منطق “الهمزة”

الدكتور عنبي: الانتماءات أو الهويات الجماعية هي المتحكم في إنتاج المواقف والسلوك برر الدكتور عبد الرحيم عنبي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة محمد الخامس بالرباط، تضارب الشخصية المغربية وتبنيها موقفين متناقضين في الوقت نفسه بالصراع بين الفرد والجماعة، أي بين الاختيارات الفردية والضمير الجماعي، إذ لسنا أحرارا، بل تتحكم فينا الانتماءات الإثنية، مشددا على أن هذا الأمر يعود إلى التراكمات الحضارية والتاريخية، والنتيجة شخصية تساوم، ولا تقبل بالرأي أو نقيضه، قبل إخضاعه للتجربة، وهو ما يعبر عنه بـ"راس قال لي ندير هادي وراس لا". في ما يلي نص الحوار : هل فعلا يعيش المغربي بوجهين متناقضين؟ > يعود الأمر إلى تركيبة الشخصية المغربية، والتي هي فعلا متناقضة، لأننا من الناحية الثقافية والهوياتية، نحن نتاج تراكم العديد من الثقافات والحضارات الوافدة، بحكم أن المغرب لم يكن محطة عبور، بل استقرار لوجود المحيط الأطلسي الذي وصف ببحر الظلمات وعلاقة صراع مع شبه الجزيرة الإيبيرية، وهذه الثقافات لقيت مقاومة من المغاربة، قبل الوصول إلى حل إستراتيجي، وهو قبول جزء منها ورفض الباقي، والدليل أن الإسلام لقي قبولا في شمال المغرب واتخذ توجها إيديولوجيا لتحفيز الجهاد بالأندلس، في حين لقي مقاومة عنيفة بالجنوب من قبل ديانات أخرى من بينها اليهودية التي كانت ضاربة في القدم. هذا الصراع عبر التاريخ، هو الذي منحنا الشخصية المغربية، التي دائما تساوم، فالمغربي لا يقبل بالرأي أو نقيضه قبل إخضاعه للتجربة، وهو ما يعبر عنه بـ"راس قال لي ندير هادي وراس لا"، فالمغربي لديه إستراتيجيتان، يتحاور معك بوجه ولكن يضمر وجها آخر، وقد يعلن موقفا لكن يخفي نقيضه، لأنه هو مع "الرابحة"، وهو ما عبر عنه أستاذنا الراحل محمد جسوس بالقول إن المغربي يتفاوض بمنطق "الهمزة". ما السبب في هذا التضارب ؟ > هناك أمر يلعب دورا كبير في التناقض، وهو أنه ليست لدينا مواقف شخصية وفردية، بل مواقف تنتجها الجماعة، فالفرد محكوم بانتمائه للجماعة والأسرة والهوية المحلية أو إثنية معينة، وعليه فهذه الانتماءات أو الهويات الجماعية، هي التي تتحكم في إنتاج المواقف والسلوك، ولو أن هذه الانتماءات هي تاريخية قديمة، لهذا قد يتخذ المغربي موقفا معينا لكن بالعودة إلى الجماعة أو حتى الأصدقاء يغيره بسهولة. خلال مهرجان موازين وعيد الأضحى، رفع المغاربة شعار المقاطعة وأخلفوا الوعد، ما تعليقك؟ > من الصعب القول إن المغاربة رفعوا شعار المقاطعة بشكل منطقي وعلمي، فالذين رفعوا هذا الشعار، يمكن تقسيمهم إلى فئتين، الأولى تعبر عن موقفها للإعلام بوجه مكشوف، وهي امتداد لتيارات راديكالية، والثانية مجهولة، تروج للمقاطعة على مواقع التواصل الاجتماعي. وموقف المقاطعة لا يمثل المغاربة، لأن الأمر يحتاج إلى استفتاء أو تصويت، بعبارة أخرى رقم يعكس موقف المغاربة من المقاطعة أو العكس، وبالتالي من يحملون توجها راديكاليا، تحكمهم إستراتيجيات خارجية، وبالتاي لا تعني عددا كبيرا من المغاربة. كما يجب أن لا ننسى، أن الشخصية المغربية تحب الفرجة عبر التاريخ، مثلا عانى المغاربة في القرنين 16 و17، موجات الجفاف والأوبئة والمجاعات، ومع ذلك كانوا يبحثون عن الفرجة ويقصدون المدن للاستمتاع بها، إضافة إلى أن من يتبنى شعار المقاطعة، يغير موقفه بمجرد ولوجه البيت، لأنه ليس سيد القرار، إذ يتراجع عنه بطلب من زوجته أو أبنائه. هل هذا التناقض الذي يعيشه المغربي وليد اليوم وله ارتباط بالتمدن، أم عادة قديمة؟ > هذا التناقض ليست له علاقة بالتمدن، هو مرتبط بالتاريخ، فهذه الشخصية المتناقضة والمركبة، مرتبطة بتاريخ طويل من تراكم الثقافات، فكما قلت كانت هناك ثلاث حضارات كبرى بشمال إفريقيا وحوض البحر الأبيض المتوسط، وهي الحضارة الأمازيغية والمصرية والرومانية، قبل أن تتلاقح مع حضارات أخرى، منها اليونانية والفارسية والفينيقية والبابلية، وغيرها التي حلت وافدة على المنطقة، فصار المغرب نقطة تجمع ثقافات وهويات وحضارات متنوعة، وهو ما أعطى هذه الشخصية المغربية الناتجة عن تاريخ مليء بصراعات وتناقضات. إضافة إلى ذلك، عرف المغرب التمدن منذ زمن طويل، وبالتالي لا يجب حصر المدينة بصيغتها الرأسمالية الحالية، التي ظهرت بعد الاستعمار، فمنذ قرون طويلة اشتهر المغرب بمدن وليلي وفاس ومراكش وتارودانت، وهذه المدن التاريخية كانت تسعى لبناء موقف مغربي مبني على العلم والمنطق، عكس المدينة اليوم التي هي نتيجة خليط من الهجرة القروية، حيث يحمل القرويون معهم طقوس "الدوار "والقرية يضعونها في المدينة، وفق تصوراتهم. هل "جوج ريوس" لدى المغربي تتماشى مع دراسة تفيد أن نسبة كبيرة منهم يعانون أمراضا نفسية؟ > هنا صراع بين الفرد والجماعة، أي بين الاختيارات الفردية والضمير الجماعي، نحن لسنا أحرارا، بل تتحكم فينا الانتماءات الإثنية، ومع ذلك نريد أن نمارس سلوكات ربما تعلمناها في المدارس والجامعات وعبر وسائل الإعلام. هذه السلوكات والاختيارات الفردية سرعان ما تصطدم بالرقابة والمراقبة التي يمارسهما المجتمع والجماعة، وهو ما تنتج عنه ثقافة "راس تقول ندير...وراس لا"، بعبارة أخرى، "الراس تقول ندير"هو الاختيار والموقف الذي يتبناه الفرد، انطلاقا من قناعته الشخصية، و"راس لا" هو المجتمع وضمير الجماعة، الذي يمارس الرقابة، ويقول هذا حلال أو حرام وعبارات "عيب وحشومة"، فالمجتمع يضع مقاييس تتحكم في سلوكاتنا، وهو ما يؤسس لإيديولوجية "جوج ريوس". طبعا هناك اضطرابات نفسية عندما نعيش تناقضات. نريد تفسيرا لهذا التضارب من منظور علم الاجتماع؟ > من منظور سوسيولوجي، يمكن أن نبني تفسيرنا لهذا التضارب من ثلاث رؤى، الأولى عبرت عنها في البداية بالشخصية المركبة والمتناقضة للإنسان المغربي، والثانية تحمل نوعا من الإيجابية، ونقصد بها أن المجتمع المغربي هو مجتمع مؤسسات، إذ عكس العديد من المجتمعات التي خضعت للاستعمار، فمجتمعنا ما زالت مؤسساته حاضرة بقوة، وتتحكم في بلورة مجموعة من المواقف، وتؤثر على موقف الفرد، ما يدفعه إلى التفاوض والمساومة قبل تبنيه موقفا معينا. الرؤية الثالثة، وهي أن التضارب الذي تعيشه الشخصية المغربية، رغم سلبياتها على مستوى العلاقات، يبقى صحيا، إذ دائما يخضع المغربي سلوكاته إلى المختبر، وهو الجماعة التي تعيش بداخلنا للوصول إلى الحقيقة، وأسوق مثلا لمهرجان موازين، فرافعو شعار المقاطعة جزء منهم راديكاليون لهم أهداف محددة، ومحكومون بإديولوجيات خارجية، في حين رافضو المقاطعة، عبروا عن رفضهم للقضايا التي يتبناها الطرف الآخر، ما يعني أنهم متصالحون مع أنفسهم وقضاياهم المحلية. لوحظ هذا المرض متفشيا أيضا في مجالات عديدة منها السياسة والفن، ما رأيك؟ > فعلا نجد ثقافة "جوج ريوس" داخل النقابات والأحزاب السياسية، فزعيم سياسي أو نقابي يتبنى قضايا لفائدة فئات عريضة من الناس، وتقدم له وعود بتحقيقها، لكن في يوم الامتحان يجد نفسه وحيدا، لأن الأشخاص الذين راهن عليهم ظهرت لهم مصالح مع جهة أخرى، كما أن العمل النقابي والسياسي والتحالفات، تتحكم فيها الهويات المحلية، قد يتبنى السياسي طرحا غير مسبوق، لكن بحكم عدم انتمائه لمجموعة معينة تشكل الأغلبية، يصعب تحقيقه على أرض الواقع. أجرى الحوار : مصطفى لطفي

منطق “الهمزة”

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

جريدة الصباح

يمكنكم مطالعة المقال بعد:

أو مجانا بعد

سكيزوفرينية مغربية في الدراسات

مغاربة في "ورطة"

مقالات ذات صلة

انت تستخدم إضافة تمنع الإعلانات