رائد الأغنية المغربية العصرية الذي أرسى معالم هويتها حلت مطلع الأسبوع الجاري الذكرى السابعة والعشرون لرحيل الفنان محمد فويتح، الذي غيبه الموت ذات يوم حزين من أيام خريف 1996. في هذا الخاص تستعيد "الصباح" جوانب من مسار هذا الفنان الرائد الذي كان واحدا من الجيل المؤسس للأغنية المغربية العصرية، ومازالت روائعه الغنائية ملء الأسماع والأذهان. إعداد: عزيز المجدوب بدأ اسم الفنان محمد فويتح يتردد على الألسن ويثير الانتباه ذات يوم من أيام 1946، حين ظهرت أغنيته الأولى "رددوا لحن التهاني" التي ذاعت وانتشر صيتها بفاس، التي كانت تعيش آنذاك، مثل بقية مدن ومناطق المغرب، أجواء متوترة بفعل الحماية الفرنسية التي شددت خناقها، على كل حركة أو تعبير عن الامتعاض من واقع الاحتلال. أسبغ فويتح الذي لم يكن عمره، آنذاك، يتجاوز الثامنة عشرة، لحنا حماسيا على الأغنية وهي عبارة عن قصيدة لشاعر الحمراء محمد بن براهيم، فكان لها وقع كبير على الأنفس والآذان، التي كانت متعطشة لأي تعبير فني يعكس الوضع السائد والموسوم بارتفاع حس الوطنية والرغبة في الانعتاق من نير المستعمر. لم تكن هذه الأغنية هي الأولى للفنان الصاعد محمد فويتح، ولو أنها الأولى التي حملت توقيعه ملحنا ومغنيا، بل سبقتها مجموعة من المحاولات الغنائية، عبارة عن أناشيد حماسية كانت تقدم في مناسبات وطنية مختلفة، سواء في المدارس أو الحفلات العامة والخاصة. كان رصيد فويتح الموسيقي قد تشكل من نشأته في فاس وسط محيط ضاج بالفن والأنغام ومختلف الأشكال الغنائية العصرية والتراثية، إذ رغم المصاعب التي واجهها في حياته بسبب فقدانه المبكر لوالده، ما جعله يتوقف عن الدراسة قبل الأوان، ويتدرج في عدد من المهن والحرف حتى يضمن قوته ويعيل أسرته، فإن كل هذا لم يطمر موهبته وعشقه للفن. اشتغل فويتح، واسمه الحقيقي محمد التدلاوي، في محل لبيع وإصلاح أجهزة الراديو، وهو ما جعله قريبا من عالم الغناء بفضل إدمانه على الاستماع إلى كل ما كانت تجود به الإذاعات من أغان، إضافة إلى أنه كان يغشى مجالس الطرب الأندلسي والملحون بفاس، رفقة صديقه الفنان محمد بوزوبع، حيث تعلم العزف على آلة العود. مبعث السحر في هذا السياق يشير الباحث الموسيقي عبد السلام الخلوفي إلى أن البدايات الأولى للأغنية المغربية العصرية، كانت شرقية الهوى، فبواكير أعمال أحمد البيضاوي وسيدي العباس الخياطي، وكانا عضوين في الجوق الملكي الذي ترأسه المصري مرسي بركات، اشتركا أواسط الأربعينات في تلحين قصيدتين "يا حياة الروح" و"يا حبيب القلب"، وتوالت أعمال البيضاوي في النمط الشرقي نفسه من خلال "يا حبيبي أفق" للشاعر السوري ماهر العطار و"أضحى التنائي" لابن زيدون، ومضى في التوجه نفسه الملحن عبدالوهاب أكومي خاصة وقد أمضى بمصر ثماني سنوات تشبع فيها بأصول الموسيقى الشرقية من خلال دراسته بمعهد فؤاد الأول بالقاهرة. ويقول الخلوفي، في حديث مع "الصباح"، إن الفنان محمد فويتح في بداياته الأولى لحن على النمط نفسه، من خلال قصيدتي "مبعث السحر" و"يا حبيبي ظمأت روحي". وأتيحت لفويتح فرصة السفر إلى فرنسا، نهاية الأربعينات، بعد أن تشبع بتجارب فنية مهمة خاصة مع "جوق الشعاع الفني" بفاس