في ذكرى رحيل «شيخ المسرحيين» الذي قاوم بالمسرح ورافع به ضد أعطاب المجتمع حلت أخيرا الذكرى الأولى لرحيل شيخ المسرحيين المغاربة الفنان الراحل عبد القادر البدوي، الذي رحل في 28 يناير من السنة الماضية، وهو يستعد للاحتفال بذكرى مرور سبعين سنة على ميلاد تجربة مسرحية طبعت التاريخ الفني للمغرب، وعاصرت وواجهت مختلف التحولات التي عاشها المغرب، لتقدم للأجيال ريبرتوارا فنيا متنوعا ظل يقاوم من أجل البقاء وعدم الاستسلام لكل المؤثرات التي حاولت أن تزيحه عن المبادئ التي تأسس عليها والاختيارات الفنية التي ارتضاها لنفسه. في هذا الخاص تستعيد معكم "الصباح" محطات من مسار فنان استثنائي. إعداد: عزيز المجدوب في البدء كان الاسم الفرد قبل أن يصير دالا على تجربة تربى فيها الكثير من المبدعين الذين طبعوا فن التمثيل المسرحي. يتعلق الأمر بالفنان عبد القادر البدوي هذا الاسم الذي لا يذكر المسرح المغربي إلا مقرونا به إلى جانب عدد من الأسماء الرائدة التي ساهمت في تشكيل اللبنات الأولى للحركة المسرحية المغربية، فتتحول تجربة "مسرح البدوي" إلى إطار فني يتجاوز مبدعه ويعلو عليه ويغدو مجموعة من القيم والمبادئ التي أسست لهذه التجربة وسار على نهجها كل من مر منها أو رضع من ثديها عشق أبي الفنون. تجربة "مسرح البدوي" التي تجاوزت العقد السابع على انطلاقها، تختزل توجها مسرحيا قائم الذات، تجاور إلى جانب توجهات ومدارس أخرى ساهمت في خلق التعدد والتنوع الذي طبع التجارب المغربية. إلا أن ما ميز تجربة مسرح البدوي هو انطباعها بشخصية مؤسسها عبد القادر البدوي الذي تربى في أسرة محافظة تشبع فيها بالحماس الوطني الذي كان سائدا في أوساط شباب تلك المرحلة خاصة ممن نشؤوا في حي درب السلطان العريق بالدار البيضاء، وهو ما جعل جل مواضيع مسرحيات البدوي في ما بعد تظل وفية للمثل العليا والقيم المجتمعية المحافظة مع مسحة من النقد اللاذع التي اكتسبها بفضل انخراط عبد القادر البدوي في الحركية النضالية والسياسية والاجتماعية التي طبعت مغرب ما بعد الاستقلال. ورغم أن نشأة عبد القادر البدوي كانت بدرب السلطان، إلا أن الأقدار شاءت أن تكون ولادته بطنجة سنة 1934، حيث سافرت والدته عندما كانت حاملا به إلى عائلتها حتى يتسنى لها أن تلد بيسر هناك محاطة بالعناية، قبل أن تعود مجددا إلى البيضاء. درب السلطان.... البداية هكذا ترعرع الطفل عبد القادر بين حي الأحباس ودرب اليهودي وهناك تلقى مبادئ تعليمه الاولي ممزوجا بتعلق غريب بالشعر وكل ما يمت بصلة للثقافة، خاصة أن مجال درب السلطان كان حينها حيويا ومؤثثا بالعديد من الأنشطة الثقافية والفنية والرياضية التي كانت صيغة من صيغ مقاومة المستعمر. والطريف أن عبد القادر البدوي بدأ حياته ممارسا لكرة القدم إذ تدرج في العديد من الفرق منها "الراك" قبل أن يغير الوجهة في اتجاه المسرح، وفي الوقت نفسه التحق موظفا بشركة التبغ، وهناك أسس فرقة مسرحية عمالية سنة 1952 سماها "أشبال العمال" تحت إشراف الاتحاد المغربي للشغل، كما ألف خلال تلك المرحلة أولى مسرحياته على خلفية