أشفقت على صديقي محمد الكحص الذي أطلق، قبل أيام، صاروخا محشوا برأس معرفي على "سردينة". بلغني إحساس الرجل، وهو يرى كيف تمزق بيان "التربية الشعبية" نصفين، وثلاثة، ثم إربا منتهية الصغر، وتلاشى بين الأرض والسماء، كما يتلاشى رماد جثمان زعيم هندي أوصى بنثره من علو طائرته الخاصة. تخيلت كاتب افتتاحيات "ليبيراسيون" التي كانت "تلتهم" طازجة مثل خبز فرنسي صغير، وهو منزو في مكتبه لمساءات طويلة، يحفر عميقا في صخور اللغة، وينحت الكلمات الصغيرة ويضعها جانبا، ويربط الجمل بوثاق شديد، اتقاء لشر القراءات المتسرعة والمتحاملة، وبين الفينة والأخرى يضم "العبارات" طويلا إلى صدره ويمسد على شعرها، خوفا عليها من حمى التأويل. كان يكتب تارة، وتارة أخرى يسرح بين رشفة و"نترة" وشهقة، متخيلا الأصداء التي سيخلقها "البيان" منذ الساعات الأولى لنشره في جريدة ورقية، والنقاشات العمومية الصاخبة التي ستطلق على صفحات الجرائد ومواقع التواصل الاجتماعي وفي أوساط المثقفين والمفكرين، وفي القنوات العمومية والخاصة، وفي رحاب الجامعات، وحلقات دور الشباب. يواصل الكتابة بالحماس نفسه، وهو يضع الأسئلة الكبرى أولا، ثم التخوفات ثانيا، والتطمينات في المقام الثالث، ثم حين يشعر أن القارئ قد استأنس بالحروف الأولى لثورته الشعبية، انهال تحليلا وأفكارا ومقترحات وتوصيات كبرى موجهة إلى المجتمع والمثقف والمفكر ومختلف السلط المعنوية الأخرى المنتجة للمعرفة والقيم. بعد أن فرغ، وتأكد بأن الصنارة ستغمس هذه المرة، رمى الكحص ببيانه، وانتظر، ليتلقفه بعض المارة، تصفحوه سريعا، ثم انتهى كل شيء بالسرعة نفسها التي يمررون بها أناملهم فوق شاشة "تيك توك". فجأة، لم يعد هناك بيان، ولا ثورة شعبية، ولا معرفة، ولا عقل، ولا فكر، "ولا باب ولا يد تدق" (حسن نجمي)، بعد أن انتهى الأمر برمته، صغيرا وقزما تحت حذاء بلاستيكي لبائع سمك، يرفع عقيرته وسط "الجماهير" معلنا انتهاء ديكاتورية الأسعار، وبداية جهورية السردين الديمقراطي الرخيص. عكس الكحص، لم يتعب عبد الإله المراكشي في التنظير والتحرير وتكسير الجمجمة والدماغ لإنتاج فكرة لامعة تصلح للحشد الشعبي الممهد للتغيير، كان يكفي أن يعرف، بفطرته، أن هناك "عقلا سردينيا" خالصا، هو ما يؤطر الجماهير ويدفعها إلى أقصى درجات التعبئة والانخراط، وغير ذلك مجرد أباطيل، ولو أتت من محمد الكحص. كان "طفل السردين" يدرك، بدهائه، أن حشو المعدة، مقدم على تطعيم العقل بأفكار ثورية، وأن التربية الشعبية، في نظره، يمكن أن تنتظر إلى وقت آخر، لكن البطن لا يمكنه أن يفعل ذلك نهائيا، وإلا أصدر أوامره لـ "الرأس" بالإضراب عن الرقص. وهنا تكمن المسألة. للتفاعل مع هذه الزاوية: mayougal@assabah.press.ma