وغيرها من الأجواق الموسيقية. وبالعاصمة الفرنسية باريس، كانت مرحلة جديدة في مسار فويتح، حيث احتك عن قرب بالعديد من الأسماء، منها خاصة بالملاهي الليلية التي اشتغل فيها رفقة الراحل عمر الطنطاوي أو صالح الشرقي، أو في أحد المطاعم في ملكية والد الفنانة وردة الجزائرية، التي كان فويتح من أول مكتشفيها. كما التقى فويتح خلال تلك المرحلة فنانين مشارقة كانوا يترددون على باريس منهم الموسيقار فريد الأطرش والموسيقار محمد عبد الوهاب، الذي استمع لإنتاج الفنان المغربي الشاب، ونصحه بأن يركز أكثر على موروث بلده الأصلي ومخزونه النغمي. وهكذا قرر الفنان محمد فويتح أن يتوجه لاستعمال الإيقاعات الشعبية في أعماله، على غرار ما دشنه الفنان الحسين السلاوي، الذي أبدع أعمالا وثقتها شركة باطي ماركوني بفرنسا، وشركة أخرى بالمغرب بعد عودته، استفاد فيها من روح ما تعلمه في الحلقة وخاصة من رائديها بوجمعة الفروج ومولاي بيه الفيلالي. ومضى الفنان فويتح على نفسه، يؤكد الخلوفي، مستحضرا التجربة التي راكمها في فاس عند اشتغاله مع فرقة التهامي الهاروشي أحد رواد الملحون المغربي، كما وظف كذلك ما تلقاه من دروس الموسيقى الغربية، التي درسها بباريس بعد التحاقه بها، ففاجأنا بأعمال تجمع بين روح تمغربيت، تحس عند الاستماع إليها والاستمتاع بها، بانتمائها بالقوة والفعل للمغرب، وفي الوقت نفسه تجد فكرا وعمقا واضحا في بناء الجمل اللحنية والتمهيدات الموسيقية بين أجزاء الأغنية الواحدة. ملامح "تمغربيت" غنائيا خلال هذه المرحلة، خاصة في النصف الأول من الخمسينات، ستظهر أعمال فويتح مكتملة بحلتها المغربية، التي توجه إليها باقتناع، وبتشبع بروافد موسيقية مختلفة، أغنت رصيده، وتجلت فيها شخصيته الفنية واضحة خاصة من خلال الأغاني التي كانت بمثابة مفتاح شهرته منها رائعة "أومالولو" التي غناها بمناسبة نفي السلطان محمد الخامس إلى جزيرة كورسيكا ثم مدغشقر. وهنا يتوقف الخلوفي عند أغنية "أومالولو" بالتحليل قائلا إن فويتح اختار لها الإيقاع الشعبي المغربي 6/8 ومقام الصبا لكن في حلته المغربية كما يستعمل في بعض العيطات وكذلك في الأطلس المتوسط، وكتب كلماتها بنفسه على شكل حوار بين الملك والشعب، فقال على لسان الراحل محمد الخامس: يا الغادي بي ردني لبلادي ما سخيتشي بها وعييت ما ننادي وعلى لسان الشعب: بيك ما سخينا وقتاش ترجع لينا باش عاد تحلى العيشة لينا ويضيف الخلوفي أنه لا يخفى في النص الذي استعمل فيه فويتح لغة المغاربة اليومية، تأثره بطريقة الملحون في النظم خاصة في نوع "المبيت" والمعتمد على "مرمّات" متعددة أولاها المرمة الثنائية المعتمدة على صدر وعجز، وبلغة أهل الملحون "فراش وغطا". ومضى على النهج نفسه المتشبث بروح "تمغربيت"، في أعمال أخرى كالعمل الذي خص به المغفور له محمد الخامس بعد عودته من المنفى بعنوان "ملي مشيت سيدي": ملي مشيت سيدي/ والنار شاعلة في قليبي راك جيت سيدي/ كي راد بي ربي سيدي محمد يا المير/ بوجلابة حرير اللي ما يبغيك يا المير/ تبقى دارو خالية وكذلك في أغنية: "البركي هواني" الشهيرة بآيلي حياني: آيلي حياني/ وسباب محاني/ عيونو فعياني/ البركي سباني/ البركي هواني/ شفتو