اغتيال الزعيم النقابي التونسي فرحات حشاد، بعنوان "البياعة ما تشوفو رسول الله" أدت إلى اعتقاله رفقة أعضاء فرقته المسرحية. وبعد الإفراج عنه وحصول المغرب على الاستقلال أسس فرقة "العهد الجديد" وقدمت العديد من العروض المسرحية منها "في سبيل التاج" كما ألف العديد من المسرحيات الأخرى خلال تأسيس الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الذي كانت تربطه بقيادته علاقة وطيدة’ منها مسرحية "التطهير" وغيرها. وعايش البدوي في فجر الاستقلال العديد من الأحداث الثقافية المهمة في تاريخ المغرب، إذ كان ضمن لجنة من المبدعين المغاربة الذين تكلفوا باستقبال الأديب والمفكر طه حسين خلال زيارة له للمغرب سنة 1957، وسنة بعد ذلك حلت الفرقة المصرية للمسرح برئاسة الفنان يوسف وهبي بالمغرب، لتقديم عروض مسرحية، فأسند وهبي للبدوي دورين في مسرحيتي "راسبوتين" و"أولاد الشوارع". كما شارك في 1958 في المهرجان الدولي مع الفرقة الوطنية المغربية بمسرح الأمم بفرنسا، وبالمسرح الدولي ببلجيكا، واستفاد من تدريب مسرحي في مهرجان "أفينيون" بفرنسا. وفي 1959 دعت الحكومة المغربية فرقة جبهة التحرير الوطني الجزائرية، لتقديم بعض أعمالها ضمن جولة في أهم المدن المغربية، وتم تكليف الفنان عبد القادر البدوي بمصاحبة الفرقة طيلة جولاتها، وتقديمها إلى الجمهور المغربي، مما وطد العلاقة بين المسرح الجزائري وفرقة البدوي في ما بعد. وخاض البدوي تجارب سينمائية منذ نهاية الخمسينات خاصة مع الراحل محمد عصفور، وفي 1962 شارك في الفيلم العالمي "لورنس العرب"، كما شارك في أعمال أخرى من توقيع المخرج المغربي الراحل عبد الله المصباحي، أشهرها فيلم "الصمت.. اتجاه ممنوع". ملامح مسرح في كتابه "المسرح في المغرب" يتوقف الباحث عبد الواحد عوزري عند التجربة المسرحية للفنان عبد القادر البدوي معتبرا إياه "رجلا متعدد التخصصات، فهو مؤلف ومقتبس ومخرج وممثل ومدير فرقة". وأضاف أن البدوي "انخرط في التوجه نفسه الذي كان يسير عليه كل المسرح الهاوي في المغرب، رابطا بين النزعة الوطنية والمعارضة السياسية والاجتماعية، وكان دائما يستعمل المسرح أداة في الصراع من أجل الاستقلال، ثم في ما بعد، منبرا للمطالبة والمعارضة، والدفاع عن حقوق المضطهدين، وهو ما تعكسه بعض عناوين مسرحياته "العامل المطرود" و"ضحايا الظلم" و"نضال العمال" و"العاطلون"...". ودخلت فرقة البدوي مرحلة الاحتراف ابتداء من منتصف الستينات، بتأثير من الأخ الأصغر عبد الرزاق البدوي، الذي ضخ نفسا جديدا في المسرحيات التي كانت تقدمها الفرقة، من حيث الإخراج والتشخيص. وتجربة فرقة البدوي، حسب عوزري، متولدة عن الحركة الوطنية، كما تأثرت بالمسرح العربي، خاصة المصري، وكانت تقدم عروضها باعتبارها مرافعة ضد كل الأمراض الاجتماعية التي تنخر المجتمع، وكان ذلك يتم عادة بطريقة مباشرة، في شكل خطاب سياسي، وهو أمر متوقع، يضيف عوزري، من فرقة سبق لها أن عملت في إطار نقابة عمالية (الاتحاد المغربي للشغل)، لهذا قدمت بعض الأعمال التي تضمنت جرعة من التوعية والتحسيس في أوساط