عراب «لمشاهب» الذي فاض شعرا وأداء حلت في مطلع ماي الجاري الذكرى الثانية والعشرون لرحيل الفنان والشاعر محمد باطما، أحد ركائز مجموعة "لمشاهب". في هذا الخاص تستعيد "الصباح" جوانب من مسار هذا الفنان الاستثنائي الذي طبع حضوره المجموعات الغنائية كتابة وأداء. إعداد: عزيز المجدوب ولد محمد باطما سنة 1952 بمنطقة أولاد اسعيد إحدى قبائل الشاوية، قبل أن تنزح أسرته إلى الدار البيضاء وتستقر بالحي المحمدي، حيث سيتفتح وعيه على محيط ضاج بكل التناقضات: فقر وشهامة وبساطة ومقاومة وأهازيج وتراث شعبي لمغرب مصغر. منذ طفولته انخرط الطفل محمد في العمل الجمعوي، شأنه شأن أخيه الأكبر الراحل العربي، الذي ساهم في تأسيس مجموعة ناس الغيوان سنة 1971، التي قلبت موازين الغناء الكلاسيكي، وشكل ظهورها طفرة نوعية ساهمت في ميلاد ظاهرة المجموعات الغنائية التي سترتكز على ناس الغيوان وجيل جيل جيلالة، ثم لمشاهب وغيرها من المجموعات التي جاءت في ما بعد. اختطت مجموعة "لمشاهب" منذ ظهورها مسارا متفردا، ووظفت آلات موسيقية متعددة لم تكن معروفة آنذاك مثل آلة الموندلين، التي تعتبرها المجموعة العضو السادس في الفرقة، وهي تختلف عن آلة الموندلين الجزائرية (8 أوتار مزدوجة)، إذ أضاف إليها الفنان الشريف لمراني وترا تاسعا يعني "نوتة صول"، وأطلق عليها اسم "موندولين سيل" بهدف خلق توزيع صوتي بين أعضاء المجموعة ينسجم فيه الصوت الفخم والصوت الحاد. وقد احتاجت المجموعة، التي شكلت بمفردها ظاهرة خاصة، ما يقارب أربع سنوات قبل أن تتشكل نهائيا وتنطلق في نحت اسمها في عالم الفن والشهرة. تشكلت نواة مجموعة "لمشاهب" من أعضاء مؤسسين أبرزهم الأخوان محمد واحميدة الباهري وسعيدة بيروك القادمون من تجربة "طيور الغربة" إضافة إلى الشريف لمراني، قبل أن تتعزز بأسماء أخرى. ظهرت حاجة "لمشاهب" إلى صوت جهوري، يحقق نوعا من التوازن، داخل المجموعة التي كانت كل أصواتها حادة ومتشابهة إلى حد ما، وهو الأمر الذي أرق الشريف لمراني، إذ ظل يبحث عن الحل من أجل ضخ دماء جديدة في المجموعة، وإعطائها ذلك النفس الذي يضمن لها الاستمرارية، ويمنحها القوة لمنافسة باقي المجموعات. وكان الفنان محمد باطما يرغب في الالتحاق بجيل جلالة الواعدة، إلا أن شقيقه العربي باطما، مؤسس ناس الغيوان، كان يدرك بحدسه الفني أن مؤهلات محمد الصوتية الرفيعة ستعطي المجموعة دفعة قوية، لذلك لم يكن متحمسا لهذا الاختيار، فقدر له أن يكون "مشاهبيا". لعبت الصدفة دورا كبيرا في تحقيق هذا الحلم، ففي 1973، وبعد مدة قليلة من تكوين لمشاهب، سيلتحق محمد باطما قادما من مجموعة "تكدة"، وسيشكل انضمامه إضافة جديدة، إذ نجح في خلق ذلك التوازن المفقود، من خلال صوته الجهوري القوي وكلماته وألحانه، التي زرعت دماء جديدة في أوصال المجموعة، وسرعان ما اندمج مع باقي العناصر، وحقق مع المجموعة نجاحا كبيرا. تمكن باطما، بمساعدة باقي أعضاء المجموعة، من صقل موهبته، قبل أن يترسخ في الأذهان باعتباره دعامة أساسية للمشاهب، وعلامة مميزة في تاريخ المجموعات الغنائية، ومنذ سنة 1973، ستعرف الفرقة مجموعة من التحولات في طريقة الغناء، ونوعية الأغاني التي تؤديها، كما ستعرف قدوم وافدين جدد، خصوصا بعد انسحاب الأخوين الباهيري، اللذين سيعوضهما كل من مبارك الشاذلي، وصاحب الصوت المتميز، محمد السوسدي، القادم من معقل المجموعات، الحي المحمدي. حققت مجموعة لمشاهب بالتحاق محمد باطما، الذي منحها صوته وألحانه وكلماته، نجاحا كبيرا، مكنه من البقاء في المجموعة، وكانت أول أغنية سيسجلها، أغنية "أمانة"، التي يقول مطلعها: بين الكديات كان الميعاد يسترنا الليل و قدر الله وسط الواد.. حسينا بالخديعة وما منا هراب.. وتمة كانت لفجيعة يعتبر منتصف السبعينات منعطفا في تاريخ المجموعة، حيث التصقت بذاكرة الجمهور، ليس فقط من خلال أعمالها، بل حتى من خلال شكلها ولباسها (رمز الشهب). ويعتبر الشريف لمراني مهندس ومصمم هذا النوع من اللباس بفضل حسه الفني، فهو من اقترح وضع وطريقة وقوف المجموعة على الخشبة على شكل نصف دائرة، وهي طريقة مدروسة تسمح لكل عضو فيها أن يرى زملاءه وهذا الشكل يضفي جمالية على حضور المجموعة. والتحق بالمجموعة في هذه المرحلة كل من مبارك الشاذلي ومحمد السوسدي فأصبحت الفرقة تضم خمسة أشخاص، وكانت الانطلاقة الثانية بأول أغنية للشاذلي وهي رائعة "حب الرمان" التي يقول مطلعها: "هذا حب الرمان تساس فالخريف/ هذا عود عطشان وقرب يجيف". ارتبط محمد باطما بالفنانة سعيدة بيروك زميلته في المجموعة، واقترنا كفنانين وزوجين، رغم خروج بيروك من المجموعة فترة قصيرة بعد زواجهما أو بمجرد وضعها ابنهما الأول طارق الذي سيدخل المجال الفني في ما بعد، رفقة شقيقته خنساء. طيلة مساره الفني كان الراحل محمد باطما، كاتب كلمات، وزجالا من الطراز الكبير، بشهادة أخيه، وأحد مؤسسي مجموعة ناس الغيوان، الراحل العربي باطما، الذي قال عنه "أشهد أن محمدا أزجل مني". اعتمد باطما لغة بسيطة شعبية وألحانا رائعة مستمدة من أصالة التراث الموسيقي المغربي الغني بمقاماته المختلفة. واستطاع بحنكة متميزة مزج كل هذه الخصائص الفريدة في صوته المتميز ببحة نادرة، لطالما عبرت عن آلامه وآماله. وتعكس النصوص التي تحمل توقيع محمد باطما طبيعة إسهامه في تجربة "لمشاهب" كتابة وتلحينا وأداء، منها "خليلي" و"الخيالة" و"فلسطين" و"آجي نتسامحو" و"أنا مع همومي" و"هلا صبرتي يا شراع" و"يوم كنتي معايا" و"طبايع الناس" و"الغادي بعيد" وغيرها. كما تعكس علاقته بمجموعة "مسناوة" مزاجا غنائيا وشعريا آخر لمحمد باطما، الذي رأى في المجموعة التي كانت تضم شقيقين له هما رشيد وحميد باطما، امتدادا لروح البداوة العميقة التي ظلت تسكنه منذ طفولته البعيدة في سهول الشاوية، فمدّ المجموعة بنصوص منحتها دفعة خاصة منها "حمادي" و"عودي لزرك" و"رجوع حمادي" و"النسر"، فضلا عن أغان عاطفية رفيعة مثل "إيلا جيتي على غفلة" و"حبك خفاف" وغيرها. عاش محمد باطما مختلف الهزات التي اعترت تجربة "لمشاهب" وحالات الفراق والعود التي تخللتها بين الفينة والأخرى، وظل دائما مسكونا بالحلم والأمل في أن تعود إلى سابق توهجها، وزمن الجولات الفنية التي قادت أفرادها إلى مختلف ربوع العالم، حيث يوجد الجمهور "لمشاهبي" الذي ظل وفيا لمزاج المجموعة وهواها الغنائي. عانى محمد باطما في سنواته الأخيرة وطأة الداء والمشاكل التي أحاطت بالمجموعة التي ظلت تقاوم من أجل العودة ولمّ شتات أفرادها، قبل أن يختطفه الموت يوم 7 ماي 2001، تاركا خلفه إرثا فنيا ما زالت تعيش على ضفافه الأجيال. حكاية اسمها "خليلي" تحكي الفنانة سعيدة بيروك، طليقة الفنان الراحل، عن ظروف ميلاد أغنية "خليلي" قائلة إنها ولدت في لحظة خصام عائلي بينها وبين محمد باطما، أثناء سفرهما ذات مرة إلى الصويرة، إذ اكتشفا اختفاء حقيبة صغيرة بها وثائق ومعدات ثمينة، فشرعا في تراشق المسؤولية فيما بينهما قبل أن يحتد الخلاف بينهما حد التهديد بالطلاق. وتضيف بيروك، في حديث مع "الصباح"، أن باطما تركها في غرفة الفندق وخرج، قبل أن يلتقي الراحل السعيد الصديقي الشهير ب"عزيزي" وهو شقيق الفنان الطيب الصديقي، فحكى له ما وقع، فأقسم "عزيزي" على نفسه أن يصلح ذات البين بينهما، فطلب منه أن يستقدمها إلى المقهى الذي كانا يجلسان فيه. وتتابع بيروك أن "عزيزي" عاتبهما على تصرفهما خاصة أنهما كانا شابين في مقتبل العمر، فكتب على ورقة مقطعا شعريا جاء فيه "خليلي علاش تعاديني/ تهجرني وتخلي لي رسامية خالية" فسلمها إلى باطما هدية له، وقال له "هذا مطلع أغنية أهديها لكما بمناسبة الصلح"، فاشتغل عليها باطما وأكمل نص الأغنية في الليلة نفسها، قبل أن تظهر بعد سنوات بالصيغة التي يعرفها بها الجمهور، والتأويلات التي منحت لها، خاصة أن مقطعها الأخير كانت فيه إشارة صريحة للزعيم الصيني ماوتسي تونغ، قبل أن يتم حذفه، وهكذا كان ميلاد هذه الأغنية في ظروف عاطفية، قبل أن تتخذ منحى سياسيا. دهشة الصورة الشعرية في تقديمه لديوان محمد باطما الذي جمعت فيه النصوص التي كتبها لمجموعة "لمشاهب" تحت عنوان "هاك شرابك يا صهيون"، كتب الباحث والزجال علي مفتاح أن الراحل كان يكتب "بقلب إنسان غارق في قضايا الإنسان، تسكنه التفاصيل الدقيقة للمواقف والمشاهد الإنسانية. يستقرئ بالكلمة عمق المشاهد التي يصادفها كل يوم، فيختلي بنفسه في أقصى ركن من الليل، باحثا عن دهشة الصورة الشعرية والنغمة الراقية، يلتقط المشهد تلو الآخر. ينصهر في طقوس الكتابة بانفعال المصور عندما تداهمه المشاهد بكل حمولاتها الانفعالية، أو بحكمة فيلسوف يمشي عاريا بين دروب اللغة ومتاهات الفكر فتكسوه بتأملاتها الفكرية والوجدانية". ويضيف مفتاح "لم يكن محمد باطما يكتب القصيدة بل هي التي كانت تكتبه. كان يفرد لها جناح التحليق بداخله، تستقرئ نبضات قلبه، وتنسلّ إلى أقصى ركن من روحه، تداعبها وتستميلها إلى عوالم التوحد بالوجود الكائن وكائن الوجود.