فمنامي/ مشى وخلاني/ خلاني نناني بالإضافة لأغنية "هاني هاني يا اللي ناداني" من كلمات محمد حسن الجندي، حيث ظل مخلصا لاختيار الكلمة البسيطة الواضحة لكن العميقة، وعلى صعيد النغم اختار مقام دو الكبير، أي الماجور، بتركيبة نشتم فيها عبقا أندلسيا، ويبدو ذلك بوضوح كبير في الصولو الذي تألق فيه على آلة الكمان الراحل أحمد الشجعي، والذي جاء على طبع الذيل، ويتشابه لحد كبير مع تغطية صنعة أندلسية، في ميزان بطايحي رصد الذيل وهي صنعة "ما نشكي شكية إلا للذي يعلم بحالي" ولحن التغطية التي يقول شعرها: "بالثغر المجوهر" نسمع صداه بجلاء في صولو أحمد الشجعي والذي أبدع تركيبته اللحنية الرائد محمد فويتح. ويتابع الخلوفي أن بنية التلحين الأندلسية نفسها نلمسها في أغنيته "الحبيب اللي والفتو مشى علي" التي اختار لها السلم الكبير، وبتركيبة اللحن الأندلسي نجده يتوقف لمرتين على الدرجة الثالثة “مي” عند غناء كلمة "الحبيب" ومرة ثالثة عند غناء "اللي ولفتو" ثم العودة للدرجة الثانية "ري" عند غناء "مشى علي" قبل الاستقرار على درجة دو عند غناء "يكون غدار". إنها الروح المغربية نفسها عند الرائد محمد فويتح نجدها كذلك في أغنية "لشقر" التي أبدع في تلحين جملها، وظهر فيها بجلاء تكوينه الأكاديمي من خلال تلوينات اللحن، كما نجدها حاضرة في عديد أعمال أخرى. رحيل مكتبة يحكي الفنان والباحث عبد السلام الخلوفي عن علاقته الشخصية بالراحل محمد فويتح قائلا "كان من حظي أن ألتقي مطلع ثمانينات القرن الماضي، مع واحد من الذين وضعوا اللبنة الأولى للأغنية المغربية العصرية، عندما اختار المقام بعاصمة البوغاز طنجة الخير، كان بيته بشاطئ ماربيل يقع في تجمع سكني مطل مباشرة على المتوسط، وكان منتدى فكريا وأدبيا وفنيا مفتوحا، وفيه تعرفت لأول مرة على أساطين الأغنية المغربية، انطلاقا من الطيب لعلج والحاج عبدالهادي بلخياط وعبدالوهاب الدكالي وفتح الله المغاري وأحمد الشجعي والعديد من أفراد الجوق الجهوي لمدينة فاس، خاصة في فصل الصيف، حيث يأتون للاصطياف في مخيم قريب جدا من بيت الراحل محمد فويتح، وبالإضافة لهذا الكم من الفنانين كان بيته مقصدا لمجموعة من الكتاب والرسامين والشعراء، وكانت الليالي في بيته تجمع بين النقاشات الفكرية والأدبية والفنية، وبين الاستمتاع بنوادر الربرتوار المغربي والشرقي. بيت سيدي محمد فويتح العامر، وخاصة في فصل الصيف، لا تتوقف فيه الحركة نهارا ولا ليلا، ولعل الحس الإنساني العالي للهرم محمد فويتح وكرمه الكبير، يجعل كل من يزوره لا يمل من الجلوس إليه ولا من الاستماع إلى كلامه الحكيم، زوجته الفاضلة السيدة غيثة، تجتهد يوميا في إعداد الأطباق التي يفضلها وأصدقاؤه من زواره. عندما يحدثك سيدي محمد فويتح، فما عليك إلا الإصغاء، فالرجل راكم تجربة فنية كبيرة، سواء عند اشتغاله بالمغرب، أو عند انتقاله لباريس، وأذكر ذات حوار مطول أجريته معه أنه بادرني قائلا، وبفرنسية أنيقة: «un vieillard qui meurt est une bibliothèque qui brûle» وكذلك كانت معارف سيدي محمد فويتح، كبيرة ومتشعبة بصفته قارئا نهما، وباللغتين العربية والفرنسية، كما كانت له هواية الرسم ويبهرنا بلوحات جميلة من ريشته".