العمال خاصة في مطلع الستينات. ريبرتوار متنوع يتكون ريبرتوار فرقة البدوي من بعض المسرحيات العربية المقتبسة، خاصة لتوفيق الحكيم، وبعض الاقتباسات من المسرح الغربي مثل "المثري النبيل" و"جورج داندان" و"البخيل" و"تارتوف" لموليير، و"مضار التبغ" و"طلب زواج" و"الدب" لتشيخوف، و"القاعدة والاستثناء" لبرتولد بريخت، و"المصيدة" لبيرانديللو، و"الحالمات" لإيدمون روستان، و"الليالي البيضاء" لدوستويفسكي، و"المترافعون" لراسين، و"رحلة السيد بيرشون" للابيش و"فولبون" لبن جونسون. وإضافة إلى الريبرتوار المقتبس هناك مسرحيات ألفها عبد القادر البدوي، إذ قدمت الفرقة ما يقارب 60 عرضا للكبار ما بين التأليف والاقتباس، منها ما هو مشترك مع شقيقه عبد الرزاق البدوي ومنها ما هو من تأليف الراحل مصطفى التومي، فضلا عن عشرات العروض المسرحية الموجهة للأطفال والعديد من المسرحيات الإذاعية والمسلسلات التلفزيونية. مشتل مسرحي رغم أن تجربة مسرح البدوي اتسمت بنوع من البنية العائلية، لكنها في المقابل ضمت ممثلين وممثلات ارتبطوا بشكل قار مع التجربة منهم سعاد هناوي وعائشة ساجد ونعيمة إلياس وعبد الله خليفة وسعيد الهلالي وإبراهيم بوبكدي. كما مر من التجربة ممثلون وممثلات، قبل انتقالهم إلى فرق أخرى مثل مصطفى التومي ونعيمة المشرقي ومحمد الحبشي وأحمد الناجي ومحمد مفتاح ومحمد التسولي ومحمد مجد ومحمد الخلفي وعبد الله الشاكري وأمينة بركات وعبد الرحيم إسحاق، كما مر جيل آخر أمثال مصطفى حقيق وعلاء الدين الحواص ثم أبناء عبد القادر البدوي حسناء ومحسن وكريمة الذين أضافوا للتجربة لمسة متجددة. مسرح القرب في كلمة لها نهاية الأسبوع الماضي، ضمن احتفالية خاصة برحيل الفنان عبد القادر البدوي بالبيضاء، قدمت ابنته حسناء البدوي كلمة في حق والدها مما جاء فيها أن الراحل "ناضل من أجل دمقرطة الثقافة وكسر سياج التهميش الثقافي عن سكان القرى والجبال من الفلاحين حيث عرض مسرحياته، ونذكر منها مشهدا في السبعينات بأيت ملول بإقليم آكادير إذ لم تكن تتوفر على قاعة عروض أو مسرح، فحول أحد مخازن البرتقال بها إلى فضاء مسرحي قدم به أحد عروضه المسرحية الناجحة مسرحية" اوليدات الزنقة". كما قدم مسرحه لجمهور عمال المناجم بمختلف جهات المملكة، وحول أيضا المناجم إلى فضاء ثقافي ومسرحي، بالإضافة إلى تطوعه بدون مقابل مادي، من أجل تقديم عروض مسرحية لفائدة قواتنا المسلحة الملكية في مطلع السبعينات بصحرائنا المغربية وحول شاحنات الجيش الكبيرة إلى منصة مسرحية وسط الصحراء." وأضافت حسناء "أسس عبدالقادر البدوي لمسرح الطفل وللمسرح المدرسي وقدم عروضه المسرحية في مختلف المدارس العمومية والثانويات، كما يرجع له الفضل في التأسيس لمسرح الطالب بتأطير من الاتحاد الوطني لطلبة المغرب وبعد ذلك ساهم في التأسيس للمسرح الجامعي، ودعم بشكل كبير مسرح الهواة عبر الورشات الفنية والمسرحية وعبر الندوات الفكرية التي كان يقدمها مجانا في مختلف دور الشباب بالمغرب والتي ساهمت بشكل كبير في تشكل وجدان ووعي شباب الستينات والسبعينات والثمانينات".