباب الرئيسي، في ظل اكتظاظ آلاف الأفارقة بساحته والممر المؤدي إليه. هذه الحقيقة الصادمة، أكدها عبد المطلب واعلي وهو يسرد تفاصيل رحلته عبر باخرة مغربية رغم أنه كان من العشرين الأوائل الذين وصلوا الميناء، إذ «في غياب الحضور الرسمي المغربي، حاولنا تنظيم أنفسنا، إلى درجة تحريض الأمن الليبي ضدنا» و»استفحال مظاهر الارتشاء والزبونية، إذ كنا نرى أشخاص غير مصطفين، تسهل مأموريتهم وتقضى حوائجهم، دوننا». عبد المطلب الذي بدأت رحلته للبحث عن تذكرة منذ 17 فبراير لكنه لم يصل مدينة طنجة من طرابلس إلا في 6 مارس، تحدث عن أن الأرقام الخضراء الموضوعة رهن إشارة الجالية، «لا ترد وأحدها مقفل». ولم ينف تعرضه وزملائه، إلى الاستخفاف والسب والإهانة خاصة بعد احتجاجهم على عدم مجانية التذكرة»، في ظل ارتباك واضح وترك الجالية في ظروف «لا إنسانية». عائدون يحيون شريط «ذاكرة الحرب»خوف دائم إلى حد استحالة النوم والراحة، وعنف متبادل بين أتباع النظام ومناهضيه. مشاهد مروعة عاشها العائدون من جحيم الحرب بليبيا منذ انطلاق مسلسل الثورة الذي لم تنته حلقاته بعد. نفاد المواد الغذائية وإغلاق محلاتها وارتفاع الأسعار ومعاناة يومية لا تنتهي بعد فشل محاولات الخروج من هذا القطر. التجول ممنوع ما بعد الرابعة عصرا، في ظل حالة طوارئ. «كنا دائما في حالة تأهب، إلى درجة أننا كنا ننام دون انتزاع أحذيتنا، إن نمنا أصلا» يقول عبد المطلب واعلي وهو يحكي تفاصيل ما عاشه في طرابلس قبل نجاته ووصوله إلى بلده الأم، سالما، في حين تحدث زميله يونس جغلاف عن 12 نقطة مراقبة وتفتيش على طول المسافة بين العاصمة ومدينة الزاوية حيث كان يستقر، إلى أن غادرها في 12 مارس، حامدا الله على سلامته. ويشير إلى أن «الهواتف المحمولة والحواسيب وملابسنا الداخلية، كانت تفتش بحثا عن صور قد تكون التقطت لواقع الحرب»، «وكل من تأكد عدم سلامة وثائقه، يوقف ووجهه إلى السور، يراقبه اثنان إلى ثلاثة عناصر أمن، حاملين للأسلحة»، مؤكدا واقعة معاينته استهداف مسجد الميدان بالزاوية المنهارة صومعته، بإطلاق النار، مباشرة بعد خروجه وبعض المصلين، منه. تحدث الشاب الذي سافر واستقر في ليبيا رفقة والديه منذ 1987 وعمره 5 سنوات، حيث ترعرع وشب ودرس قبل أن يعود إلى المغرب ويتزوج في 2006 ليعود من جديد إلى الجماهيرية، (يتحدث) عن محاولته الصمود بعد وقوع الأحداث، لكن «لما وصلت الأمور إلى حد الضرب العشوائي للمنازل بالمدافع، فكرت في الفرار والنجاة بجلدي وجلد زوجتي وابني». كل متجول في الشارع كان مستهدفا بالقتل من قبل الطرفين خاصة «القناصة» المنتصبين في الأماكن العالية، حسب هذا الشاب المتحدث عن عدم تمييزه بين الأمن والمواطن العادي، في ظل إطلاق كثيف للرصاص وبشكل عشوائي ودون تمييز خاصة لكل شخص قد يبدو غريبا. وأكد محاولته الفرار، عدة مرات، بشكل يومي تقريبا للوصول إلى مطار طرابلس الدولي.قتلى واستهداف لكل أجنبي وغريبتحدث بعض الناجين، عن استهداف كل أجنبي وغريب، بالقتل من قبل الثوار وأتباع القدافي، إذ «رأيت بعيني وأنا أطل من النافذة بمنزلي في ميدان التحرير، جيراني يلفظون أنفاسهم» يقول يونس المتحدث عن معاينته استهداف منازل ومساجد، وأسبوع رعب بطعم الخوف والجوع و»الحكرة» و»القهرة»، وواقع التشرد تواصل بعد حلوله بالوطن، متمنيا أن لا يطول ذلك. أما عبد المطلب فلن ينسى واقعة إطلاق الرصاص من «القناصة»، عليه وعلى المصلين الخارجين لتوهم من مسجد «الدعوة الإسلامية» في ميدان الجزائر بعد رفع بعضهم شعارات ومحاولتهم التوجه إلى الساحة الخضراء عن طريق شارع محمد موكريف على مسافة 1000 متر. «فكوني غير رجلي» يقول واصفا فراره عبر شارع البلدية المؤدي إلى حي الظهرة.«كنت كنشوف الناس كتموت قدامي» قال ذلك وهو يستعرض صور فيديو التقطها زميله لواقع التقتيل وعدة جثث مرمية على الأرض، فيما حكى العثماني تفاصيل مفجعة عن أول ليلة حرب، حيث سقط أشخاص قتلى بمسجد الميدان، في ليلة ممطرة وباردة، لما دخل بعض الثوار مسجدا، وتعقبتهم كتائب القدافي ينطلق مسلسل إطلاق الرصاص العشوائي. هذا المسلسل زادت حلقاته دموية، مع توالي الأيام وتوزيع السلاح على السكان من قبل الثوار، لتتحول مدينة الزاوية، إلى ساحة حرب مفتوحة ليل نهار وبشكل شبه متواصل، في ظل حالة رعب لا ينتهي إلا لتبدأ جولة أخرى منه، مؤكدا أنه كان يستغل كل هدنة مؤقتة، لزيارة ميدان التحرير أو «الجردينة»، حيث توالى توصله بالأخبار خاصة بعد نزول طيارين بالمطار. في تلك اللحظة تأكد العثماني، أن المنافذ المؤدية لمكان عمله، أغلقت والبقاء في هذا البلد مستحيل، بعد أن عاين مروحيتين كانتا تقلان العاملين معه، إلى الميناء، وإخلاء العمارة التي كان يقطنها ونحو 25 أسرة. «النار من ورائكم، وأمل العودة ممكن»، شعار اتخذه قبل اتخاذ قرار العودة، التي اصطدم وزملاؤه، بعدها، بحقائق، ما كان يتصورها وهو الذي وجد نفسه في وضع لا يحسد عليه. حميد الأبيض (فاس)

عائدون من جحيم ليبيا… معاناة و”حكرة”

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

دينامية الحراك الاجتماعي والسياسي ومهام النخبة

مهرجان فيلم التحريك "كازانيم" يطلق دورته الثانية

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات